أمشي في الشوارع خائفة، الوجه مغمور بالدموع، لا أعرف
إلى أين أتجه. هذا الصباح، قررت أن أهرب. في ركن الشارع، وفي طرفة عين، التهمت
حلوى "الكرواسون" واحتسيت عبوة الحليب التي كلفتني "لالا"
بشرائها كما العادة. هذه هي المرة الأولى، منذ عشر سنوات، التي أتحصل فيها على لذة
إفطار كامل.
لدى العجوز، لم يكن من حقي سوى الخبز البائت وكوب من
الشاي الأخضر البارد وبلا نعناع: "من الحرام أن يفسد الخبز"، تقول لي
دائماً. أقيس رصانة أفعالي ونتائجها، غير أنني لم أصل إلى قرار أتخذه، من الصحيح
ودون أي تردد. لا شيء يعيدني الآن إلى ما يشفي غليلي. على العكس، أعمل نصف دورة
وأدلف إلى المسكن لكي أتعرض لعقوبات رهيبة: التهمت بشراهة حلوى
"الكرواسون" واحتسيت حليباً طازجاً، ماذا أفعل لكي أضعف من غضب سيدتي؟
أتخيل وجهها حينما يطول غيابي، وتضطر بمفردها أن تنجز جميع الأعمال المنزلية.
رأسها الحزين يثير شفقتي. لكنني، الآن، خطوت الخطوة الأولى نحو الحرية، ليس هناك
مجال للتراجع. وقتئذ يتأكد غيابي، ولن تتأخر في إخطار زوجها المكرش المرعب.
سيبحثان عني في جميع الأنحاء وسيخبران، بعد ذاك، عائلتي البائسة، إذا لم تنجح
مساعيهما. بعد تفكير عميق، أسخر مما سيجرى لوالدي: لم يكن قادراً على وضعي في ظروف
حياتية أفضل في العالم! بالنسبة لسيدتي، كنت قلقها الأخير. تعد سبب آلامي كلها.
أسمع الآن تأوهات عزائها وألاحظ تعبيرات الفرح التي تحرك وجهها الشرس.
حينما
أغسل الصحون، أفكر في "شمهورش". كان جنوناً لطيفاً، حلماً غريباً منبعثاً
من السحر، وقعت على جن ماكر! على سبيل المثال، بدلاً من أن يحولني إلى نجمة تهتم
براحتها السنوية، جعلني وصيفة في فندق راق، بمدينة سياحية. أذكر الأحرف المنقوشة
على المدخل النحاسي التي لا أعرف فك رموزها، لكنني أعرف أنها تعني فندق. هذه
الأحرف التي مسحتها كثيراً كي تلمع تبدت لي حقيقية! في الصالات قابلت يومياً
سائحين يحيونني، يلقون إلي بتحية "صباح الخير" بنغمات لغاتهم المستحبة.
أجيبهم بلغتي في تهذيب لا أجده شجياً. يهديني البعض بقشيشاً بابتسامة جميلة. كان
أغلبهم من الشرقيين. آه. الشرقيون.
كسرت
كوباً فأنشأت أجمع بسرعة الحطام قبل قدوم "لالا" إلى المطبخ. أخفيته بين
جوالات الأرز والدقيق، منتظرة اللحظة المناسبة لإلقائه في المزبلة. بعد لحظة خوف،
هدأت، فكرت في الشرقي ذي النظرة الذابلة التي تفحصتني، ومدحت شعري. احمرت وجنتي،
قدم نفسه إلي كملحن مشهور ورجاني أن أعطيه بعضاً من وقتي. جعلني أغني أغاني وردة
التي أجيد تقليدها بدقة. مندهشاً، دعاني لزيارته في الصباح نفسه، في جناحه الرائع
حتى أغني له بعض الأغاني الخالدة. وعدني أن يقذف بي إلى عالم الغناء، إذ إنني، كما
قال، أملك صوتاً رائعاً مثل خرير المياه. استمررت في تنظيف الغرفة الفاخرة، مدندنة
بلازمات عدة، لكي دون شك، أتدرب على الاختبار المقبل. رأيت نفسي، آنئذ، على ملصقات
حوائط المدينة بأسرها: "قريبا، المغنية الشهيرة هدى بنت طامو"، لا، يجب
أن أجد اسم شهرة أكثر أناقة عن هذا الاسم المألوف الذي التصق بجلدي! سقطت في زوبعة
حديدية من الأحلام العاطفية.
حريتي.
في البداية فتحت لي ذراعيها في شوارع المدينة القديمة. لكي أعيش، تسولت صحن
فاصوليا من هنا، صحن حساء الحريرة من هناك. يا للسعادة التي تملكتني! حينما تعطيني
عيشة، بائعة الأعشاب النادرة التي (تفرح النساء)، ثوباً أو ثوبين من أطفالها!
حينذاك أغير من سرعتي عند دكانها، تاركة أسمالي، وأذهب.
أنفق
ثروتي القليلة عند بائع المحارات المسلوقة. أعرف أن السعادة تقيم في هذه اللذات
البسيطة التي أمتلكها دون حيرة. لكن الحياة ليست دائماً وردية كما أعتقدها. يجب أن
أصارع يومياً، أحصر رأسي في هذه الغابة التي أتواجد فيها بين الكلاب والذئاب،
أتجنب دوماً التفتيش على الهوية. عيشة لا تستطيع أن تفعل شيئاً لي في هذه الظروف،
تهتم برواج تجارتها. متأخراً، عرفت أي تجارة تمارسها.
قابلت
فتيات يرقصن في "مقهى بغداد" المشبوه، تحت أعين منتفخة لخرق إنسانية
واقفة بصعوبة أصابتني رائحة أنفاسهم النتنة بالغثيان طوال أيام وليال عديدة. حينما
غاب هذا الغثيان عني بعد ثلاثة أشهر، وجدت بطني تنتفخ تحت بصري. هذا ما جرى! سوف
أضع سفاحاً في العالم، متشرداً مستقبلياً. يا إلهي، فكرت في والدي الذي عمل على
وضعي في العالم دون روية.
دون
رقة ودون تعويض، ألقى مالك المقهى بي إلى الخارج. تسكعت لأسابيع على أرصفة زنقتي
قبل أن أنجب فتاة تخليت عنها للأخوات بالملجأ بلا أسف. تتابعني صرختها الأولى
أحيانا في هذا المطعم البائس حيث أعد الوجبات الفقيرة للمضاربين الصغار. في منتصف
الليل، يرحل آخر الزبائن، أتخلص من الأطعمة النتنة، وأبتلع الباقي بسرعة.
أذكر
مشاهد مماثلة لهذه المشاهد عشتها مع أسيادي السابقين، الذين كانوا يلقون فضلات
طعامهم إلي. رغم محنتي، لا آسف على تركي من أسميها "لالا" تستطيع الحاجة
بتول أن تجري طوال العمر كي تجدني الآن! قلت لنفسي برضا وسرور. ضحكت حتى اهتزت
حوائط الصالة الخالية فجأة، وسط دخان كثيف، خرج عفريت مرتدياً عمامة على رأسه. قال
لي: "اطلبي وأنفذ أوامرك، يا هدى بنت طامو". ارتجفت خوفاً، وقلت: بسم
الله الرحمن الرحيم" لكي أطرد هذا الرعب، امري واستجيب لرغباتك، أقول لك!
اسمي شمهورش، أنا روح طيبة، لا تخافي! في الواقع، كانت سحنة الجن طيبة. ممتلئ
الخدين وسمينا، ذا ضحكة غليظة وأبوية. استعدت الثقة وطلبت دون أن أفكر: "أريد
أن أرى عالماً جميلاً، أشم رائحة الأوراق النقدية الجديدة. احملني إلى أجمل فنادق
البلد. أريد أن أرى حياة جميلة! إنزعج شمهورش، وتضايق: "هل تشكين في قدراتي؟
أهذه هي رغبتك الثمينة؟ ثم أمام عنادي وجدية رغبتي ضايقني: سأكون عاطلاً عن العمل
إذا كان الجميع مثلك استطيع القول إنك تكتفي بالقليل، لكن ما دامت تلك هي رغبتك..
لا أستطيع أن أرفضها. يرحل بضحكة شيطانية ويختفي.
استغل
شمهورش سذاجتي، مع ذلك، لا أسف على اختياري، فالسعادة نسبية، محمود سيجعل مني نجمة،
أغني بالمصرية في دول الخليج، لأنطق "الجيم" بدلاً من "الجيم"
في رحلاتي المتعددة إلى الخارج، لأنخطف أمام روعة: "يا سلام!". سوف أرسم
رسمات سعيدة لشفتي بالأحمر المستورد خصيصاً من لندن لي، سوف أترك نفسي أمام عدسات
الصحفيين.
الباب
النحاسي للفندق ينغلق على هذا الأمريكي، الذي صفق لحكايتي قائلا "مشوقة
للغاية" لكي يحقق فيلماً منها. الكلمات تخرج بسرعة من فمي لكنه لم يسمعها. لم
تكن كلماتي سوى تأوهات، همسات وهمهمات الألم.
ضربات
غير متوقعة بالمكنسة تتوالى على جنبي الأيمن فالأيسر، أفتح عيني، الأعضاء تتعبني،
الرأس مطنطنة بأحلام وأفكار مختلفة. مهددة، لالا بتول واقفة على جسدي، ساخطة:
انهضي يا كسولة! مازال الوقت السادسة، إفطار سيدك لم يجهز بعد، انت تبحثين عن
طلاقي كي تحلي محلي، أيتها الكسولة الصغيرة! أعرفكن! كافرات بالنعمة، هيا، انهضي،
أسرعي. ضربة أخرى من المكنسة على صدري، هذه المرة، تنتزع نواحاً مني. لالا تجذبني
من شعري: وقحة أيضا! هيه؟ لن تفقدي شيئاً! انتظري حتى يخرج سيدك!، قالت لي في غضب.
بيدها، كممتني وأضافت: لا أريد أن أسمع شهيقك حتى تجذبي الانتباه إليك! هيا
بسرعة!! اشتر دلوتين من الكرواسون وحليباً. لا تفعليي مثل الأمس، إياك! راجعي باقي
النقود! وعجلي بالعودة، الأطباق المتسخة في إنتظارك!.
المصدر:
أحمد عثمان (تأليف: نادية شفيق)
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق