الخميس، 15 مايو 2025

• قصة مُخَيِّبَة: قصة التيتانيك: الرحلة اليتيمة

حين يتكلم البحر، يصمت الكبرياء

منذ أكثر من مائة عام، شهد العالم واحدة من أبشع المآسي في تاريخه الحديث. لم يكن الأمر مجرد غرق سفينة، بل كان انهيار حلم، وانكسار ثقة عصرٍ كامل أمام جبروت الطبيعة. إنها حكاية التيتانيك، حكاية لا تقتصر على الفقدان والموت، بل تتناول الشجاعة، والتضحية، والدروس التي لا تزال البشرية تتعلم منها حتى اليوم.

في مطلع القرن العشرين، كانت المحيطات الطريق الرئيسي للتنقل بين القارات. وكانت شركتان تتنافسان على الريادة في عالم السفن: وايت ستار لاين، وكونارد لاين. امتلكت كونارد آنذاك سفينتين شهيرتين، "لوسيتانيا" و"ماوريتانيا"، تميزتا بسرعتهما العالية. لكن وايت ستار لاين اختارت طريقًا مختلفًا، إذ لم تكن تسعى للسرعة، بل للفخامة والضخامة. فخططت لبناء ثلاث سفن عملاقة فاخرة: الأولمبيك، والتيتانيك، والبريتانيك. غير أن التيتانيك أصبحت الأشهر، لا لجمالها، بل لما حدث لها في أولى رحلاتها.

بُنيت التيتانيك في بلفاست، أيرلندا الشمالية، على يد شركة هارلاند آند وولف. بدأ البناء في مارس عام 1909، واستغرق قرابة ثلاث سنوات من العمل المتواصل. آلاف العمال شاركوا في تشييد هذه السفينة الجبارة، والتي بلغ طولها 269 مترًا، وارتفاعها 54 مترًا — أي ما يعادل طول ثلاثة ملاعب كرة قدم متراصة. لقد كانت معجزة هندسية في زمانها.

أطلق الناس على التيتانيك لقب "السفينة التي لا تغرق"، لأنها احتوت على ستة عشر حجرة مانعة لتسرب المياه. واعتقد المهندسون آنذاك أنه حتى لو امتلأت أربع منها بالماء، ستظل السفينة طافية. نشرت الصحف هذه المزاعم، وصدّقها العامة. حتى أن أحد مسؤولي الشركة صرّح قائلاً: "التيتانيك غير قابلة للغرق." وكان الإيمان بهذه العبارة قويًا لدرجة أن الجميع ظن أن لا شيء يمكن أن يُصيبها بسوء.

لكن التيتانيك لم تكن مجرد وسيلة نقل. بل كانت قصرًا عائمًا فوق البحر. صُمِّمت من الداخل لتُشبه أفخم فنادق العالم. جدرانها الخشبية نُحتت يدويًا وصُقلت حتى لمعت. نوافذها الملونة كانت تعكس نور الشمس بألوان ساحرة. احتوت السفينة على درجين كبيرين، أشهرهما الدرج الكبير الذي اتّسم بحوافه الحديدية المزخرفة، وتفاصيله الذهبية، وقبته الزجاجية البديعة. كان ذلك المكان مسرحًا لمرور ركاب الدرجة الأولى الذين كانوا يستعرضون ملابسهم الفاخرة ومجوهراتهم اللامعة.

وفوق ذلك، تميّزت التيتانيك بمرافق لم تكن موجودة في أي سفينة أخرى آنذاك. حوض سباحة دافئ، حمّام تركي، حمّام كهربائي، وصالة رياضية بأجهزة حديثة. كما وُجد ملعب اسكواش، مكتبة، وحلاقان لتصفيف الشعر. وكانت هناك مطاعم ومقاهٍ وصالات للتدخين. أحد المطاعم، المعروف باسم "آ لا كارت"، كان راقيًا لدرجة أن الزبائن كانوا يدفعون مبلغًا إضافيًا لتناول الطعام فيه. أما غرف الدرجة الأولى، فكانت مزينة بستائر حريرية وأثاث فاخر وأغطية فخمة. والغرف من الدرجة الثانية فاقت رفاهية الدرجة الأولى في كثير من السفن الأخرى. وحتى غرف الدرجة الثالثة، رغم بساطتها، كانت أنظف وأكثر راحة من المعهود في ذلك الوقت.

كلّف بناء التيتانيك سبعة ملايين ونصف دولار عام 1912، أي ما يعادل مائتين وخمسين مليون دولار اليوم. أما تذاكر السفر، فكانت باهظة الثمن. فسعر تذكرة الدرجة الأولى تجاوز الأربعة آلاف دولار حينها — أي ما يقارب مائة وثلاثين ألف دولار حاليًا. أما تذكرة الدرجة الثانية فبلغت نحو ستين دولارًا، أي ما يعادل ألف وخمسمائة دولار اليوم. وتراوحت تذاكر الدرجة الثالثة بين خمسة عشر وأربعين دولارًا، أي ما يعادل أربعمائة إلى ألف دولار حاليًا. لم تكن التيتانيك مخصصة للطبقة الثرية فقط، بل كانت أيضًا تحمل آمال مهاجرين فقراء قرروا ركوبها في سعيهم نحو حياة جديدة في أمريكا.

وفي العاشر من أبريل عام 1912، أبحرت التيتانيك من ميناء ساوثهامبتون في إنجلترا، متجهة نحو نيويورك. تجمعت الحشود لتوديعها. التقط المصورون الصور، ولوّحت العائلات بأيديها مودّعة. كان على متنها 2224 راكبًا، من بينهم نخبة أثرياء العالم، مثل جون جاكوب أستور الرابع، ومولي براون، وإيسيدور وزوجته إيدا ستراوس، مالكا متجر "مايسي". وكان هناك أيضًا مئات المهاجرين البسطاء الذين باعوا كل ما يملكون لأجل هذه الفرصة.

في الأيام الأولى من الرحلة، سارت الأمور على ما يرام. انطلقت السفينة بسرعة تقارب أربعين كيلومترًا في الساعة، وكان البحر هادئًا والطقس معتدلاً. استمتع الركاب بالأطعمة الفاخرة، وغرف الراحة، وصالونات الرفاهية. ولكن في الثاني عشر من أبريل، بدأت تصل تحذيرات من وجود جبال جليدية في شمال المحيط الأطلسي. لم يُعِر طاقم السفينة ولا قبطانها هذه التحذيرات اهتمامًا، إذ كانوا واثقين من أن التيتانيك لا يمكن أن تغرق.

في الرابع عشر من أبريل، تلقت السفينة سبعة تحذيرات إضافية. وردت عبر التلغراف من سفن مجاورة باستخدام شفرة مورس. بعضها لم يصل إلى القبطان، وبعضها الآخر أُهمل بسبب انشغال مشغلي الراديو بإرسال رسائل الركاب. حتى التحذيرات التي وصلت لم تُعامَل بجدية. وواصلت السفينة إبحارها بأقصى سرعة.

حلّ الليل، وكان مظلمًا بشكل غير معتاد. فلا قمر في السماء، ولا نجوم تسطع بقوة. والبحر كان ساكنًا بشكل غريب. في العادة، تساعد الأمواج المتلاطمة في كشف الجبال الجليدية. لكن في تلك الليلة، كانت الجبال الجليدية صامتة، متخفية في العتمة. وكان اثنان من المراقبين، فريدريك فليت وريجينالد لي، يقفان في منصة المراقبة المرتفعة. لكنهما لم يكونا يملكان منظارًا، إذ نسي أحد الضباط إرجاعه قبل مغادرته السفينة.

وفي الساعة 11:39 مساءً، لمح فليت شكلًا مظلمًا أمامه. كان جبلًا جليديًا ضخمًا. دقّ جرس الإنذار ثلاث مرات، ثم التقط الهاتف واتصل بجسر القيادة، صائحًا: "جبل جليدي مباشرة أمامنا!" تحرّك الضابط الأول، ويليام مردوخ، بسرعة وأمر بتوجيه السفينة إلى اليسار وعكس المحركات. ولكن بعد 37 ثانية فقط، عند الساعة 11:40، اصطدمت التيتانيك بالجبل الجليدي.

كان الجبل الجليدي بارتفاع 61 مترًا وطوله 122 مترًا، ويُعتقد أنه عمره تجاوز مائة ألف عام، ويزن حوالي مليون ونصف طن. مزّق الجبل جانب السفينة تحت سطح الماء. كان الفولاذ المستخدم في بناء التيتانيك أقل صلابة من الفولاذ الحديث، ويصبح هشًا في المياه المتجمدة. كما أن المسامير التي كانت تثبّت ألواح الحديد، كانت من حديد ضعيف، ما أدى إلى تطايرها عند الاصطدام، وفتح شقوق في جسم السفينة. وبدأت المياه تتدفق بسرعة إلى الداخل.

في البداية، لم يشعر الركاب بشيء. سمع بعضهم صوت خدش، وشعر آخرون باهتزاز خفيف. في غرفة المحركات، أدرك الطاقم الكارثة على الفور. كانت المياه تندفع نحو الحجرات السفلية، وقد بُنيت السفينة لتبقى طافية حتى وإن امتلأت أربع حجرات، لكن الآن خمس منها كانت تغرق.

مع منتصف الليل، أدرك القبطان سميث الحقيقة المروعة: السفينة ستغرق. ومع ذلك، لم يكن معظم الركاب على علم بالخطر. فالموسيقى كانت تعزف، والناس يضحكون، ويتحدثون، وكأن شيئًا لم يحدث.

لكن ما كان يحدث لم يكن تدريبًا. لم يكن على متن التيتانيك سوى عشرين قارب نجاة، تتسع لـ1178 شخصًا فقط. بينما تجاوز عدد الركاب 2200. لم تُجَهَّز السفينة بعدد أكبر من القوارب لأن الشركة أرادت أن تبقي سطح السفينة فسيحًا وجميلًا.

أمر القبطان بإنزال القوارب وإرسال نداءات الاستغاثة. أرسل مشغلو الراديو، جاك فيليبس وهارولد برايد، رسائل "CQD"  و"SOS"  عبر شفرة مورس. استجابت السفينة "كارباثيا"، التي كانت تبعد حوالي 93 كيلومترًا، على الفور، وانطلقت بأقصى سرعة. لكن الوصول سيستغرق أربع ساعات. أما السفينة "كاليفورنيان"، فكانت أقرب لكنها لم ترد، لأن مشغل الراديو كان قد خلد للنوم.

وفي الساعة 12:30 صباحًا، أُنزل أول قارب نجاة، ورغم سعته لـ65 شخصًا، لم يكن على متنه سوى 28. كثيرون لم يصدقوا أن السفينة ستغرق، وظنوا أن البقاء أكثر أمانًا. في الدرجة الأولى، تردد البعض في مغادرة أجواء الرفاهية. أما ركاب الدرجة الثالثة، فواجهوا صعوبات بالغة، إذ لم يكونوا يعرفون اللغة الإنجليزية، ولم يتمكنوا من الوصول إلى القوارب بسهولة.

بحلول الساعة 1:30 صباحًا، غطت المياه مقدمة السفينة بالكامل، وبدأ الذعر ينتشر. كانت المحيط باردةً، بدرجة حرارة 2° مئوية. والماء البارد كان كفيلاً بقتل أي شخص خلال دقائق. وعند الساعة 2:15 صباحًا، انقسمت السفينة إلى قسمين. غرق الجزء الأمامي أولًا، ثم ارتفع الجزء الخلفي عموديًا في الهواء، قبل أن يغوص في الظلام.

في الساعة الرابعة صباحًا، وصلت سفينة كارباثيا، وبدأ طاقمها بإنقاذ الناجين. كان كثير منهم في حالة صدمة وتجمد، وبعضهم لم يقدر على الصعود إلا باستخدام الحبال. وعند الساعة 8:30 صباحًا، تم إنقاذ جميع الناجين، وعددهم 705، بينما تجاوز عدد الضحايا 1500.

لاحقًا، كشفت التحقيقات حقيقة مرعبة: أن سفينة كاليفورنيان كانت ترى أضواء التيتانيك، وشاهدت إشارات الإنقاذ النارية، لكنها ظنت أن هناك احتفالًا على متن السفينة. وكان جهاز الراديو مغلقًا. لو بقي مفتوحًا، لربما أنقذت السفينة مئات الأرواح.

وبعد هذه المأساة، تم تغيير قوانين السلامة البحرية. أصبح من الضروري أن تحتوي كل سفينة على قوارب نجاة تكفي للجميع، وأن تبقى أجهزة الراديو تعمل على مدار الساعة، وأن تُعامل أي إشارة نار على أنها استغاثة.

غرقت التيتانيك إلى عمق 3810 أمتار وظل مكانها مجهولًا لعقود، حتى عام 1985، حين اكتشفها الدكتور روبرت بالارد وفريقه باستخدام غواصة آلية. كان الجزء الأمامي لا يزال شبه سليم، بينما كان الجزء الخلفي مدمَّرًا. ووجدوا حول الحطام أحذية، وأطباقًا، وحقائب — شواهد صامتة على حياة راحلة.

لكن حكاية التيتانيك لم تغرق معها. إنها أكثر من مجرد قصة سفينة، بل قصة أحلام وطموحات، وأخطاء قاتلة، وبطولات أبدية. وفي عام 2012، أعلن ملياردير أسترالي نيته بناء "تيتانيك 2"، نسخة مطورة وآمنة. لم يكتمل المشروع، لكنه عكس مدى تأثير القصة في النفوس.

من بين الناجين، كان معظمهم من النساء والأطفال، أما من قضوا، فغالبيتهم رجال، ضحوا بحياتهم من أجل غيرهم. علمتنا التيتانيك ثلاثة دروس ثمينة: لا تثق بالكمال، فالثقة الزائدة قاتلة. احترم قوى الطبيعة، فهي أقوى من غرور الإنسان. واستعد دومًا، فالكوارث لا تُنذر بقدومها.

ترقد التيتانيك اليوم في ظلمة المحيط، لكن قصتها تُنير ذاكرة البشرية. تذكرنا بحجم أحلامنا، بحدودنا، وبالقيم التي تميز الإنسان: الشجاعة، والتضحية، والكرامة. ولهذا، ستبقى التيتانيك حية في قلوبنا، ما دام فينا من يتعلم من قصص من رحلوا.

 إقرأ أيضاً:

قصة وحكمة: السلحفاة والطيور

قصة وحكمة: بيترو برنيني يصنع المجد بالخداع

قصة وحكمة: الماعزان المتناطحان والثعلب الماكر

قصة مثل: على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟

قصة وحكمة: القرد وصيادو السمك

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق