الخميس، 23 يونيو 2022

• قصة للأطفال: جزيرة ليلى المغربية.. لَيْلى الْحَسْناءُ


جزيرة ليلى

          مَازِلْتُ أَذْكُرُ جَيِّدًا ذَلِكَ الصَّبَاحَ الرَّبيعِيَّ الْجَميلَ، عِنْدَما أَطَلَّتْ قَرْيَتِي الْهادِئَةُ (بَلْيونَشْ) عَلى أُخْتِها جَزيرَةِ (لَيْلَى) أَوْ كَما يُسَمِّيها الْبَعْضُ بِأسْماءٍ أُخْرى، مِنْها: جَزيرَةُ (تورَةُ) وبِنَباتِها الشَّهيرِ (جَزيرَةُ الْمَعَدْنوسِ) و(جَزيرَةُ الْمَرْجانِ) الَّذي يَكْثُرُ بِسَواحِلِها.

          رَأَتْ قَرْيَتي عَلى وَجْهِ لَيْلى الأَخْضَرِ مَسْحَةً مِنَ الْحُزْنِ، فَأَرادَتْ أنْ تَعْرِفَ سِرَّ حُزْنِها!

          حَيَّتْها بِابْتِسامَةٍ عَريضَةٍ: صَباحًا جَميلًا لَيْلَى، أُخْتي الْحَبيبَةُ!

          نَظَرَتْ إلَيْها بِعَيْنَيْنِ ذابِلَتَيْنِ، ورَدَّتِ التَّحِيَّةَ بِصَوْتٍ خافِتٍ: صَباحًا جَميلًا،أُخْتي بَلْيونَشْ.

          سَأَلَتْها قَرْيَتي في دَهْشَةٍ: مالَكِ حَزِينَةً؟!..أنْتِ خالِيَةٌ تَمامًا، لَيْسَ فيكِ ما يُقْلِقُكِ، لاَ طَيْرَ وَلاَ بَشَرَ وَلاَ شَجَرَ، غَيْرَ الْهَواءِ وَالْماءِ وَالسَّماءِ الزَّرْقاءِ!

          سَكَتَتْ لَحْظَةً، كَأَنَّها تَأْخُذُ نَفَسًا. وَلَمَّا لَمْ تَرُدَّ لَيْلى جَوابًا، سَأَلَتْها ثانِيَةً: تَكَلَّمي، أُخْتي، ماذا بِكِ؟..أَلاَ تَسْمَعينَنِي؟!

          رَفَعَتْ لَيْلَى رَأْسَها الصَّغيرَ قائِلَةً: كَيْفَ لاَ أَسْمَعُكِ، وَأَنا قَريبَةٌ مِنْكِ جِدًا جِدًا، بَلْ جُزْءٌ مِنْ هَذا التُّرابِ الْمَغْرِبِيِّ؟.. فَأَنا، كَما تُشاهِدينَ، أُوجَدُ في سَفْحِ جَبَلِ (مُوسَى) بِمَضْيَقِ جَبَلِ طارِقٍ، لاَ أَبْعُدُ عَنْكِ إِلاَّ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِتْرًا، وَبِأَرْبَعَةِ كِيلُومِتْراتٍ عَنْ سَبْتَةَ، (الْمَدينَةِ الْمَغْرِبِيَّةِ الْمُحْتَلَّةِ)، وَبِأَرْبَعينَ كِيلوُمِتْرًا عَنْ طَنْجَةَ، عَروسِ الشَّمالِ!

          قاطَعَتْها بَلْيونَشْ باسِمَةً: حَقًّا ما تَقولينَ، فَأَنْتِ عُضْوٌ مِنْ هَذا الْجِسْمِ الْمَغْرِبِيِّ الْجَميلِ، لَكِنْ، رُبَّما تَكونُ ضَخامَتُكِ وَطولُكِ سَبَبًا...

          ولَمْ تَكَدْ تُكْمِلُ كَلامَها، حَتَّى قاطَعَتْها لَيْلى: إِنَّني مازِلْتُ صَغيرَةً، مِساحَتي ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَنِصْفَ هِكْتار، وَطولي لاَ يَتَجاوَزُ ثَلاثَمِائَةِ مِتْرٍ فَقَطُّ، فَأيْنَ هِيَ الضَّخامَةُ والطُّولُ اللَّذَانِ تَتَحّدَّثينَ عَنْهُما؟!

          سَأَلَتْها بَلْيونَشْ مُسْتَغْرِبَةً: إِذَنْ، لِماذا أراكِ حَزينةً، وأنْتِ في عُمْرِ الزُّهورِ؟!.. يَجِبُ أنْ تَفْرَحي وتَمْرَحي، تُغَنِّي وتَرْقُصي، لا أنْ تَحْزَنِي وتَقْلَقي!

          أجابَتْها لَيْلى: يَنْبَغِي أَنْ تَعْرِفِي أَنَّنِي الْبِنْتُ الصُّغْرى لِمَدينَةِ (مَليلْيَةَ) لأَنَّ اسْمَها الْحَقيقي «أُمُّ لَيْلى» وتَحَوَّلَ على ألْسِنَةِ سُكَّاني الْقُدَماءِ إلى «مَليلْيَةَ» بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وإضافَةِ الْميمِ إلى لَيْلى. وكُنْتُ آهِلَةً بِالسُّكَّانِ مِثْلَكِ، غالِبِيَّتُهُمْ مِنْ قَبيلَتَيْ «مَصْمودَةَ» وَ«هُوارَةَ».. والآنَ، ها أنْتِ تَرَيْنَنِي خالِيَةً، أعيشُ وَحيدَةً بِلا أبْناءٍ ولا أقْرِباءٍ ولا أصْدِقاءٍ، يَزورونَنِي مِنْ حينٍ لآخَرَ، ويُؤْنِسونَنِي في وَحْدَتِي..!

          فَكَّرَتْ بَلْيونَشْ قَليلًا، ثُمَّ سَألَتْها: إذا كُنْتِ تُحِبِّينَ أنْ يَأْتِيَكِ النَّاسُ، فَلِماذا لا تُنادينَ عَلَيْهِمْ، يُقيمونَ على أرْضِكِ مِثْلَما كانوا مِنْ قَبْلُ؟!

          رَدَّتْ مُوافِقَةً: حَقًاّ ما تَقولينَ، أُخْتِي!.. لَقَدْ كانَتْ أرْضي الطَّيِّبَةُ في الْماضي الْبَعيدِ الْبَعيدِ، تَنْتَشِرُ فَوْقَها الْمَنازِلُ وَالدَّكاكينُ، وَالْحَمَّامُ وَالْمَسْجِدُ والْمَدْرَسَةُ. وَيَزورُنِي السُّيَّاحُ والرَّحَّالَةُ بَيْنَ الْفَيْنَةِ والْفَيْنَةِ، لِيُمَتِّعوا عُيونَهُمْ بِمَناظِري الْخَلاَّبَةِ، إِلى أَنْ ضَرَبَنِي زِلْزالٌ قَوِيٌّ، حَطَّمَ كُلَّ بِناياتِي، وتَرَكَنِي خالِيَةً. فَفَرَّ سُكَّانِي، خائفينَ أَنْ يَلْقَوْا حَتْفَهُمْ يَوْمًا في هَذا الْبَحْرِ، الَّذي يُحيطُ بي مِنْ كُلِّ جَوانِبي، وقَصَدوا الْقُرى وَالْمُدُنَ الْقَريبَةَ مِنِّي. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأنا أُعانِي الْعُزْلَةِ، وَالْوَحْدَةِ الْمُوحِشَةِ. لا أسْمَعُ، لَيْلَ نَهارَ، إلاَّ تَلاطُمَ أمْواجِ الْبَحْرِ، وصَفيرَ الرِّيحِ، ونَعيقَ الْغِرْبانِ..!

          وأَحْيانًا، يَزورُنِي الرُّعاةُ بِقُطْعانِ أَغْنامِهِمْ وَماعِزِهِمْ لِتَرْعَى الْكَلأَ وَالْحَشائِشَ الطَّرِيَّـةَ. وَأَحْيانًا أُخْرى، يَلْجَأُ إِلَيَّ الْقَراصِنَةُ لِيَخْتَبِئوا بَيْنَ صُخورِي، وَيَحْتَموا بِي.كَما يَتَرَدَّدُ عَلى شاطِئي الذَّهَبِيِّ، الصَّـيَّادونَ لِيَصْطادوا سَمَكي، لَكِنَّهُمْ يَتْرُكونَني في الْمَساءِ، فَأبْقى وَحيدَةً فَريدَةً!

          وَفي عُصورٍ ماضِيَةٍ، بَذَلَ كَثيرونَ جُهْدَهُمْ لِيُسَيْطِروا عَلَيَّ، مِنْهُمُ الْبُرْتُغالِيُّونَ الَّذينَ غَزَوْنِي عامَ 1437م. لَكِنَّ الْمَغارِبَةَ وَقَفوا بِجانِبِي، يُدافِعونَ عَنِّي. إِذْ قالَ الْوَزيرُ الأَوَّلُ (أبوحَمَّادٍ) لِلْبْريطانِيِّينَ في سَنَةِ 1849: «لَوْتَضْرِبونَ عُنُقي، فَلَنْ أُسَلِّمَ في حَجَرَةٍ واحِدَةٍ مِنَ التُّرابِ الْمَغْرِبِيِّ»!.. وكانَ بِقَوْلَتِهِ الشُّجاعَةِ يَقْصِدُنِي.

          وَقَبْلَ ذَلِكَ بِخَمْسَةٍ وَتِسْعينَ عامًا، طَلَبوا مِنَ الْمَلِكِ مَوْلاَيَ سُلَيْمانَ أَنْ يَسْمَحَ لَهُمْ بِبِناءِ مَنْزِلٍ فَوْقي لِقُنْصُلِهِمْ بِطَنْجَةَ، فَرَفَضَ رَفْضًا تامًّا!.. كَما طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقيموا مُسْتَوْدَعًا لِلْفَحْمِ، يُزَوِّدونَ بِهِ سُفُنَهُمْ، الَّتي تَعْبُرُ الْبَحْرَ الأبْيَضَ الْمُتَوَسِّطَ، ذَهابًا وإيَّابًا، فَرَفَضَ طَلَبَهُمْ. وَفي 13 نُوفمبِر1887 أَرْسَلَتْ إِسْبانِيا عُمَّالًا وَبَنَّائينَ لِيَبْنوا سُورًا كَبيرًا، وَيَرْفَعوا عَلَيْهِ عَلَمَهُمْ، فَمَا كانَ مِنْ جُنودِ بِلادِنا الْبَواسِلِ إِلاَّ أَنْ حَضَروا بِسُرْعَةٍ، وَهَدَّموا السُّورَ، وَأَنْزَلُوا الْعَلَمَ، وَطَرَدُوا كُلَّ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ رَفَعوا الْعَلَمَ الْمَغْرِبِيَّ عالِيًا.

          اِبْتَسَمَتْ بَلْيونَشْ قائِلَةً: صَدَقْتِ، أُخْتِي.. لَقَدْ شاهَدْتُ كُلَّ ذَلِكَ، وَعِشْتُ حَياتَكِ حَدَثًا حَدَثًا. ألَسْتُ أُخْتَكِ الَّتي لا تُفارِقُكِ لَحْظَةً؟!

          أذْكُرُ أنَّني كُنْتُ أَمُدّكِ بِالْماءِ الشَّرُوبِ، وَأُمَوِّنُكِ بِما تَحْتاجينَهُ مِنْ مَوادَّ غِذائِيَّةٍ، وآلاتٍ وأدَواتٍ وأثاثٍ.. ولَمْ أتَخَلَّ عَنْكِ، فَأنْتِ أُخْتِي، وسَتَظَلِّينَ حَبيبَتِي طولَ الزَّمَنِ!

          في تِلْكَ اللَّحْظَةِ، غَطَّتِ الشَّمْسَ الضَّاحِكَةَ سَحابَةٌ كَثيفَةٌ، فَاخْتفى النُّورُ، وأظْلَمَتِ السَّماءُ!

          - لِماذا خَيَّمَ الظَّلامُ عَلَيْنا، فَجْأَةً؟!

          تَساءَلَتِ الأُخْتانِ في دَهْشَةٍ، ثُمَّ رَفَعَتا رَأْسَيْهِما إلى فَوْقُ، إِذا بِهِما يَرَيانِ طُيورا بَشَرِيَّةً، تُحَلِّقُ في السَّماءِ!.. هاهِيَ تَنْزِلُ شَيْئًا فَشَيْئًا، بِلا خَوْفٍ، كَأنَّها تَعْرِفُ الْمَكانَ جَيِّدًا، حَجَرَةً حَجَرَةً، نَبْتَةً نَبْتَةً..إِنَّهُمْ أَطْفالٌ مَغارِبَةٌ بِأَجْنِحَةٍ، يُحَلقونَ بِشَجاعَةٍ وَحَماسَةٍ..أَطْفالٌ قادِمونَ مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ وَمَدينَةٍ، يَصيحونَ بِأَعْلى أَصْواتِهِمْ: ها نَحْنُ قادِمونَ، يا لَيْلى الْحَسْناءُ!.. لَنْ نَتْرُكَكِ وَحْدَكِ أَبَدًا أَبَدًا!.. سَنَبْنِي فيكِ الْبَيْتَ والدُّكَّانَ والْمَسْجِدَ وَالْمَدْرَسَةَ وَالْمَعْمَلَ والْمَلْعَبَ والْمَكْتَبَةَ. وسَنَمْلأُ أَرْضَكِ الطَّيِّبَةَ شَجَرًا أَخْضَرَ، وَزَهْرًا أَنْضَرَ.

          سَنَنْشُرُ فيكِ الْحُبَّ وَالْحَنانَ

          وَالدِّفْءَ وَالأَمانَ.

          ونُحْيي فيكِ الزَّمانَ.

          سَنُعيدُكِ إلى الْوَطَنِ الأُمِّ، عاجِلًا أو ْآجِلا، لِتَعيشي دائِمًا مَعَنا في حِضْنِ عالَمِنا الْعَرَبي.

          إذْ ذاكَ، ابْتَسَمَتْ لَيْلى ابْتِسامَةً خَفيفَةً، وزالَتْ مَسْحَةُ الْحُزْنِ عَنْ وَجْهِها الْجَميلِ، لأَنَّها أحَسَّتْ بِكُلَّ الْكِبارِ والصِّغارِ يُحِبُّونَها، ويُريدونَ بِناءَها مِنْ جَديدٍ، لِتَعودَ إلَيْها الْحَياةُ، كَما كانَتْ مِنْ قَبْلُ.

بواسطة العربي بنجلون

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضاً

قصة للأطفال: بسبس والثوب المحروق

قصة للأطفال: العودة إلى كوكب الأرض

قصة للأطفال: درس في السير

قصة للأطفال: البئر البلّورية

قصة للأطفال: نيبال.. بلد الجبال العملاقة!

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق