التاجر الصغير
كنت أُراقِبُ أبي وأنا صغير وهوَ يأتي بِالصّوفِ المُلوِّنِ ويَغزِلُهُ باستخدام النّوْلِ أياما وليالي طويلةٍ حتّى يُفاجِئنا بِقِطعةٍ فنّيّةً رائِعةً مِن الكليمِ، في ليالي الشِّتاءِ البارِدةِ والطّويلةِ تأتينا أُمّي بِصِوانيِ القرفةِ بِالحليبِ... يتناوَلُها مع كسراتٍ مِن الخُبزِ ويَستمِرُّ في عملهُ دون ضجرِ...
في أوّل كُلّ شهر يأتي التّاجِرُ بِسيّارتِهُ الفارِهة يتسلَّم كُلّ أعُمّال أبي بِمُبلِّغِ بسيطِ لا يُساوَي تعبَهُ ومجهودهُ وسهرهُ. كنت أشفق على أبي الّذي ألمح ظُهرِهُ وقد تقوّس فوْق النّوْلِ ومازالت أصابعه تغزُّل وتُعمِلُ في اِجتِهادِ وإخلاص، قلت لهُ في تردُّدِ: هذا التّاجِرُ يستغِلُّ أعمالك ومجهودكَ يا أبي، أرجوك لا تُعطهُ الكليمِ المُلوِّن مرّةً أخرى.
ربّت أبي على كَتفي قائِلا: ليْس لدي تاجِر آخر كيْ يشتري الكليمِ ويَبيعَهُ. قلت في شجاعةِ: إنه يَشتري مِنكِ بِثَمنِ بخسِ ويَبيعُهُ لِلسُيّاحِ بِثمنِ مُرتفِعِ. لم يُحاوَل أبي أن يجادلني ونصحني بِالنّوَمِ حتّى لا أتأخّرُ عن مَدرستي. في أَدبٍ شديدِ قلت لهُ: سوْف أساعِدك في توْزيعِ قِطعِ الكليم يا أبي. ضحِكُ أبي وهوَ يَنظرُ لقامتي القصيرة قائِلا: لَكنكِ مازلت صغيرًا يا ولدي! لن تقدرَ. قلتُ: أرجوكَ... جرِّب... أعطني بعضَ القِطعِ وسوْف أقفُ عِند مدخلِ المدينةِ وأُحاوِلُ بيْعها.
بعد إلحاح وافق أبي وأعطاني ثلاث قِطعِ وقال: سيكون هذا بعد المدرسةِ، فأنا أُريدُك أن تتعلّم وتُصبحَ شخصًا ذا شأن. في اللّيْلِ شعرت بأن أحلامي قد تلوّنت بألوان الصّوف التي يجلبها أبي وتشكّلت ألوان قوْسُ قُزحِ مِن قِطعِ الكليمُ.
لمّا عدّت مِن المدرسةِ حمّلت على كتفي قِطعِ الكليم ووَجدتُ بعضَ النّاسِ ينظرون لي باستغراب وأنا أنادي على بضاعتي حتّى نفُدت تماما. لمّا رجعت لِأبي بِالنُّقودِ فرحَ بي كثيرًا وأعطاني جُزءًا كبيرًا مِن النُّقودِ، ولمّا رفضتُها قالَ لي: سوْف نَعملُ معّا مِنَ الآن أنا وأنتَ يا بُني، ستكون تاجِري الأمين الذي يبيعُ بضاعتي دون أن يبخسها. مرت الأيام وزادَ إنتاجُ أبي مِنَ الكليم حتّى وجدتُه يُخبِرُنا ونحنُ نتناوَلُ العِشاء ذاتَ ليْلةٍ أنّه ينوي أن يفتح مصنعا صغيرا بِالحجرةِ الخلفيّةِ مِن المَنزلِ خاصّة أنّنا نمتلِكُ فناء واسِعا يمكُن عمل سقفِ لهُ مِن الخشبِ وسعف النّخلِ.
كانت فكْرتُهُ رائِعةً ومُفيدةً. بدأ أبي بِتنفيذِ الفِكرةِ لكنه حزن حينما رأى أن سقفَ الفِناءِ لا يَصمُدُ أمام الأمطار وكاد الكليمُ يتلفُ حتّى قام بإعادة بنائه بِالحديدِ والإسمنت... وقامت أُمّي بِزِراعةِ بعضِ أحواضِ الزّرع بِزُهورِ الياسمينِ والبنفسجِ والنّرجِسِ حتّى فاحت رائِحةُ الزُّهورِ بِالمكانِ وتوافَد النّاسُ لِشِراءِ الكليمِ الّذي تفنَّن أبي في صنعِه، فكان مِنه ما يكونُ مفروشًا على الأرضِ وأيضا الجُدران... واِشتهرَ مَصنعُ أبي الصّغيرُ، أشِعر بِالفخرِ لِأنّه أبى الّذي علمِني كيْف أجلس أمام النّوْلِ لِأُصنِّعُ قِطعة كليمِ مُلوِّنةٍ تُعبِّرُ عنى وعن أحلامي المُلوّنة.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
قصة للأطفال: اسكتلندا أرض الخيول
قصة للأطفال: العنكبوت التي عاشت
قصة مخيبة: الببغاء يفضح الرئيس
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق