الآمدي
أَحْبَبْتُ القراءةَ واقتناء الكتب من أبي... فكثيرًا ما صحبني لِشرائها... فأنا لا أنسى أوّل مرّة ذهبت معه إلى سوق الكتب بوسط المدينة، حيث اتّجه بي صوب مكتبة قديمة البناء والأثاث.
وبالداخل
أثار انتباهي أن صاحب المكتبة ويُدعى العمّ صالح، يرتدي نظّارة شمسية دونما الحاجة
إليها، ولكني عرفت السبب، حينما رأيته يقوم من مقعده متّجهًا صوب رفوف الكتب ليحضر
لأبي كتابًا يريد شراءه، وهو يمدّ ذراعيه، تاركًا أصابعه تتحسّس الطريق، ولَشدّ ما
كانت دهشتي وأنا أكتشف أنه من ذوي الهمم، فاقدِي البصر!... إذ كيف لمثله العمل في مهنة
تحتاج إلى مُبْصِرٍ يرى الكتب، ويعرف ثمنها؟!
للإجابة
على سؤالي هذا، أخذت أراقب باستغراب العمّ (صالح)، وقد استقرّت أصابع يمناه على رفٍّ
ما، وبسرعة راحت تتحسّس كعوب الكتب، وبِلا تردّد توقّفتْ على كتاب بِعينه، أخرجه وأعطاه
لأبي، وهنا زادت دهشتي! ليس فقط لِعثوره على الكتاب المطلوب بكل سهولة، بل لأنه أيضًا
وبمجرّد تمرير أصابع يده عليه، استطاع معرفة عنوانه واسم مؤلفه وعدد صفحاته... كيف
حدث ذلك؟!
سؤال
سألته لأبي عقب خروجنا من المكتبة، فأجابني: السؤال نفسه دار في عقلي، وأنا أرى لِأوّل
مرّة العمّ (صالح) أثناء بيعه الكتب، ولكني خجلت من سؤاله، وفضّلت معرفة الإجابة بنفسي...
وقد كان.
بلهفة
سألته: كيف يا أبي؟
وقبل
أن يجيب، نظر خلفه، مشيرًا صوب لافتة المكتبة وقال: الإجابة وجدتها في الاسم المدوّن
على هذا اللافتة... نظرت مثله ثم قرأت اللافتة: (مكتبة زين الدين الآمدي)، وسرعان ما
سألت أبي:
من
هذا الآمدي؟ وما علاقته بإجابة سؤالي؟
أجابني:
إنه أوّل مَن قرأ بأصابعه!
سألته
مشدوهًا(مندهشًا) وأنا أحدّق في أصابعي: كيف لتلك الأصابع أن تقرأ يا أبي؟
أجاب
وهو يكمل بي الطريق: إذا أردت أن تعرف فاستمع إلى قصة الآمدي.
أنصَتُّ إليه وهو يروي القصة
قائلًا:
عاش
زين الدين الآمدي في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري ببغداد، وهو من
علمائها، أُصيب منذ نعومة أظفاره بالعمى، ورغم ذلك لم يستسلم؛ إذ درس على أيدي العلماء
والشيوخ، وبجانب ذلك عمل تاجرًا للكتب، ولكي يعرف الآمدي عناوين هذه الكتب وأسماء مؤلّفيها
وأثمانها اخترع لها طريقة الكتابة البارزة، وذلك بِلَصق حروفٍ مصنوعة من ورق مقوّى
في صورة كلمات، حسب ترتيب حروف كل كلمة، على كعوب أو أغلفة ما يبيع من كتب، وعن طريق
اللمس بالأصابع يدرك بيانات هذه الكتب... وقد استخدم هذه الطريقة في تعليم الصِّبية
فاقدي البصر ببغداد، القراءة للحروف والكلمات.
قلت
لأبي بنبرةٍ واثقة: إذن العم صالح يفعل مثل الآمدي.
هزّ
أبي رأسه مؤكّدًا: نعم يا بنيّ؛ ولذلك يُعدّ الآمدي أوّل مَن قرأ بأصابعه، لأنه المبتكِر
الأوّل للحروف البارزة التي يقرأ بها العميان، وذلك قبل اختراع الفرنسي (لويس برايل)
لطريقته بنحو ستمائة عام.
وفي
نهاية الطريق شكرت أبي لأنه كشف لي أن للأصابع استخدامات أخرى غير اللمس ومسك الأشياء.
والآن
كلما زرت سوق الكتب، لابد لي من المرور على مكتبة العم صالح؛ وتذكُّر أوّل رجل قرأ
بأصابعه.
٭ يتمّ الاحتفال باليوم العالمي لِـ (برايل) في 4
يناير من كل عام، وهذا التاريخ يوافق يوم ميلاد لويس برايل عام 1809،
مخترع الكتابة بطريقة برايل، وهي نظام كتابة وقراءة عالمي يستخدمه الأشخاص فاقدو البصر،
وتكون بتمرير الأصابع على حروف مكتوبة بِنتوءات بارزة، وقد تمّ تبنّي هذا النظام تقريبًا
في كل اللغات المعروفة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
كيف تُعَلمين طفلك التحدث
أمام الجمهور
قصة للأطفال: إمبراطور بأذنيّ تيس
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق