أَميديو موديلياني وحبيبته جانّ هيبوتيرن
صحيح أَنها اشتُهرت في أَوساط عصرها بكونها حبيبة موديلياني الذي خلَّدها في لوحاته، لكنها عاشت معه أَتعس قصة حب مأْساوية بين رسام ورسامة.كانت شعاع أُنوثة طاغية بجمالها وعُذُوبتها، ذاتَ رقَّة لافتة، وتَعَلُّقٍ به غير عاديّ، وكان هو مستهترًا بصحته، مدمنًا أَبشع حالات السُكر والهذيان.
صديقُه
الكاتب السويسري شارل أَلبير سينغريا (1883
– 1954)
وصفَ جانّ بـ”اللطيفة، الهادئة، الهانئة، الخجول”، ورأَى إِليها أَصدقاؤُه وعارفوه
صبيةً جميلةً تميَّزت بشعرها الكثيف الطويل يظهر دومًا منمَّقًا في لوحات الفنان.
نادرًا
ما كانا يظهران معًا. كانت تكتفي بأَن تجلس له في محترفه، فيرسُمها في حالات
وأَوضاع مختلفة، مرتدية أَو نصف عارية أَو حتى عارية، حتى غدَت في الأَكثرية
المطلقة من لوحاته.
كان
موديلياني فترتئذٍ غادر موطنه إِيطاليا (وُلد في ليڤورنو سنة 1884)،
حمل ربيعه الثاني والعشرين، وجاء يلتحق ببوهيميِّــي پاريس مع فجر القرن العشرين.
انطلق
سنة 1906
في عاصمة الفنون، مشكِّلًا شهرة مميزة برسمه نساء كثيرات وبوَسامته اللافتة
يجذبهنّ إِلى محترفه. لم تكُن تُزعجه صفة “الپلاي بوي” يُغدقها عليه زملاؤُه، فهو
فعلًا كان مستهترًا، لاهيًا، غارقًا في الملذات، متنقِّلًا من عشيقة إِلى أُخرى.
أَبرزُ
ما شاع في أَوساط پاريس الفنية من تمايُزاته التشكيلية مغايرًا موجةَ الانطباعية
والتكعيبية عهدذاك، أُسلوبُه الخاص في الرسم بإِطالة الوجه والعنق والجسم عموديًّا، ما كان جديدًا على المدارس الفنية
الپاريسية وخارج التصنيف. وهو اعتمده منذ أُولى محاولاته في الرسم، حتى قبل
انتسابه إِلى الدراسة الأَكاديمية لدى الرسام ميكيلّي في ليڤورنو (1898-1900)
ولدى الرسام موريلِّي في روما (1901-1902)
ولدى أَكاديميا الفنون الجميلة في فلورنسا
(1904).
حين
وصل إِلى پاريس (1906)
انصرف أَوَّلًا إِلى النحت، قبل أَن يشتهر بأُسلوبه في لوحاته الزيتية بين 1916
و1919، كلَّفه بمعظمها صديقُه تاجر الفن الشاعر
الپولوني ليوبولد زْبوروڤسكي (1889
– 1932)
وزوَّده بمعداتٍ وأَدوات للرسم ومدخول ثابت وأُجور النساء الموديلات في محترفه،
فنحا أَميديو بريشته إِلى ملامح الأَقنعة جامعًا تقنية الأُسلوب التكعيبي إِلى
الأَفريقي إِلى المصري إِلى الآسيوي.
جانّ
العاشقة، إِنها الصبيَّة الفرنسية "جانّ هيبوتيرن" (Jeanne
Hébuterne)،
(1898
– 1920) ،
رغِبَ شقيقُها أَندريه أَن يَدخل أَوساط عالَم الرسم، فجاء بها من بلدة ولادتها
(“مو” في مقاطعة إِيل دو فرانس شمالي فرنسا) إِلى أَوساط مونپارناس الفنية في
پاريس، وقدّمها إِلى عدد من الرسامين كي تكون موديلًا فنيًّا لهم في محترفاتهم،
أَبرزُهم الفرنسي الياباني الأَصل تْسوغوهارو فوجيتا (1886
– 1968)
الذي رسمها في أَوضاع مختلفة فظهرت في عدد من لوحاته.
أَغراها
هذا الوسط الفني فرغبَت هي أَيضًا أَن تحترف الرسم. في ربيع 1917
قدَّمتْها صديقتُها النحاتة شانا أُورلوڤ (1888
– 1968)
إِلى “أَكاديميا كولاروسّي للرسم والنحت” (أَسَّسها في پاريس الرسام والنحات
الإِيطالي فيلـيـپُّـو كولاروسي سنة 1870
وأُقفلت بوفاته سنة 1930).
وكانت أُورلوڤ تدرس النحت وتستفيد من موديلات النساء في الأَ كاديميا، وبينهنَّ
جانّ.
في
الأَكاديميا تعرَّفت جانّ بالرسام والنحات الإِيطالي الشاب آماديو موديلياني (1884
– 1920)
وكانت شهرته بدأَت تسري في پاريس. لَفَتَتْهُ ابنةُ التاسعة عشرة بجمالها الخاص
وأُنوثتها العذبة، وسرعان ما أَنهى علاقتَه فترتئذٍ بالشاعرة والناقدة الفنية
البريطانية بياتريس هاستِنْغْسْ، وارتبط بجانّ، وانتقلا للعيش معًا في شقَّته
القريبة من الأَكاديميا في شارع “لا غراند شوميـير”. ومن يومها اشتهرت جان
بـ”موحِيَة أَميديو” وظهرت في معظم لوحاته.
منذ
تعرَّفت به وجدَت فيه شابًّا وسيمًا، جذبها إِليه ذكاؤُه وشيْءٌ من الغيرة النسوية
لكونه محاطًا بالمعجَبَات في الأَكاديميا وخارجها، فعقدَت معه علاقةً بدأَت هادئة
ثم تحوَّلت بسرعة إِلى عاصفةٍ من الحب والشغَف والجنون. وبالرغم من معارضة أَهلها،
انتقلَت للسكن معه في شُقَّته، غير حادسةٍ بأَن حياتها معه ستكون مجرَّحة بالعذاب
والشقاء. فهو كان مدمنًا على الخمر والمخدِّرات حتى السُكْر الأَعمى، محاولًا
بإِدمانه تخفيف آلامه من إِصابته بالسلّ منذ مطلع صباه، وكان ذاك مرضًا تفشَّى في
پاريس مع مطلع القرن العشرين وأَودى بالمئات لفقدان علاجٍ ناجعٍ له.
كان
والدَا جانّ من بيئة دينية كاثوليكية مُحافِظة، فعارضا العلاقةَ “غير الشرعية” بين
ابنتهما والرسام البوهيميّ، وقرارَها الانتقال للعيش معه في شقته، وخصوصًا لصيته
السيِّـئ كمدمن مخدرات و”زير نساء”. لكنّ جانّ لم تأْبه لمعارضتهما. بقيَت على
علاقتها به، وانتقلَت تعيش معه. وهو لم يكن، في تلك الحقبة، مدركًا مدى تغلغُل
السِل في جسده المتهاوي، وأَنه لن يعيش طويلًا معها.
مع
نهاية الحرب العالمية الأُولى، في خريف 1918،
غادر الحبيبان پاريس إِلى مدينة نيس، وأَبقيا صداقةً مشتركة مع أَعلام مثل أُوغست
رنوار وپابلو پيكاسو وجيورجيو دو شيريكو.
ثم
انتقلا إِلى نيس، ولماذا نيس؟ لدفْء مناخها، ولتَصَوُّر وكيل أَعمال أَميديو
إِمكانَ تسويق لوحاته لدى أَغنياء الريڤييرا الفرنسية ممن كانوا يُمضون فيها
شتاءَاتهم. في نيس ولدت ابنتُهما جانّ (29
تشرين الثاني/نوڤمبر 1918).
ولدى عودتهما إِلى پاريس في ربيع 1919
كانت جانّ حبلى من جديد. لكن صحة آماديو بدأَت تسوء بسبب مرض السحايا الذي أَصابه
من مضاعفات السل.
أَخذَت
جانّ تهتمُّ به، قلقةً عليه وهي به مجنونةُ حب. نسيَت الرسم وانصرفَت إِلى العناية
به إِذ ساءَت صحتُه في الأَشهُر الأَخيرة من حياته. أَشهُر أَمضتْها في القهر
وأَمضاها في العذاب، وبات أَضعف من أَن يرسُم بسبب شلل عامّ ضرَب جسده.
صباح
السبت 24
كانون الثاني/يناير 1920
تدهْوَرَ وضعُه الصحيُّ كلِّيًّا. استدعَت طبيبه الذي وصل فوجده في الغيبوبة
النهائية. وتوفّي مساءً طاويًا معه ربيعه الخامس والثلاثين.
قبل
أَن يترك لها أَهلُها فرصة وداعه الأَخير في مأْتمه عصرَ اليوم التالي (الأَحد)،
جاء شقيقُها واصطحَبها عنْوَةً إِلى بيت أَهلها، كاسرًا رغبتَها في البقاء إِلى
جثْمان حبيبها. نامَت ليلتها ولم تَــنَم. كانت بين كابوس وفاة أَميديو، وفكرةٍ
للصباح أَخذَت تكبر في بالها، وهي في مستنقع هائل من الحزن الـمُضْني.
أَطلَّ
صباح الأَحد 25
كانون الثاني/يناير1920.
صحَت من كابوس الليل. بقيَت فكرة الصباح. نهضَت من فراشها، تتردَّد في عينيها
صُورة حبيبها لحظةَ أَغمض عينيه للمرة الأَخيرة على كلامٍ أَراد أَن يقولَه لها
لكنَّ نَفَسَه انطفأَ في صدره.
وقفَتْ
إِلى النافذة. نظرَت إِلى الشارع من ذاك الطابق الخامس. أَغمضَت عينيها لتلاقي
عينيه، وقفَزت من النافذة فارتطمَ جسدها الناحل ببلاط الرصيف، ما تسبَّب بموتها
الفوري وموتِ الجنين في أَحشائها.
دفَنَها
أَهلُها في مدفن عام. وما إِلَّا بعد عشْر سنوات، وعلى طلَب خاصّ من إِيمانويل
(شقيق أَميديو) حتى وافقَت أُسرةُ جانّ على نقل رفاتها (سنة 1930)
إِلى مقبرة “لاشيز”، حدّ حبيبها.
زوَّار
الضريح اليوم يقرأُون محفورةً على بلاطته هذه الكلمات: “حياة إِخلاص ووفاء حتى
الشهادة القصوى”.
مات
موديلياني حزينًا، لا يعرف لوحاته سوى بعض أَصدقاء في حلقته الضيقة. لكن شهرته،
بعد سنوات من غيابه، أَشرقَت حتى باتت لوحاته اليوم من الأَعلى ثمنًا في العالم.
ابنته
اليتيمة جانّ موديلياني (1918-1984)
تبنَّتْها عمَّتُها في فلورنسا، فنشأَت لا تعرف الكثير عن والدَيها (كانت في شهرها
الخامس عشَر يوم تُوُفِّيَا). وحين كبرَت راحت تبحث عن سيرتهما ومَسيرتهما. بعد 40
سنة على وفاتهما أَصدرت كتابها بالإِيطالية (1958)
عن سيرة والدها، وصدر بالإِنكليزية (ترجمة إِسْتِر رولِنْد) في الولايات المتحدة
الأَميركية بعنوان “موديلياني: الرجل والأُسطُورة”.
في
الكتاب 136
لوحة ورسائل وملاحظات وصُوَر فوتوغرافية، وتسلسل بيوغرافي يدلُّ على تطوُّر عمله
عبر السنوات، وشخصيته الغريبة المتطرِّفة، وحوارات مقابلاتها مع أَشخاص عرفوت
والدَيها وأَدلوا بإِفادات هي اليوم ذخيرة معلومات لنقاد الفن، منها سنواته
الأُولى في إِيطاليا، ورحلاته وتنقُّلاته وأَعماله، وعلاقاته المتعددة ومغاليَاته
في فرنسا، والتحدِّيات الصعبة التي واجهها في تسويق أَعماله، حتى كان يلجأُ إِلى
أَصدقائه يستدين منهم، لكن ذلك لم يسعفْه في معيشته، فمات في فقر قاهر ومرض قاتل.
بقيت
جانّ الابنة 30
سنة محتفظة بأَعمال أَبيها حتى أَقنعها ناقد فني بالكشْف عنها، فتَمَّ ذلك في
تشرين الأَول/أُكتوبر 2000
بمعرض كبير في البندقية.
وكان
الكتاب إِطلالة واسعة على رسَّام ورسَّامة جمعتْهُما الحياة، جمعَهُما الموت،
وجمعَهُما خلودٌ لن تمحو أَصداءَه أَصواتُ السنوات.
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
قصة للأطفال: رفيدة تنصح
الحدأة
قصة للأطفال: أروع صديقين
في العالم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء
عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق