تَحَوُّل
صحيح أن الشتاء كان قاسياً، لا بسبب أمطاره وثلوجه فحسب، بل لأنه ترافق بالجوع الذي لم ترحم النِّمال مَظاهِرَه المتمثلة في ارتجاف جسد الصرصور ونحوله وارتجاف شفتيه وذُلّ السؤال في عينيه، ذلك الذل الذي كاد ينقلب بكاءً أمام الأبواب التي أغلقت في وجهه، لكنه لم يقل، لأن الصرصور حاول أن يظل محتفظا بكرامته...
وانسحب
إلى وكره مرتعشاً، متمنياً أن ينقضي هذا الفصل البارد بخير، راجياً أن ترى عيناه بدايات
فصل الربيع كي يُحَوِّلَ نمطَ حياته إلى وجهةٍ جديدةٍ تُخَلِّصه مما هو فيه الآن من
برد وجوع.
وهذا
ما حدث...
فما
إن دخلت أشعةٌ دافئةٌ من الشمس لتلامس جناحيه حتى نهض ينظر حوله في سعادة، ويطل على
المروج الخضراء فيرى أصدقاءَه الحشرات في عيد، خاصة تلك النمال اللواتي لقّنَّه درساً
لن ينساه.
دار
حول نفسه عدة دورات، وسارع لبدء العمل فوراً من أجل الشتاء المقبل.
مَن
لا يَدَّخِر يَذُق طَعمَ الجوع والبرد.
هكذا
عَلَّمَه موقف النِّمال منه. ومَن لا يملأ بيته مؤونة، لا يجد مَنْ يقدم له لقمة واحدة،
فهذا الشتاء علمه أنْ لا شيء بالمجان..
نسي
الصرصور الشمس والشجر.. نسي حنجرته التي جلبت لجدوده وله أقسى الصفات عبر العصور: الصرصور
الكسول، الصرصور اللامبالي، الصرصور المُقَصِّر، الصرصور المهمل... حتى كاد يصدق أنه
يحمل هذه الصفات.. بل لقد صدق وإلا.. ما سرُّ الخزائن التي تمتلئ شيئاً فشيئاً حَبّاً؟
وبعكس
حالِ الصرصور، خَفَّ إنتاجُ النِّمال هذا العام لأن أغنيات الصرصور المعتادة ما عادت
ترافق عمله الدؤوب. عُقِدَ اجتماعٌ برئاسة ملكة النمل التي أرسلت وفداً للصرصور يرجوه
أن يغني ليبث النشاط في حركة النمل العامل مقابل أن تُقَدِّمَ له الطعام كل الشتاء.
ووافق
فرحاً، وصعد إلى أقرب شجرةٍ يستعيد ألحانه الماضية يُصَفِّرُ متذكراً ألحانه القديمة
ومحاولاً أن يَبتَدِعَ الجديد.
النمل
تَسارَعَ عمله.. والصرصور الفنان صاحب الصوت الرّنّان يغني للعمال أغنية العمل التي
ستقدم له الطعام كل الشتاء.. ولكن... خطر بباله ذات يوم أن ينام حتى الظهر في الحديقة
قرب وَكْرِه ليأخذ جسده المزيد من أشعة الشمس ليختزنها، وراح يَتَقَلَّبُ بسعادةٍ يمدُّ
يده تارةً ورجله أخرى، يفتح عينيه فتلتقطان اللون الأزرق الصافي ممتزجاً بأخضر الأشجار،
فتتسع ابتسامته ولكن... آه... مَن يصرخ منادياً إياه بهذا الصوت العالي البشع؟
واحد
من حرس الملكة:
-
انهض أيها الكسول!
وقف
أمام الحارس الحامل بارودة وقد وجهها إليه، فسأله:
-
ماذا هناك؟
فقال
الحارس غاضباً:
-
بدأ العمل منذ ست ساعات وأنت نائم تحت الشمس... أتعتقد
أن الملكة ستقدم لك طعام الشتاء لقاء استمتاعك بأشعة الشمس؟
سار
الصرصور مع الحارس وبدأ يغني، ولكن بصوت فيه الكثير من الألم والحزن.. فهو، في هذا
اليوم، لم يكن يريد الغناء...
بعد
أيام، أحب أن يغني أغنية لخطيبته يُعَبِّر فيها عن شوقه لها، لكن الأغنية انقطعت في
بدايتها عندما جاءه أمر من جلالة الملكة مفاده أن الاتفاق يقول إن الغناء هو غناء عمل
وليس غناء حب.
ابتلع
الصرصور بقية الأغنية، ثم قال للحارس:
-
يجب أن تترك الملكة لي حرية الاختيار... حرية الوقت الذي
أرغب أن أغني فيه، وحرية الأغنية التي أرغب أن أغنيها، فأنا لست عبداً عندها...
قال
الحارس بغضب:
-
بل أنت كذلك... أنتَ مُلزَمٌ بالوقت، وبالمضمون، أم أنك
نسيت أننا نقدم لك طعاماً يعادل طعام عشر نملات؟ هيا...
قفز
الصرصور من فوق الشجرة، ولم يقف، كما المرة السابقة، أمام الحارس ذليلاً خائفاً على
طعامه الشتوي، بل دفع سلاحه جانباً وقال بصوت مليء بالقوة:
-
لستُ عبداً عند جلالة الملكة.. أغانيَّ أغنيها متى شئتُ
وكيفما شئتُ... أخبر الملكة أنني أجيد جمع مؤونة الشتاء كما أجيد الغناء، وأنني لا
أريد منها حبة واحدة..
وصعد
إلى الشجرة يكمل الأغنية الموجهة لخطيبته غير خائف!.
إيمان
بقاعي
اقرأ أيضاً:
قصة مشاهير: وليم شكسبير يسرق الغزال
قصة للأطفال: جدو عبدو والكومبيوتر
قصة للأطفال: ليس كل ما نتمناه يسعدنا!
قصة للأطفال: ذكريات الراعي "أبو منذر"
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق