كان لإدريس حمار قوي
العضلات يساعده في جميع أعماله، طول النهار، وهو إما يجر عربة صغيرة يجلب عليها
إدريس أو ابنه يوسف الحطب أو الماء. أو تراه يجر محراثا خشبيًا عتيقًا، يقلب الأرض لتعطي
منتوجًا وفيرًا...
والحمار يعمل بجد وتفان دون
كلل أو شكوى، لا يتلقى أجرًا عن عمله، لا يطلب أي شيء سوى ما يجود به إدريس
أحيانًا من حفنات شعير، أو حزمة من التبن يجلب من الحقول على العربة الصغيرة التي
يجرها الحمار نفسه، أما بقية غذائه الضروري لاستمراره على قيد الحياة، وتوفير
الطاقة الضرورية لجسمه، فهو من يسعى من المزروعات، ينتف بشدقيه نبتة من هنا ونبتة
من هناك، وهو سعيد بذلك، مكتفٍ بما هو عليه، إلى أن سمع يوما إدريس وهو في حالة
غضب شديد يسب ابنه يوسف، ناعتًا إياه بأوصاف قبيحة منها الحمار، والشرر يكاد
يتطاير من عينيه فتساءل مع نفسه، هل اسمي أنا الحمار يصلح للسب بين البشر؟ لماذا
اسمي بالضبط ما يستعمل للقدح في كل من يثير حنق الآخرين؟
أحس الحمار بظلم شديد، وقرر
أن يدافع عن اسمه وشرفه، حتى يتوقف استعمال اسمه مقرونًا بأقبح النعوت. ما كدت
أكمل كتابة هذه القصة حتى وقف بجانبي إدريس صاحب الحمار، توقفت عن الكتابة، رفعت رأسي،
فلمحت على وجهه تأجج الغضب، وهو يلتهم بعينيه الجاحظتين ما خططت على ورقة، ما أن
انتهى من قراءتها بسرعة حتى ثار غاضبًا وهو يصيح: كيف لك أن تكتب عن حماري؟ هل
تريد أن تؤلبه ضدي؟
وراح يخبط بكلتا يديه على
الطاولة، حتى بدأت تتقافز أوراقي، لم أجد بدًا من الوقوف بدوري، قلت له بعدما
تساوت قاماتنا: أنا مجرد كاتب أكره الظلم، بل أمقته، وأسعى ألا يبقى العمل به
إطلاقًا.
تراجع إدريس إلى الوراء،
ونظر إلي شزرًا من أخمص قدميّ إلى قمة رأسي، كأنه يزنني بنظراته، أو هو يحاول أن
يزن كلماته قبل إخراجها، ثم صاح بصوت مرتفع: كنْ ما شئت ولا تكتب عن حماري.
وأضاف بعدما خفّض قليلاً من
حدة صوته: الحمار وجد للعمل والمشقة، وما دخلك أنت؟
قلت له بهدوء: طبعًا ليس لي
دخل، لن أنزع منك حمارك، ولن أدفعه ليرفع عنك دعوى لدى القضاء، فقط أنبه الناس إلى
مساوئ الظلم أينما كان.
قاطعني: اكتب ما تشاء إلا
عن حماري.
بدأ إدريس يستفزني
بملاحظاته الكثيرة، ومحاولته التدخل في ما أكتب، هل يحق له أن يفرض علي المواضيع
التي سأكتب فيها؟ أنا كاتب ولست مشغلا عنده، ولا مصداقية لأي كاتب يخطط ما يملى
عليه، حاولت أن أشرح له بكل هدوء دور الكاتب في الحديث عن قيم العدل والتسامح والمساواة،
لكنه لا يريد أن يسمع، قلت له: تصور لو أن كل هؤلاء الحمير الذين يشقون صباح مساء
دون رفع كلمة احتجاج سوى النهيق بعد الشبع، تصور لو أنهم انتظموا وقادوا حركة
احتجاجية ضد مشغلهم، تصور لو أضربوا عن العمل، وقرروا ألا يستأنفوه إلا بعد تلبية
مطالبهم العادلة في حرية التعبير والتنظيم والعمل في أوقات محددة قانونيًا، وتوفير
حقهم في الضمان الاجتماعي والتقاعد والتطبيب والسكن اللائق، والعطلة المؤدى الأجر
عنها، تصور لو... قاطعني بإشارة من يده، نظر مليًا إلى الأرض، وقال: أنا إدريس أعد
من جنس البشر، وليست لدي مثل هذه الحقوق التي تتحدث عنها، لكن يظهر لي أنني أكلف
حماري بأشغال كثيرة، أعدك بأنني سأخفف عنه جزءا من الأتعاب.
وانصرف بخطى متثاقلة، بينما أنا بقيت جالسًا أسعى لإتمام
قصتي، لست أدري كيف سأنهيها، ماذا سأكتب؟ هل فعلاً سيطالب الحمار بحقوقه؟ هل
سيتحدث في الموضوع مع رفاقه وزملائه الحمير؟ ماذا سيقررون بعد ذلك؟
تابعونا
على الفيس بوك
مواضيع تهم
الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال
وحكايات معبّرة
إقرأ أيضًا
قصة وعبرة: الأموال
أغلى من الحياة
مربي البط (قصة الكاتب
الصيني مويان الفائز بجائزة نوبل)
طفل صغير يصلي في
المطار
الوشم من الرسم بالإبرة
إلى التلوين المجهري
قصة وعبرة: الأسد
والأرنب والغزال
عادات وتقاليد البيت
القروي اللبناني
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق