بسمارك المستشار الحديدي
في عام 1863 أجرى رئيس وزراء بروسيا أوتو فون بسمارك مسحاً للسَّاحَة السياسية في عصره للتعرف على اللاعبين الكبار، ورأي أنَّ معظمَ السَّطوة تَتَقَاسمها إنجلترا وفرنسا والنمسا، وكانت بروسيا مُجَرَّد ولاية بين الولايات المُفَكَّكَة في الاتحاد الألماني الهشّ، وكانت النمسا هي العضو المُسيطر في الاتحاد، وتحرصُ على أن تَظَلَّ باقي الولايات ضعيفةً ومنقسمة وخاضعة لها.
في
أَعماقه كان بسمارك يُؤْمِنُ أنَّ الأقدارَ تَدَّخِرُ لبروسيا دوراً أكبر بكثير من
مُجَرَّد التابع المُطيع للنمسا. أَدارَ بسمارك اللعبة كالتالي: كانت حركته الأولى
هي شَنُّ حربٍ مشروعة مع الدنمارك لاستعادة أراضي شليسفج - هولشتاين التي كانت
أصلاً ملكاً لبروسيا. كان يعلم أن هذه التحركات لتحقيق طموحات بروسيا في الاستقلال
سَتُخيف فرنسا وانجلترا، ولذلك أَشْرَكَ النمسا في الحرب مُدَّعِياً أنه يستعيد
شلسفيج وهولشتاين لصالحها. بعد أشهر قليلة انتصرَ في الحرب وطالب بِضَمِّ الأراضي
التي استولى عليها إلى بروسيا، غَضِبَ النمساويون بالطبع ولكنهم ساوموا: وافقوا
على مَنحِ شلسفيج لبروسيا، وبعدها بعام باعوا لهم هولشتاين، وبدأ العالم يرى أن
النمسا آخذة في الضّعف وأن بروسيا تزداد قوة.
كانت
خطوة بسمارك التالية هي الأَجْرَأ: في عام 1866
أَقنعَ ويليام ملكَ بروسيا بالانسحاب من الاتحاد الألماني، وكان ذلك بمثابة شَنّ
حربٍ على النمسا ذاتها، وهي حربٌ عارضتها بِشِدَّةٍ زوجةُ الملك ومعها ولي العهد
وأمراء الممالك الألمانية الأخرى، ولكن بسمارك بشجاعته وقوة رأيه استطاع أن يُطلق
قرار الحرب، وانتصر جيش بروسيا المتفوق على النمسا في حرب الأسابيع السبعة
الوحشية. بعدها أراد الملك والجنرالات أن يواصلوا الزحف نحو فيينا للاستيلاء على
أكبر مساحة من الأراضي النمساوية، لكن بسمارك أوقفهم - وانضمَّ للجانب المُؤَيِّد
للسلام، وكانت النتيجة حصوله على معاهدة مع النمسا تمنحُ بروسيا والممالك
النمساوية الأخرى حكماً ذاتياً مطلقاً، وهكذا استطاع بسمارك أن يجعل بروسيا القوة
المهيمنة في ألمانيا، ورَئِسَ الاتحاد الألماني الشمالي الذي تَشَكَّل لاحقاً.
بدأ
الانجليز والفرنسيون يرون في بسمارك شبيهاً بآتيلا ملك الهن (أقوى من غزا
الإمبراطورية الرومانية في الأعوام 433
– 453)
وخافوا من أنه يُخَطِّط للسيطرة على كل أوروبا، وأنه بمجرد أن ينطلق في طريق
الانتصارات فلن يستطيع أحدٌ أن يوقفه. والحقيقة أن بسمارك بعدها بثلاث سنوات
استدرج فرنسا لخوض الحرب مع بروسيا: في البداية أظهر أنه لا يمانع أن تستولي فرنسا
على بلجيكا، ولكن في اللحظة الأخيرة غَيَّرَ رأيه، وبلعبة القط والفأر هذه أغضب
الإمبراطورَ الفرنسي نابليون الثالث واستنفر الملك البروسي ضد فرنسا، واشتعلت
الحرب في عام 1870
وانضم الاتحاد الألماني الجديد بحماس في الحرب إلى جانب بروسيا ومرة أخرى استطاعت
العسكرية البروسية مع حلفائها تدمير جيش العدو في عدة أشهر، وعلى الرغم من أن بسمارك
كان يعارض الاستيلاء على أي أراض فرنسية إلا أن جنرالاته استطاعوا أن يقنعوه بضم ألْسيس
لورين إلى الاتحاد الألماني.
عندئذ
أصبحت كل أوروبا تتخوف من الخطوة التالية للوحش الروسي الذي يقوده «المستشار
الحديدي» بسمارك، وبالفعل أعلن بسمارك بعدها بعام تأسيس الإمبراطورية الألمانية وتُوِّجَ
ملكُ بروسيا إمبراطوراً وجعل من نفسه أميراً. لكن بعد ذلك حدث شيء غريب: لم يُعَدُّ
بسمارك يدعو إلى شَنِّ المزيد من الحروب، وفي حين كانت القوى الأوروبية الأخرى
تنهب أراض في القارات الأخرى لتأسيس مستعمراتها كان بسمارك يعارض إنشاء المزيد من
المستعمرات الألمانية، فلم يكن يربد لألمانيا المزيد من الأرض بل المزيد من الأمن،
وظل لما تبقى من حياته يسعى لإقرار السلام في أوروبا ولمنع المزيد من الحروب. ظن
الجميع أن بسمارك قد تَغَيَّرَ على مر السنين وأن التجارب أنهكته، ولكنهم أخطأوا
في فهم حقيقة أن تلك المرحلة هي التي اختارها بسمارك من بداية مشواره.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
إقرأ أيضاً:
قصة وحكمة: لوستيج النّصَاب المحتال يبيع برج إيفل
قصة وحكمة: إيفان الرهيب يُمزِّق أعداءه
قصة للأطفال: عقوبة واحدة لا تكفي
قصة وحكمة: آرتينو جلاد الأُمراء يضرب بالحديد
قصة للأطفال: الصّيّاد وجِنَِية البحر
قصة وحكمة: فاسكو دي بالبوا لا يجيد التخطيط
قصة للأطفال: قيمة الكائن في فطنته
قصة للأطفال: ثلاث سمكات ذهبيات
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق