إبداع
قال
لي صديقي باسماً:
-
شكرا جزيلاً! لو لم تدلّني على هذا المتحف الجميل، لما
شاهدت لوحات فان جوخ الرائعة!
رَبَّتَ على كتفه قائلاً:
-
الآن، سندخل قاعة السينما لنشاهد شريطاً هزلياً لـ
(شارلي شابلن) أو كما يطلقون عليه (شارلو) أتعرفه؟
قفز
من مكانه فرحاً:
-
ومن منّا، لا يعرف شارلو؟
وسكت
لحظةً، قبل أن يردف:
-
لكن.. أحقا ما تقول؟! لا أكاد أصدقك!
لمَعَتْ
عيناي من الدهشة:
-
وهل تذكر يوماً أنني كذبت عليك أو مازحتك؟!
ضَمني
بيديه الحانيتين قائلاً:
-
لا، يا صديقي، ما عهدتك إلا صادقاً في أقوالك، أميناً
في أفعالك!
جذبته
من يديه ضاحكاً:
-
إذن، هيّا ندخل إلى القاعة، قبل أن يبدأ العرض الهزلي!
لقد
انطفأ النور، اجلس هنا الى جانبي، اجلس بهدوء، لا تكلمني حتى ينتهي الشريط، كيلا
نزعج المتفرجين، إنه شريط (الضحكة الأولى) الذي يصوّر حياته، منذ أن كان طفلاً
صغيراً، بل أوّل ضحكة أو قهقهة من بين ملايين القهقهات التي أطلقت هنا وهناك، حظي
بها شارلي طيلة حياته.
هذا
حيّ (كننغتون) في لندن، عاصمة بريطانيا. حيّ شعبي قديم، تسكنه عائلة فقيرة. فيه
ولد شارلي يوم 17 أبريل عام 1889.
كان
شارلي شابلن في هذا الحي، يلتقي بأصدقائه الصغار كل يوم، يلعب ويجري ويقلد أمه
وأباه الممثلين الشهيرين في (مسرح المنوعات). إذ لم يكد يبلغ الخامسة من العمر،
حتى لقّناه دروساً في الغناء والرقص.
وهكذا
ظهرت ميوله ومواهبه الهائلة في التمثيل، أولا، بين أصدقائه في الحي الشعبي الفقير.
ثم ستظهر أكثر عندما تفقد أمه صوتها، وهي تصيح بصوت عال في قاعة الموسيقى (الميوزك
هول) فيقفز شارلي إلى الخشبة ليأخذ مكانها، ويملأ غيابها بأغنية من أغاني الطفولة
الجميلة.
ولم
يلبث الجمهور أن مال طرباً مع أغنية شارلي الخفيفة، ذات اليمين، وذات اليسار، في
سرور وحبور كبيرين، أنسته المغنية المحبوبة، أم طفلنا الفنان. وفي لحظة من اللحظات،
انطلق الجمهور الحاضر، يمطر الخشبة بالقطع النقدية، الواحدة تلو الأخرى. فتوقف
شارلي عن الغناء قائلاً:
-
سأجمع النقود أولا ثم أغني.
وهنا
غرق الجمهور في الضحك، فكانت هذه أول ضحكة في سلسلة من الضحكات المتوالية، التي لم
تنقطع إلى الآن، ولن تتوقف، مادامت شاشات السينما والتلفاز تعرض أشرطته الخفيفة.
وفي
سنة 1896 أدخلت أمه إلى المستشفى، فألحق صحبة أخيه (سدني) بمدرسة داخلية، ثم بملجأ
لليتامى. كما تعرضا أحيانا أخرى للحرمان والتشرد والنّوم في الشوارع.
أجل،
يا صديقي، هذا الممثل الكبير، كانت حياته الحافلة بالعمل والعطاء، تتقاسمها
الملاجئ والشوارع. لكنه لم يترك الغناء والتمثيل والرقص أيضاً. فقد مثّل في سن
الثامنة في شريط بعنوان (ثمانية غلمان من لانكشاير).
وعام
1907 عندما بلغ السابعة عشرة من العمر، انضم إلى فرقة هزليّة للتمثيل والرقص
والغناء، تدعى (كارنو) ليشارك في عدد من مسرحياتها التي عرضتها بفرنسا وأمريكا
وكندا ما بين 1909 و1913.
ويقول
شارلي عن بداية حياته السينمائية:
-
كنت في الاستوديو مع مخرج هوليوود الكبير (ماك سنات)
فطلب مني أن أقوم بدور مضحك. ولكني لم أعرف أي لباس للقيام بهذا الدور!
فلبست
سروالاً فضفاضاً وانتعلت حذاء كبيراً جداً، ووضعت على رأسي قبّعة صغيرة، وأخذت
عكازا بيدي. ثم تقدمت وإذا بي أتعثر حتى دست رِجل سيدة. فالتفتُ إليها، وخلعتُ
القبعة، معتذراً.
واصلت
طريقي، فدستُ أيضاً صندوقاً خشبياً، فالتفتّ إلى الصندوق، وخلعت القبعة، كما فعلت
مع السيدة سابقاً. فما كان من المصورين إلا أن أطلقوا ضحكات عالية.
ومنذ
ذلك اليوم الذي لا أنساه، بدأت أشق طريقي، حتى وصلت ما وصلته من نجاح وفخر!
ولم
يتخل شارلي عن هذا اللباس، من أول شريط الى آخر شريط.
ظلّ
وفياً لذلك اللباس في كل أشرطته. ونحن كذلك لا نعرفه في سواه. ويتألف من (قبّعة
السبّاق) و(ربطة العنق المفتوحة) و(سترة ضيقة) و(سروال واسع) و(حذاء كبير مهترئ)
و(شنب قصير)، و(عصا معقوفة الرأس)..!
عرفنا
شارلي بهذا اللباس وأحببناه!
عرفنا
شارلي أباً حنوناً على طفله الصغير!
ورجلاً
حنوناً على أصدقائه وجيرانه وكلبه الوفي!
ورجلاً
بسيطاً، مسالماً، يقع في مشاكل صعبة. لا يكاد يتخلص من مشكلة حتى يجد نفسه في
مشكلة ثانية وثالثة.. دون أن يدري!
ورجلاً
فقيراً، محروماً، يبحث هنا وهناك عن لقمة العيش، فيعمل في مصنع، مثلاً، نظير أجر
قليل، بينما المدير يجني الكثير الكثير، ويزداد غنى..!
وجندياً
باسلاً، يسخر من هتلر ويتحدّى قوته، التي تجرّ الدمار وتسقط عدداً لا يحصى ولا يعد
من القتلى والجرحى..!
كان
شارلي يعالج كل مشاكلنا بالسخرية والضحك. فالغني والفقير، والقوي والضعيف، والظالم
والمظلوم، كلهم يشاهدون صورهم الحقيقية على شاشات السينما، ليكتشفوا أنفسهم،
ويعالجوا مشاكلهم!
وفي
كل أعماله، لم يستعمل لغته الإنجليزية، أو الفرنسية، أو لغة أخرى... لا، لقد
استعمل لغة عالمية.. يفهمها الأوربي والأمريكي، الآسيوي والإفريقي والأسترالي. لغة
مشتركة بين كل الشعوب والأمم.. إنها حركات الجسد، التي هي أكثر من اللسان فصاحة
وصدقاً!
ولهذا
بقي شارلي صامتاً في الكثير من أشرطته.
هل
تعرف، يا صديقي، لماذا؟ لأنه كان، منذ طفولته، يبغض الأشرطة الناطقة، فهي جاءت
(لتفسد أكثر الفنون قِدماً في العالم، فن التمثيل الإيمائي. إنها تُلغي مجال الصمت
والحركة)، ولأن (شخصيتي تزول عندما أفتح فمي) كما يقول شارلي في مذكراته.
في
الخامس والعشرين من شهر يناير 1977 يرحل عنا شارلي، وتنطفئ شمعته الثامنة
والثمانون. لكن أعماله الرائعة ستظل حية، تشهد على عبقرية هذا الممثل الصامت:
-
كسب العيش 1914
-
المتسول 1915
-
الشارع السهل 1917
-
سلاح الكتفين 1918
-
الصبي 1920
-
فورة الذهب 1925
-
أضواء المدينة 1931
-
الأزمنة الحديثة 1936
-
الدكتاتور العظيم 1940
-
السيّد فردو 1947
-
أضواء المسرح 1952
-
الملك في نيويورك 1957
-
كونتيسة من هونغ كونغ 1966
وغير
هذه الأشرطة..!
نسيت،
يا صديقي، أن أذكر لك أن شارلي فاز سنة 1973 بأول جائزة (أوسكار) عن شريطه (أضواء
المسرح) وفيه يحكي قصة حياته لحظة لحظة، وحدثا حدثا..!
العربي
بن جلون
إقرأ أيضاً:
قصة للأطفال: اللسان سر السعادة
قصة للأطفال: يوسف وجده والكمبيوتر
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق