رحلة
مرّت سنواتٌ عدة، وأنا مازلتُ بعد أتذكّرُ تفاصيلَ هذه الرحلةِ، وكأنها حدثت منذُ وقتٍ قصيرٍ. تبدأ الحكايةُ عندما كان جدي يصحبني دوماً في عطلةِ نهاية الأسبوعِ. فكنا نشدُّ الرحالَ نهايةَ كل أسبوع، حيث مَعْلَمٌ جديد، وأثرٌ شاهدٌ على تاريخِ البلدِ. وما بين القطارِ، والعربة القديمة الخاصة بالجدِّ، وكذلك الحافلات المكيّفة، تتنوع وسائل المواصلات في كلِّ مرة، بل إننا ركبنا مرة طائرة نقل ركاب صغيرة.
وفي عطلةٍ
من العطلاتِ، ركبنا
سيارةَ الجدِّ القديمة،
حينها علمت أننا لن
نفارقَ المدينةِ. عندما أخذ
الجد يخرجُ من
طريقٍ إلى آخرٍ
ومن شارع إلى
الذي يليه، لاحت
لعيني أسوار عالية
ضخمة، بأبراج مراقبة
عالية، أسلاك شائكة
فوق الأسوارِ. اقتربنا فرأيت
بعض الحواجز المعدنية،
وأكياس الرمل المرصوصة
فوق بعضها البعضِ،
وعلى مقربة منها
وقفت عرباتُ حراسة
كبيرة.
بوابةٌ ضخمةٌ
في منتصفِ السورِ،
انتشرَ كثيرٌ من
رجالِ الأمنِ أمامها
وحولَها، وكلاب مدرّبة
أمسك بها الحراسُ
عن طريقِ أطواقٍ
جلديةٍ قويةٍ حول
رقبتِها وجموعٌ غير
قليلةٍ من الناسِ،
افترشَ معظمهم أسفلت
الشارع الواقع أمامَ
الأسوارِ على مقربةٍ
من البوابةِ الضخمةِ. أردتُ أن
أسأل الجدَّ عن
ماهيةِ هذا المكانِ،
عندما طالعتني تلك
اللافتة الحديديةِ، بمنظرِها
الكئيبِ والحزينِ، وبحروفِها
التي حاولت جاهدةً
أن تقاوم عوامل
الجوِّ والزمنِ. لقد كان
سجناً من أكبر
سجونِ بلدتِنا، للنساء
فقط.
أخذت أراجع
تفاصيلَ الأيامِ السابقةِ،
والتي ربما تحملُ
بعضَ الشواهد لما
نحن عليه الآن. فقبل
ثلاثة أيام اصطحبني
الجدُّ إلى أحد
المراكزِ التجاريةِ الضخمةِ
الواقعةِ على أطرافِ
المدينةِ، يومها رأيتُ
الجدَّ وقد أصابتهُ
نوبةٌ شراء كبيرة،
بل لعلّ الأغرب
هو نوعية البضائعِ
والسلعِ التي كان
الجدُّ يشتريها.
أعدادٌ كبيرةٌ
من الحفاظاتِ. علبُ لبنٍ
مجفّف. بطاطين أطفال. ملابس
أطفال. لعب أطفال. لم
أنتبه وأنا أركبُ
عربة الجدِّ، إلى
أن هذه الأشياء
ظلت تملأ المقعد
الخلفي، وحقيبة العربةِ
القديمةِ.
كسرت جدارَ
الصمتِ، وأنا أرى
الجدَّ يبحثُ في
جيبه عن شيءٍ
ما، عندما أخرجَ
بعض الأوراقِ المطويةِ
بعنايةٍ، وقد همّ
بالترجلِّ من العربةِ:
- جدي... هل
هذا السجن هو
مكان زيارتنا حقاً؟
قال الجدُّ
وهو يحاول منع
ضحكة عالية: نعم
سندخله يا رحمة،
والآن كفّي عن
أسئلتك حتى نجتاز
إجراءات الزيارة. اجتاز الجدُّ
إجراءات الدخول بسرعةٍ،
فلقد كان يحملُ
مع أوراقِ الزيارةِ
الرسميةِ، توصيةً من
أحد أصدقائِهِ، من
رجالِ الأمنِ. وفي مكتب
آمر السجنِ تم
استقبالنا بحفاوةٍ كبيرةٍ
من آمر السجنِ،
الذي أخذ يثني
كثيراً على لطفِ
الجدِّ وإنسانيتِهِ، إلى
غير ذلك من
كلماتِ المديحِ والإطراءِ،
التي لا يحبّها
الجدُّ. أخبر آمرُ
السجنِ الجدّ أن
بعض رجال الأمنِ
يفرغونَ العربةَ الآن،
ولن يمر وقتٌ
طويل حتى يتم
توزيعها على المستحقين.
شعر الجدُّ
بتململي، وكذلك آمر
السجنِ. فقال للجدِّ:
أتمانع لو أننا
تركناها تتجول داخلَ
السجنِ قليلاً؟
قال الجدُّ
بعد تردّدٍ كبيرٍ:
لا، ليس هناك
مانعٌ. ولكن هل...
قاطعهُ آمرُ
السجنِ بأدبٍ قائلاً:
لن نتركها بمفردها،
بل ستكون برفقةِ
إحدى سيدات الأمنِ
داخل أروقةِ السجنِ.
كانت نحيفةً
جداً، ترتدي زيّ
سيدات الأمن المكوّنِ
من قطعتين ثقيلتين. وقد
بدت حانقةً على
رفقتها لي، ولسان
حالها «هل أصبح
السجن هو الآخر
مزاراً سياحياً»؟ من بعيد
تعالى صوت ينادي
عليها، فلم تنتظر
حتى تتركني برفقةِ
زميلةٍ أخرى، بل
سارعت بإفلات يدي
والسعي بعيداً، دون
أي مقدمات، وقفت
في مكاني لا
أدري ما الذي
أصنعه، فتركت قدمي
تسوقني حيث تشاء.
في إحدى
الطرقات الواسعة التي
تُفتح أبوابَ العنابرِ
عليها، كانت كانت
حركةٌ وضوضاءٌ في
المكانِ، وقد فتحت
أبواب العنابرِ في
هذه الساعاتِ المبكرةِ
من الصباحِ. العيونُ ترمقني
بدهشةٍ، محاولةً أن
تجد إجابةً عن
هذا السؤالِ «من هذه
الطفلةِ الصغيرة»؟ تنوّعت الإجابات،
ربما كان الأمرُ
كذلك. لم أنتظر
كثيراً لأسمعَ الإجاباتِ. فسرت
أتجوّل بين العنابر
المختلفةِ بمفردي. كانت دهشتي
لا توصف لما
رأيته، فأن يكون
هذا المكان سجناً
لمجموعةٍ من النساء
اللاتي أخطأن في
ما مضى، فربما
يكون هذا أمراً
ممكناً، أما أن
يحوي هذا السجنِ
بين جدرانِهِ أطفالاً
رضّعاً، وأطفالاً يزحفون،
وآخرين يتعثّرون في
سيرِهم، فهذا شيء
غير متوقع!
أم سجينةٌ
تُرضعُ صغيرَها. أمعن النظرَ
إليها وأنا أحدّث
نفسي قائلةً :«مَن
الذي أتى بهذا
الطفلِ وغيرِه إلى
هنا؟ ما الذي
يفعلونَه هنا؟ كيف
يعيشون؟ هل يظلون
هنا حتى تنتهي
فترة عقوبة الأم
المسجونة؟ هل تدخل
به الأم السجينة؟
أم أنه يولد
داخل السجن»؟ لما
لم أجد إجابة
لأي من هذه
الأسئلة، انتبهت الأم
السجينةُ لوجودي، بعد
أن استكانَ رضيعها
على صدرِها.
بسمةُ الأم
السجينة بدت لي
باباً للحديثِ إليها،
فتحرّكت إليها، وفي
صمتٍ وضعت راحتي
على رأس رضيعِها،
أتأكد من أنه
حقيقي، دار حوارٌ
بيني وبين الأمِّ
السجينةِ. لم أعرف
عنها شيئاً بقدر
ما عرفَت هي
عنّي الكثير، وعن
سبب الزيارةِ. الأمُّ السجينةُ
تتأكد من نوم
طفلِها تماماً، تضعه
فوقَ السرير المنخفض
بعد أن جعلت
بجوارِهِ وسادةً مانعةً
له من الوقوعِ،
ثم احتضنت يدي
دون مقدمات ومشت
بي قليلاً داخل
الردهةِ الواقعِة على
جانبيها عنابرَ السجنِ. وصلنا
إلى غرفةٍ متوسطة
الحجمِ، ولكنها ملأى
بأطفالٍ كثر، شبّهتهم
لأول وهلةٍ بثمارِ
التوتِ الأبيضِ. ففي حديقةِ
جدي في القريةِ
تقع شجرةُ توتٍ
أبيضٍ، كلما ذهبت
لأجلسَ تحتها في
الصيفِ، أرى توتها
الأبيضِ المتناثرِ تحتها
يشكّل منظراً رائعاً،
فأظل أحدّق إليه
دون أي رغبةٍ
في تناولِهِ. لا أعلم
لِمَ شبّهتهم بهذا
المشهد للتوتِ الأبيضِ،
غير أنني عندما
رأيتهم ينتشرون داخلَ
أرجاء الغرفةِ المتوسطةِ،
يلهونَ ويلعبون دون
أن يفكروا لحظةً
في أنهم مقيّدونَ
في هذا المكانِ،
أدركت كم هي
قصيرة لحظات البشرِ
من عمر هذا
الكون، غير أن
صورة هؤلاء الأطفال
وهم يلعبون، أبلغ
دليل على فطرةِ
البشرِ في أن
يكونوا أحراراً، حتى
داخل سجونِهم. إنها تلك
اللحظاتِ الثمينةِ التي
يتمناها كل كائن
حي، يفتقدها، مهما
كان نوعه أو
جنسه.
وفي أحد
الأسرة العالية، على
مقربةٍ منه شباك
قصير الأركان، جلست
أم سجينة، وطفلها
الذي ربّما لم
يتعد عامه الثاني
بعد يحاول أن
يصعدَ على صدرِها،
ليمسكَ بقضبانِ الشباكِ
الحديديةِ، وهي تحاول
جاهدةً أن تبقيه
متوازناً حتى لا
يقع، وبعد محاولات
عديدة فاشلةٍ ينجح
الطفلُ الصغيرُ في
أن يمسكَ بقضبانِ
الشباكِ الحديدي، وفرحة
النصرِ تلوحُ فوقَ
وجهِه البريء. كانت تلك
اللحظات الطفولية هي
أقصى لحظات المتعةِ
لأبناء السجيناتِ، وفي
الوقت نفسه هي
أقصى لحظات العذابِ
والألمِ لهن أيضاً.
ما أتعسها
من لحظاتٍ في
حياةِ هؤلاء الأطفالِ
عندما يبلغون السعي،
فيعلمون أن ولادتهم
كانت داخل أروقةِ
السجونِ، بل إن
سنوات طفولتهم الأولى
كانت بين جدران
عالية، كئيبةٍ!، كل ما
حولهم شاهد على
الجريمةِ، شاهد على
خطأ ربما لا
يفوت من دون
عقاب، ولهذا يتم
سداد قيمته، بالثواني
والدقائق والساعات.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
قصة للأطفال: الفيل الذي
أراد أن يعبر النهر
قصة ملهمة: التلميذان
والدودة الغليظة
قصة للأطفال: الدجاج يتعلم
الغوص
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق