الجمعة، 30 يونيو 2017

• محفظة النقود من الجيب إلى اليد

لا ندري متى أقلعنا عن وضع المحفظة في جيب البنطلون الخلفي، ورحنا نحملها بأيدينا. لكن، من الممكن القول أن هذا الفعل، الذي سرعان ما غدا عادة رائجة، قد ترافق مع استعمالنا الهاتف المحمول. فصرنا نمسك باليد الواحدة كلاً من المحفظة، والموبايل، وأحياناً، نضع فوقه شاحنه البديل، بالاضافة الى علبة الدخان والقداحة. بالتالي، شرعنا في حمل كل هذه الأغراض، التي، وبدلاً من توزيعها على جيوب بناطيلنا، فتثقل حركتنا بوزنها، نقبض عليها يدوياً، ونبرزها بخفة أمام الجميع.

على أن المحفظة، وبعدما مكثت مطولاً في موضعها القديم، عطل انتقالها الى موضعها الجديد اقترانها، الاسمي حتى، بالجيب. فكانت محفظة جيب، وأضحت محفظة يد، مثلما أنها أصبحت موضوع إظهار وتفرج على حد سواء، بعدما كانت موضوع اخفاء، ولا يمكن لأحدهم أن ينفذ بنظره اليها، لا سيما حين نكون قاعدين عليها في مقابله.
بوضعنا للمحفظة في جيب البنطلون الخلفي، لم نكن نبدي محتواها، أي قدرتنا المالية، فوراً. فقد كان الغير، الذي نجلس معه وجهاً لوجه، يتلقى أمامنا، أي طلتنا وكلامنا ومسلكنا، ويجتمع به قبل أن نكشف له، وفي لحظة من اللحظات، عن ورائنا، من خلال سحب المحفظة، محفظة القدرة المالية، منه بمقصد استخدامها، لدفع فاتورة مثلاً. لم يكن الاجتماع بالغير يمر عبر ورائنا، بل كان هذا الوراء يقع في نهايته، كما أنه، وفي هذه النهاية تحديداً، يجري الكشف عنه بواسطة سحب المحفظة وإظهارها.
فالسبيل من أمامنا، بوصفه جهة الاجتماع بالغير، الى ورائنا، باعتباره جهة احتفاظنا بقدرتنا المالية، كان يقوم بحركة واحدة: سحب المحفظة من الجيب الخلفي. فبهذا الفعل، كنا نقدم لغيرنا قدرتنا تلك على أساس أنها من شواغلنا وهواجسنا وهمومنا الأخيرة، بحيث، وكلما أجلنا سحبها وإظهارها، يستوي اجتماعنا معه على نحو أفضل، إذ لا تشوبه منفعة أو مطمع أو مكسب. نخفي وراءنا عنه بالقعود على المحفظة، بكبت قدرتنا المالية، لكي لا يشوب الاجتماع معه أي شائبة، أي لكي يكون اجتماعاً نظيفاً.
على هذا النحو، كان الكشف عن الوراء بسحب المحفظة منه بمثابة توسيخ للاجتماع ببيان القدرة المالية. وهنا، لا بد من الذهاب أكثر في هذا السياق. فحين نسحب المحفظة أمام الغير، ونعد ذلك توسيخاً للاجتماع به، فهذا لأننا نسحبها من مطرح ورائي بعينه، من المؤخرة، حيث، وفي اعتقادنا الطاهر، نساوي، والمعذرة على كل العبارات اللاحقة، بين التبرز وإبراز القدرة المالية. فلما نسحب المحفظة من المؤخرة، نظن أننا، ومع إبرازنا لها، نتبرز على الاجتماع بالغير، ونجعله وسخاً. ذلك، أن الإبراز والتبرز يتقاطعان من جهة كون مركزهما، مصدرهما العضوي هو نفسه: المؤخرة، أي المؤخر منا، يعني موضع آخرنا.
علينا أن نتذكر ما قالته مارسيل ماريني ذات مرة: "الصوت هو استدعاؤنا للآخر، إلا أن التبرز هو استدعاء الآخر لنا". تالياً، ولما نساويه مع الإبراز، ونخفيهما، ونكبتهما، فنحن نخفي ونكبت "استدعاء الآخر"، نتستر عليه، نمنعه من البيان أمام الغير، من أجل ألا يجد فيه تقذيراً للاجتماع به. كأننا، وبابرازنا للقدرة المالية بسحب المحفظة من الخلف، نخبر هذا الغير بأننا ما عدنا اثنين، بل ثلاثة، أي هو ونحن وآخرنا، الذي استدعانا. الأمر، الذي، وبالاستناد إلى طهارة الاجتماع به، قد يربكه. فالغير، في هذا المعنى، يخاف من آخرنا، من موضعه، من المؤخر منا، ويخاف من ورائنا، لأنه، وفي حسبانه، يوسخ الاجتماع به، وبجملة أخرى: يخاف من قدرتنا على سماع استدعاء الآخر لنا، على التبرز، ومعادله، أي الإبراز.
خلاصة القول: لما كنا نضع المحفظة في جيب البنطلون الخلفي، كنا نكبت قدرتنا المالية بالقعود عليها، لأن، في ظننا، إبرازها يساوي التبرز، وبالتالي، هو يساوي تحقيق استدعاء الآخر لنا أمام الغير، وفي أثناء الاجتماع به، ما يعد توسيخاً واخافةً له. فنحن نقول لهذا الغير بأن قدرتنا المالية تقع في آخرنا، في موضعه، ولا قيمة لها في جلوسنا في مقابله، وفي حال قمنا بإبرازها فذلك للحظة، لبرهة، وما يجب عليه أن يخاف منها. انها التضحية بإستدعاء الآخر لنا، عبر كبته، ومنع قذارته، أو "قذرته" المالية، من أجل الحفاظ على طهارة الاجتماع مع الغير.
حسناً، كل هذا أصبح من السابق. فقد استبدلنا وضع المحفظة في جيب البنطلون الخلفي بحملها يدوياً مع أغراض أخرى. في النتيجة، ما عدنا نخفي ونكبت قدرتنا المالية عبر القعود عليها. غادرت المحفظة مؤخراتنا، واستقرت في أيدينا، بالتالي، انفك الإبراز عن التبرز، انحل التساوي بينهما، وما عاد إظهار القدرة المالية أمام الغير يشكل توسيخاً للاجتماع به. والأهم، أو الاخطر، بعد ذلك، أن السبيل بين الأمام والوراء قد اختفى، بحيث أن المحفظة، التي كان يجري سحبها من الخلف، قد تركت مكانها، وفي النتيجة، ما كنا نجلس عليه بعد الصاقه بمؤخراتنا، صار معلناً، ومعلن بإفراط ايضاً، اذ نمسكه الى درجة التلويح به.
يشكل انتقال المحفظة من الخلف، وموضعها المؤخرة، الى الأمام، وموضعها اليد، أثراً من آثار انتقالنا إلى نظام اجتماعي آخر، حيث الإبراز فيه لا يساوي التبرز، لا يساوي استدعاء الآخر لنا، بل إنه تشوه، تحول إلى مجرد استعراض، أي استهلاك العرض حدّ إنتاجه. فنحن، وحين نضع محفظتنا أمام الغير، نخبره بأن كل شيء معروض على الشاشة الاجتماعية قدامه، ولا شيء في الخلف، أو بالأحرى لا شيء هو الوراء. نخبره، وذلك، لأن اجتماعنا به هو بمثابة اجتماع لسلطة المستعرض بسلطة المتفرج، نخبره أمراً محدداً: لا نسمع استدعاء الآخر لنا، لأن لا آخر لنا، ولأننا بلا مؤخرات، فنحن لن نتبرز، وبالتالي، لن نبرز. نطلق أمامه إشاعة قاسية، عنيفة، على طريقة كثيرين، ودومينيك كاسادا هو الأقرب الى الذاكرة بينهم: لقد مات الآخر، فبعدما قمنا بكبته، بالقعود عليه مطولاً، وقفنا، وتبخر.
بعد أن صرنا نمسك المحفظة باليد، ما عاد الغير يخاف، يرتاب، اذ أن فعلنا، الذي سرعان ما يغدو فعله، يثبت له بأننا لن نبرز شيء من خلفنا، من موضع آخرنا، لأن، وفي ظننا النكراني وإياه، ما عاد هناك وراء، ما عاد هناك خلف: ما إن تحضر كغير فهذا يعني أنه لا وجود لآخر. وفي المحصلة، كل قدرتنا المالية، التي كان يحسبها قوتنا المخفية، التي تحركنا ، صارت شفافة وبائنة فورياً، ولا يمكننا أن نتعرض له بها، ولو للحظة او برهة، بل ها نحن وإياه نستعرضها على بعضنا البعض بأيدينا.
لقد جرى اختزال ورائنا، خلفنا، حيث يتموضع الآخر، بكونه محل الاحتفاظ بالقدرة المالية، ولما بانت هذه القدرة، جرى إعلان موت الوراء، موت الخلف، انتقلنا من كبته، عبر القعود على المحفظة، إلى نكرانه، عبر نزعها منه، والتلويح بها.

روجيه عوطة

تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال وحكايات معبّرة

إقرأ أيضًا

                                                                                             

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات


أيضًا وأيضًا

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها                                         




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق