صلة الرحم
في عيدِ الأضْحَى، لَمْ أجِدْ خيْرًا مِنْ صلةِ الرَّحمِ بأَبْناءِ عمَّي، فَزُرتُهُمْ في بَيْتِهمُ الأنْدَلُسيَّ بمَدينةِ فاسٍ. إنّه كبيرٌ، يتكوَّنُ مِنْ طابقَيْنِ، عُلْوي وسُفْلي، وكُلٍّ منْهُما يَحْتَوي على غُرَفٍ فسيحةٍ، ذاتِ سُقوفٍ عاليَةٍ، وأَبْوابٍ ضَخْمَةٍ. أَيْنَ مِنْهُ شقَّتُنا بالْعِمارَةِ؟! لا تَعْدِلُ غُرفَةً واحِدةً مِنْ بَيْتِهِمْ!
سَألتُ
ابْنَةَ عَمِّي: لِماذا لا تَسْكنونَ في شُقّةٍ صغيرةٍ، بَدَلْ هذا البَيْتِ الكَبيرِ؟
ابْتسمَتْ
قائلةً: هذا ما فَكَّرنا فيهِ كثيرًا، لَكِنَّ مُؤرِّخَنا مَنَعَنا مِنْ بيعِ بَيْتِنا، أو الرَّحيلِ عَنْه!
أطْرَقْتُ
أُفكِّرُ، ثُمَّ سألْتُها متعجِّبًا، أيّ مُؤرِّخٍ تَعْنينَ؟!.. أنا لَمْ أفْهَمْ شيْئًا مِنْ كَلامِكَ!
أجابَني
أخوها ضاحِكًا: لقدْ تَرَكَ جدُّنا الأكْبرُ رسالَةً مَكْتوبةً على ظهْرِ السُّلحفاةِ، يوصينا فيها بالْحِفاظِ على
بَيْتِنا الْعَتيق وإصْلاحِهِ، إذا ما تَداعَتْ أرْكانُهُ، ونحْنُ نُنَفِّذُ
وَصِيَّتَهُ، كما كانَ
يفْعَلُ
والِدُنا تَمامًا!
لاحَظْتُ
في دَهْشةٍ: ولَكنَّ جَدَّنا الأَكْبَرَ توفّيَ قَبْلَ مئةٍ وخمسينَ سنةً!.. فَهَلْ تَمْتدُّ حياةُ السَّلاحِفِ هَذِهِ
السَّنوات؟
رَدَّ
مُؤكِدًا: أَجَلْ!.. إنَّها تُعَمِّرُ طَويلاً، لأنَّ دَمَها باردٌ، تَنْمو بِبُطءٍ، وتَقْضي الشِّتاءَ نائِمةً، لا
تَتْعَبُ ولا تَغْضبُ، ولا
تَبْذُلُ
جُهْدًا، وإذا ما شَعَرَتْ بالخَطرِ آتٍ، تُدْخِلُ رأسَهَا وقوائِمَها في صَدَفتِها العَظْميَةِ الصُّلْبةِ،
وتَتْرُكُ العَدُوّ خارِجَها!
ونَحْنُ
كَذلكَ، إذْ بِالسُّلَحْفاةِ تَظْهَرُ، كَأنَّها سفينةٌ، فقُمْت مِنْ مكاني واقِفًا، واقْتَرَبْتُ منها في حَذَرٍ،
فأخَذَتْ تَضْحَكُ مِنِّي
قائلةً:
تَعالَ، بُنَيَّ، لا تَخْشَني!.. ماذَا تُريدُ؟!
أَجَبْتُها
مُتَلَعْثِمًا:
- أريدُ..
أنْ.. أتعرَّفكِ أكْثرِ مِمَّا حَكى لي أبْناءُ عمَّي!
- تَعالَ،
خُذْني، لا تَخَفْ مِنِّي!.. أنَا حَيوانٌ مُسالِمٌ، لا أُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدٍ. مِنِّي نَوْعَانٍ: مائيٌّ
يَسْبَحُ في الْبَحْرِ
والنَّهْرِ،
ولَحْمُهُ وبَيْضُهُ يؤكَلانِ. وبَرِّيٌّ مثلي، يُرَبَّى في البيوتِ للْقضَاءِ على الْحَشَراتِ والدّيدانِ
الْمُؤذيةِ. وهُناكَ مَن يصيدُنا ليَصْنعَ مِنْ صدفاتِنا أَدَواتِ الزِّينةِ كالْمُشْطِ..!
نَحْنُ
نَتكاثرُ بالْبَيْضِ، نَضَعُهُ في حُفَرٍ، ونُغَطِّيهِ كَيْلا تأْكُله الطُّيورُ. وعِنْدمَا
يَكْبَرُ في ثمانِيَةِ أيَّامٍ، بِفْعلِ حَرٍّ الشَّمْسِ، يَظْهَرُ وَلَدُنا (الْغيْلَمُ) ذاكَ الَّذي
يَزْحَفُ أمامكَ!
سَأَلْتُها
مُستَغْرِبًا: لماذا يَزْحَفُ غَيْلَمُكِ، بَطيئا؟!.. عَلَيْهِ أنْ يُسْرِعَ
أكْثَر مِنكِ، أيُّهَا الْعَجوزُ!
أجابَتْني
مُوافِقَةً: حَقًا ما قُلْتَ، بُنَيَّ!.. لَكِنْ، يَجِبُ أن تَعْرِفُ أنَّ السُّرْعَةَ أو البُطْءَ في الْمَشْيِ عِنْدَنا،
لا علاقَةَ لهُما
بالسِّنِّ،
كما عِنْدكُم. فَالصَّدَفَةُ الْعَظميَّةُ التي تُغَطِّي ظُهورَنا، تَتَّصلُ بأضْلاعِنا، فتُثْقِلُ
علَيْهَا، ولا تَتْرُكُنا نتحرَّكُ بِسُرْعةٍ!
قُلْتُ
لَها باسِمًا: هَلْ تَسْمَحينَ لي أنْ آخُذَ معي غَيْلَمَكِ، أُرَبِّيهِ وأعْتَني بِهِ، وأكْتُب علَى صَدَفتِهِ وَصيَّتي؟!
انْفَجَرَتْ
ضاحِكةً: وهَلْ لَدَيْكَ، أنْتَ أيْضًا، وَصِيَّةٌ؟!
أجَبْتُها:
أَجَلْ!.. ويالَها مِنْ وَصِيّةٍ؟!
قُلْتُ:
أنْ يُحافِظَ الأَوْلادُ والأَحْفادُ على ما أوْصى بِهِ الآباءُ والأَجْدَادُ، ويَجْتَهِدوا ليُضيفوا كُلّ شَيءٍ
جَميلٍ. كَما تَفْعَلُ
بَعْضُ
الشُّعوبِ، الَّتي تَعْتني بِالْحيَوَاناتِ النَّافِعةِ للبيئةِ، وتَحْتَفِلُ بِكِ في
المُناسبَاتِ، فتَنْشُرُ صُوَرَكِ، وتُصْدِرُ طابعًا بَريديًا خاصًا بكِ، يُذَكِّرُ بأعْمالِكِ
الْحَسَنَةِ!
صاحَتْ
فَرِحَةً: يالَها مِنْ وصيِّةٍ حسَنَةٍ!.. هيّا، خُذِ غَيْلَمي، ولا تنْسَ أنْ تَأْتي بِهِ مِنْ حينٍ لآخَرَ ليصلَ
الرَّحمِ
بي!
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
قصة للأطفال: النمس..
اللاعب الماهر
قصة للأطفال: مهمة الكايتن
بهاء
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق