السبت، 15 يونيو 2024

• نوادر العرب: الغراب المتهم


الوفاء

في إحدى زِياراتِهِ إلى ديارِ بني عجلانَ، وَصَلَ يُوسُفُ التَّيميُّ مُتْعَبًا بَعْدَ سَفَرٍ طَويلٍ، مُمتَطِيًا فَرَسًا أَسْوَدَ، وقد تراكمَ عليهِ الغُبارُ مِن شِدَّةِ المسيرِ. عِندَ دُخولِهِ إلى أَزِقَّةِ الدِّيارِ، لَقِيَهُ أَطفالٌ يَلعَبونَ في الطريقِ، فَأَوْقَفَ فَرَسَهُ وسَأَلَهُم: "يا أَولادُ، أَيْنَ أَجِدُ بيتَ وَرَقَةَ بْنِ عَابِدٍ؟"

تَقدَّمَ أَحدُ الصِّبْيَةِ وقالَ: "أَنا ابْنُهُ، مَاذا تُريدُ؟"

فَأَجابَهُ يُوسُفُ: "أُريدُ مُقابَلةَ والِدِكَ."

رَدَّ الصَّبيُّ بِتَحَدٍّ: "أَنا ابْنُهُ، وَمِن حَقِّي أَنْ أَعرِفَ مَاذا تُريدُ مِنهُ. إِمَّا أَنْ تُخبِرَنِي أَوْ لَنْ أَدُلَّكَ على بيتِنا."

أَجابَهُ يُوسُفُ بثِقَةٍ: "لَنْ أُخبِرَكَ. سَأبْحَثُ عن أَحَدٍ آخَرَ لِيَدُلَّنِي على بَيْتِكُم."

لكنَّ الصَّبيَّ أَصَرَّ قائلًا: "أَنا القَائِدُ هنا، وَلَنْ يَفْعَلَ أَحَدٌ شَيئًا ضِدَّ إِرَادَتِي."

فقالَ لَهُ يُوسُفُ مُحَاوِلًا التهدِئةَ: "حَسنًا، حَسنًا. مَعي مالٌ قد أَخذتُهُ مِن أَبِيكَ دَيْنًا، وأَوَدُّ الآنَ إرجَاعَهُ إِليهِ."

سَأَلَهُ الصَّبيُّ: "وكَمْ هُوَ هَذَا الدَّيْنُ؟"

أَجابَ يُوسُفُ: "أَربَعُمِئةِ دينارٍ."

فَنَظَرَ إِلَيهِ الصَّبيُّ بتَعَجُّبٍ وقالَ: "يبدو أَنَّكَ قد سافَرتَ مِن بعيدٍ، وتَعِبتَ كثيرًا مِن أَجْلِ أَربَعِمِئةِ دِينارٍ؟"

رَدَّ عليهِ يُوسُفُ: "الحَقُّ يَجِبُ أَنْ يُرَدَّ، مَهْمَا كانَ صَغيرًا أو كَبيرًا."

فَقالَ الصَّبيُّ بَعدَ تَفْكيرٍ: "أَبي رَجُلٌ كريمٌ ومُقدَّرٌ بين قَوْمِهِ، إِذا عَلِمَ أَنَّكَ قد جِئتَ مِن مَكانٍ بعيدٍ لِهَذا المَبلَغِ، فَسَيَغْضَبُ عليكَ. فَماذَا تَقْتَرِحُ أَنْ تَفْعَلَ؟"

اقْتَرَحَ الصَّبيُّ بِدَهاءٍ: "أَعْطِنِي المالَ، واذْهَبْ إلى أَبِي كَأَنَّكَ في زِيَارَةٍ وُدِّيَّةٍ. إِذَا سَأَلَ عَنِ المَالِ، سَأُعْطِيكَ إِيَّاهُ لِتُعِيدَهُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ، سَتُكْمِلُ زِيَارَتَكَ وَتَرْحَلُ، وَأَنا سَأُعطِيهِ المالَ بَعْدَ مُغادَرَتِكَ. بِهَذِهِ الطَّريقَةِ لَنْ يَغْضَبَ عليكَ وسَتَكُونَ قَدْ سَدَّدْتَ دَيْنَكَ."

وافَقَ يُوسُفُ قائلًا: "حَسنًا، خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ وَافعَلْ كَما قُلتَ." أَعْطَى يُوسُفُ الصُّرَّةَ لِلصَّبِيِّ، وأَشَارَ الصَّبِيُّ إلى بَيْتٍ في نِهَايَةِ الطَّريقِ قائلًا: "ذَاكَ هو بَيْتُنا."

تَوَجَّهَ يُوسُفُ إلى الدَّارِ، وطَرَقَ البَابَ قائلًا: "يا وَرَقَةُ، أَنا يُوسُفُ بنُ صَخْرٍ التَّيْمِيُّ."

فَفَتَحَ لَهُ وَرَقَةُ البَابَ بِحَفاوَةٍ قائلًا: "مَرْحَبًا بِالكَرِيمِ ابنِ الكِرامِ، تَفَضَّلْ بالدُّخولِ." ثُمَّ قادَهُ إلى داخِلِ الدَّارِ ورَبَطَ فَرَسَهُ في حَلْقَةٍ كانَتْ مَوْجُودَةً.

سَأَلَهُ يُوسُفُ بَعْدَما جَلَسَ: "لَقَدْ جِئتُ إليكَ بزيارَةِ مَحَبَّةٍ ووُدٍّ. هَلْ هذا الصَّبِيُّ الذي يَلْعَبُ في الطَّريقِ هو ابْنُكَ؟"

أَجابَهُ وَرَقَةُ: "نَعَمْ، هذا سَعِيدُ بنُ وَرَقَةَ."

قالَ لَهُ يُوسُفُ: "هو مَن دَلَّنِي على دارِكُمْ."

استغرَبَ وَرَقَةُ وقالَ: "كَيفَ دَلَّكَ بِهَذِهِ السُّهُولَةِ؟ فَهُوَ لَيْسَ كَغَيرِهِ مِنَ الغِلْمَانِ. إِنَّهُ يَستَطِيعُ تَغييرَ آراءِ الرِّجالِ بِما يُرِيدُهُ. فَلَابُدَّ أَنَّهُ جَرى بَينَكُما أَمْرٌ عَظيمٌ."

أَصَرَّ يُوسُفُ على عَدَمِ الإِفصاحِ عَمَّا حَدَثَ، مُشيرًا إلى أَنَّهُ يُريدُ اخْتِبارَ أمانَةِ الغُلامِ. بَعْدَ انتِهاءِ الزِّيارةِ، غادَرَ يُوسُفُ.

في المَساءِ، تَوَجَّهَ الغُلامُ إلى أَبيهِ وسَأَلَهُ: "يا أَبِي، هَلْ ذَهَبَ الرَّجُلُ الذي جَاءَكَ اليَوْمَ؟"

أَجابَ وَرَقَةُ: "نَعَمْ، لَقَدْ أَكْرَمْناهُ وذَهَبَ في طَريقِهِ."

سَأَلَ الغُلامُ: "هَلْ كانَ بَينَكُما دَيْنٌ ماليٌّ؟"

فَأَجابَ وَرَقَةُ: "لا، لَمْ يَكُنْ بَينَنا أَيُّ دَيْنٍ. كانَتْ زِيارَةً وُدِّيَّةً قَدِيمَةً، فبيننا صَداقَةٌ مَتينَةٌ."

رَدَّ الصَّبِيُّ بِحُزْنٍ: "لَقَدْ خَدَعَنِي الرَّجُلُ."

استَغْرَبَ وَرَقَةُ وسَأَلَهُ: "كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ والرَّجُلُ مِنْ أَصدَقِ الرِّجالِ وأَوفاهُمْ عَهْدًا؟" فَرَوى لَهُ الغُلامُ ما حَدَثَ.

قالَ لَهُ وَرَقَةُ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ القِصَّةَ: "أَخطَأْتَ يا بُنَيَّ، كانَ يَجِبُ أَنْ تَدُلَّهُ على الدَّارِ فَقَطْ. المالُ الذي أَعْطاكَ لا يُمْكِنُنا اسْتِخْدامُهُ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ حَقِّنا."

أَعْطَى الغُلامُ المالَ لِوالِدِهِ وقَالَ: "خُذْهُ يا أَبِي وارْجِعْهُ إِلَيهِ عِندَما تُقابِلُهُ."

في اليَوْمِ التّالِي، ذَهَبَ وَرَقَةُ إلى دارِ يُوسُفَ لِإعادةِ المالِ وسُؤالِهِ عنِ القِصَّةِ.

وفي اللَّيْلِ، عادَ يُوسُفُ إلى بَيْتِ وَرَقَةَ لِيَمكُثَ عندَهُ، فَسَأَلَهُ وَرَقَةُ: "أَلَمْ تَعُدْ إلى بِلادِكَ؟"

أَجابَ يُوسُفُ: "لا، ذَهَبْتُ لِزِيَارَةِ صَدِيقٍ آخَرَ وعُدتُ لأَبِيتَ عندَكَ وأُسَافِرَ في الصَّباحِ."

أَخرَجَ وَرَقَةُ المالَ مِنْ جَيْبِهِ وقَالَ: "لَقَدْ أَعْطاني ابْنِي هذا المالَ وقالَ أَنَّكَ أَعْطَيتَهُ لَهُ كَدَيْنٍ لِي عَلَيْكَ."

أَجابَ يُوسُفُ: "نَعَمْ، قد فَعَلَ الغُلامُ ذَلِكَ!"

أَضافَ وَرَقَةُ: "إِنَّ ابْنِي مِن أَكْثَرِ النَّاسِ أَمانَةً وصِدْقًا."

قالَ يُوسُفُ: "لَقَدْ جِئتُ لأَرَى مَدى أمانَةِ ابْنِكَ، ولَيْسَ مِنْ أَجْلِ المالِ. الغُلامُ أَثْبَتَ أمانَتَهُ وسَرَّ قَلْبِي. هَذِهِ الدَّنانِيرُ لَيْسَتْ لَكَ ولا لِي، بَلْ هيَ مُكافَأَةٌ لابْنِكَ تَقديرًا لِصِدْقِهِ وأَمانَتِهِ."

أَخَذَ وَرَقَةُ المالَ ووَعَدَ بِأَنْ يُعِيدَهُ إلى ابنِهِ.

في الصَّباحِ، بَعْدَ أَنْ غادَرَ يُوسُفُ، أَخبَرَ وَرَقَةُ ابْنَهُ: "إِنَّ الضَّيفَ الذي كانَ عندَنا البارِحَةَ قالَ أَن أُعطِيكَ هَذَا المالَ مُكافَأَةً على أمانَتِكَ وصِدْقِكَ."

رَدَّ عليهِ الصَّبِيُّ: "يا أَبِي، لا أَبيعُ صِدْقِي وأمانَتِي بأَرْبَعِمِئةِ دِينارٍ."

قالَ لَهُ أَبُوهُ مُحَاولًا إِقناعَهُ: "إِنَّها لَيْسَتْ بَيْعًا بَلْ مُكافَأَةٌ."

فَأَجابَ الصَّبِيُّ بِحِكْمَةٍ: "الصِّدقُ والأمانَةُ لا يُقدَّرانِ بأَرْبَعِمِئةِ دِينارٍ. إِذا أَرادَ أَنْ يُكَافِئَني، فَلْيُعطِني فَرَسَهُ وسَيفَهُ، ويُزَوِّجَني ابْنَتَهُ. بِهَذِهِ الأَشياءِ يُكَافِئُ صِدْقِي وأمانَتِي؛ لِأَنَّهما غالِيانِ عِندِي."

ضَحِكَ وَالِدُهُ وقَالَ: "وَلَكِنَّكَ صَغيرٌ على الزَّواجِ يا بُنَيَّ."

أَجابَ الصَّبِيُّ: "يا أَبِي، الصَّغيرُ سَيَكبُرُ والوعودُ سَتَبقى. فَلْيَعِدْني بِذَلِكَ."

أَصَرَّ الغُلامُ على أَنْ يُرجِعَ والِدُهُ المالَ إلى يُوسُفَ قائلًا: "لا أُريدُ أَنْ يَقولَ النَّاسُ إِنَّ سَعدَ بنَ وَرَقَةَ أَخَذَ أَربَعِمِئةِ دِينارٍ مُكافَأَةً لِصِدقِهِ وأمانَتِهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ الصِّدقَ والأمانَةَ يُباعانِ بِهَذا الثَّمنِ الزَّهِيدِ."

مَرَّتِ الأَيَّامُ، وفي إِحدى رِحْلاتِ وَرَقَةَ إلى سوقِ "وَضْرَةَ" الكَبيرِ في اليَمَنِ، حيثُ كانَ يُتاجِرُ بالعُطورِ والأَزياءِ مِنْ بِلادِ الشَّامِ، التَقَى بِصَديقٍ لَهُ وتَحادَثا في شَأنِ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ وما جَرى بَينَهُ وبينَ سَعدٍ.

قالَ لَهُ الصَّديقُ: "لَقَدْ سَمِعتُ هَذا الكَلامَ مِن يُوسُفَ وهو يَتَحَدَّثُ عن غُلامٍ مِن بني عَجْلانَ، ولَكِنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ أَنَّهُ ابْنُكَ."

قالَ وَرَقَةُ: "هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا رَفَضَ المالَ الذي وَهَبَهُ لَهُ يُوسُفُ، ويَقولُ إِنَّهُ يَطْلُبُ ابْنَتَهُ زَوجَةً وسَيفَهُ وفَرَسَهُ."

قالَ لهُ: "أَحْلَامُ ابنِكَ تَفُوقُ عُمْرَهُ، فَالآمَالُ تُزْرَعُ فِي الصِّغَرِ لِتُثْمِرَ فِي الْكِبَرِ. لا تَقُلْ لَهُ شَيئًا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَيُثْنِي عَزِيمَتَهُ."

فَأَجَابَهُ وَرَقَةُ: "مَهْمَا قُلْنَا لَهُ، يَأْتِي بِحُجَجٍ تَجْعَلُ الْعُقُولَ تَحْتَارُ. سَأُعْطِيكَ هَذَا الْمَالَ؛ لِأَنَّكَ سَتَلْتَقِي بِيُوسُفَ التَّيْمِيِّ، فَأَخْبِرْهُ بِرَفْضِ ابْنِي وَشُرُوطِ قَبُولِهِ الْمُكَافَأَةَ."

عَادَ وَرَقَةُ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: "يَا أَبَتِي، هَلْ أَعْطَيْتَ الرَّجُلَ مَالَهُ؟"

قَالَ: "لَا، بَلْ أَرْسَلْتُهُ إِلَيْهِ."

تَنَهَّدَ ابْنُهُ وَقَالَ بِأَسًى: "وَيَا لَلْحَسْرَةِ! كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ تُعْطِيَهُ الْمَالَ بِنَفْسِكَ وَتُخْبِرَهُ بِشُرُوطِي كَيْ تَنْقُلَ لِي تَعَابِيرَ وَجْهِهِ وَرَدَّ فِعْلِهِ."

قَالَ وَرَقَةُ: "يَا بُنَيَّ، دَعْنِي أَسْأَلُكَ: لِمَاذَا تَطْلُبُ زَوَاجَكَ مِنِ ابْنَةِ يُوسُفَ، وَبَيْنَمَا لَدَى أَهْلِكَ الْأَشْرَافِ بَنَاتٌ أَجْمَلُ خَلْقِ اللهِ؟"

أَجَابَهُ الابْنُ: "يَا أَبَتِي، إِنَّ الرِّجَالَ لَا يَتَزَوَّجُونَ النِّسَاءَ لِجَمَالِهِنَّ فَحَسْبُ، بَلْ لِآبَائِهِنَّ الَّذِينَ رَبُّوهُنَّ وَأَدَّبُوهُنَّ. لَقَدْ أَعْجَبَنِي سَمْتُ صَدِيقِكَ يُوسُفَ، وَأَبْهَرَنِي مَنْطِقُهُ، وَفَرَسُهُ الَّذِي يَمْتَطِيهِ هُوَ فَرَسُ الْفُرْسَانِ. إِنَّهُ رَجُلٌ يُعْطِي الْمَالَ لِلْأَمِينِ وَيَدَّعِي الدَّيْنَ لِيَتَعَرَّفَ عَلَى أَصْدِقَائِهِ. رَجُلٌ كَهَذَا إِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ، فَهِيَ مَطْلَبِي وَمُرَادِي."

تَبَسَّمَ وَرَقَةُ وَهَزَّ رَأْسَهُ مُتَعَجِّبًا.

وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى يُوسُفَ التَّيْمِيِّ، وَأَعْطَاهُ الرَّجُلُ مَالَهُ وَأَخْبَرَهُ بِرَفْضِ الصَّبِيِّ وَشُرُوطِهِ. لَمْ يَتَأَخَّرْ يُوسُفُ، فَرَكِبَ إِلَى دَارِ وَرَقَةَ مَرَّةً أُخْرَى. وَعِنْدَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: "يَا صَدِيقِي، الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ اخْتِبَارِكَ. أُرِيدُ الْغُلَامَ."

سَأَلَهُ وَرَقَةُ: "مَاذَا تُرِيدُ مِنْهُ؟"

قَالَ: "أَحْضِرْهُ لِي لِأَتَحَدَّثَ أَمَامَهُ، فَوَاللهِ إِنَّ لِابْنِكَ عَقْلًا يُوَازِي عَقْلِي وَعَقْلَكَ."

عِنْدَمَا حَضَرَ سَعْدٌ، وَسَلَّمَ عَلَى يُوسُفَ، قَالَ لَهُ: "أَرَاكَ كَثَّرْتَ الْخُطَى إِلَيْنَا، لَعَلَّهُ دَيْنٌ آخَرُ."

أَجَابَ يُوسُفُ: "لَا، بَلْ جِئْتُ مِنْ أَجْلِكَ. سَأُعْطِيكَ سَيْفِي وَفَرَسِي، وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، هَلْ أَنْتَ مُسْتَعِدٌّ لِذَلِكَ؟" وَكَانَ وَرَقَةُ يَسْتَمِعُ وَالْحَيْرَةُ تَمْلَأُ رَأْسَهُ.

قَالَ الْغُلَامُ: "أَقُولُ الْحَقَّ، لَسْتُ مُسْتَعِدًّا لِامْتِطَاءِ فَرَسِكَ، فَهُوَ جَسُورٌ، وَلَا لِحَمْلِ سَيْفِكَ، فَهُوَ ثَقِيلٌ، وَلَا لِزَوَاجِ ابْنَتِكَ، فَأَنَا صَغِيرٌ. وَلَكِنْ إِنْ وَعَدْتَنِي بِذَلِكَ، فَسَأَتْرُكُ سَيْفِي أَمَانَةً عِنْدَكَ، وَفَرَسِي تَرْكَبُهَا حَتَّى أَتَمَكَّنَ، وَعَرُوسِي عِنْدَكَ تُرَبِّيهَا حَتَّى أَبْلُغَ الْحُلْمَ وَأَلْحَقَ بِالرِّجَالِ."

قَالَ يُوسُفُ مَدْهُوشًا: "حَسْبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، مَا هَذَا الْغُلَامُ يَا وَرَقَةُ؟"

قَالَ وَرَقَةُ: "إِنَّهُ أَمَامَكَ، يَتَحَدَّثُ، وَمَا عِنْدِي كَلَامٌ أَزِيدُهُ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُوَافِقٌ عَلَى مَا قَالَ."

قَالَ يُوسُفُ التَّيْمِيُّ: "أَيُّهَا الْغُلَامُ، هَلْ تَذْهَبُ مَعِي إِلَى بَلَدِي، لِأُدَرِّبَكَ عَلَى رُكُوبِ الْخَيْلِ وَمُبَارَزَةِ السُّيُوفِ، وَأَصْنَعَ مِنْكَ فَارِسًا لَا يُقْهَرُ، وَجَلْمُودًا لَا يَلِينُ؟ فَإِنَّ أَبَاكَ مَشْغُولٌ بِتِجَارَتِهِ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِيُعَلِّمَكَ مَا سَأُعَلِّمُكَ، فَمَا قَوْلُكَ؟"

أَجَابَ سَعْدٌ: "أَمَّا أَنَا، فَهَذَا يَوْمُ فَرْحَتِي، أُتَابِعُ فَرَسِي، وَأَتَعَلَّمُ حَمْلَ سَيْفِي، وَأَرَى خَطِيبَتِي، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ مَا يَقُولُ أَبِي، فَإِنْ وَافَقَ، فَأَنَا مُسْتَعِدٌّ لِلِانْطِلَاقِ مَعَكَ."

قَالَ وَرَقَةُ: "وَاللهِ مَا عِنْدِي شَكٌّ فِي قُدْرَتِكَ يَا يُوسُفُ، وَأَعْلَمُ أَنَّكَ سَتَصْنَعُ مِنْهُ فَارِسًا يَخْشَاهُ الْأَبْطَالُ، لَكِنْ دَعْنِي أَسْتَشِيرُ أُمَّهُ، فَهُوَ صَغِيرُهَا وَلَا تَقْوَى عَلَى فِرَاقِهِ."

ذَهَبَ وَرَقَةُ إِلَى زَوْجَتِهِ وَقَالَ لَهَا: "هَلْ تَعْرِفِينَ يُوسُفَ التَّيْمِيَّ؟"

أَجَابَتْهُ: "نَعَمْ أَعْرِفُهُ، إِنَّهُ صَدِيقُكَ، فَارِسُ فُرْسَانِ بَنِي فُسَيْلَةَ، الَّذِي قَادَ جَيْشَهُ لِمُحَارَبَةِ الْمُتَمَرِّدِينَ، وَعِنْدَمَا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ دَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَاخْتَبَأُوا كَأَنَّهُمْ نِسَاءٌ. أَلَيْسَ هُوَ؟"

قَالَ: "نَعَمْ، هُوَ، وَهُوَ يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أُرْسِلَ سَعْدًا مَعَهُ لِيُعَلِّمَهُ رُكُوبَ الْخَيْلِ وَمُنَازَلَةَ الْأَبْطَالِ، وَجِئْتُ لِأَطْلُبَ إِذْنَكِ."

قَالَتْ: "وَمَاذَا تُرِيدُ الْأُمُّ إِلَّا أَنْ تَرَى ابْنَهَا فَارِسًا كَيُوسُفَ التَّيْمِيِّ؟ قُلْ لَهُ إِنَّ ابْنِي وُلِدَ مِنْ صُلْبِ الرِّجَالِ، وَتَغَذَّى بِحَلِيبِ أُمٍّ طَاهِرَةٍ. قُلْ لَهُ إِنَّ ابْنِي لَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهُ دِينَارٌ مِنْ مَالِ الْحَرَامِ، وَلَا يَبْكِي كَالْأَطْفَالِ، وَلَا يَتَدَلَّلُ كَالنِّسَاءِ، بَلْ رَبَّيْتُهُ لِيَكُونَ شَامِخًا عَالِيًا، مَرْفُوعَ الرَّأْسِ، بَارِزَ الصَّدْرِ، مَحْمُودَ الْمَقَامِ. تَتَحَمَّرُ عَيْنَاهُ إِذَا حَزِنَ، وَيَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ إِذَا غَضِبَ. قُلْ لَهُ إِنَّ ابْنِي إِذَا تَكَلَّمَ أَصْغَى لَهُ الْحُكَمَاءُ، وَإِذَا خَرَجَ تَمَنَّتِ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَهُ. قُلْ لَهُ إِنَّ ابْنِي زِينَةُ الْحَيِّ وَنِبْرَاسُ الدِّيَارِ، وَلَنْ يَرَى مِنْهُ إِلَّا مَا يَسُرُّهُ بِإِذْنِ اللهِ. وَكُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يَجِدَ ابْنِي مِثْلَ يُوسُفَ لِيَصْقُلَهُ وَيَجْعَلَهُ سَيْفًا يَفُلُّ الْحَدِيدَ. يَا وَرَقَةُ، نَادِ لِيَ ابْنِي لِأُوصِيَهُ."

تَبَسَّمَ وَرَقَةُ مِنْ حَدِيثِ زَوْجَتِهِ، وَعَادَ إِلَى يُوسُفَ وَقَالَ لَهُ: "ابْشِرْ، فَإِنَّ أُمَّهُ فَرِحَتْ كَفَرَحِهِ، وَقَالَتْ كَذَا وَكَذَا."

قَالَ يُوسُفُ: "لَا أَدْرِي هَلْ أُعْجَبُ بِالْغُلَامِ أَمْ بِأُمِّهِ! الْآنَ زَالَ اسْتِغْرَابِي مِنْ حِنْكَةِ الْغُلَامِ، مَا دَامَتْ أُمُّهُ كَذَلِكَ."

دَخَلَ سَعْدٌ عَلَى أُمِّهِ يَمْشِي كَمِشْيَةِ الْفُرْسَانِ، وَيَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْمُنْتَصِرِ. فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ، قَالَتْ: "يَا بُنَيَّ، غَيِّرْ مِشْيَتَكَ، وَارْفُقْ بِنَفْسِكَ؛ فَإِنَّ الْغُرُورَ قَاتِلٌ، وَإِنَّ الْإِعْجَابَ بِالنَّفْسِ مَذْمُومٌ، وَلَكِنَّ الثِّقَةَ بِهَا مَحْمُودَةٌ؛ فَمَنْ وَثِقَ فِي نَفْسِهِ تَوَاضَعَ، وَمَنْ نَقَصَتْ نَفْسُهُ عَمَّا يُرِيدُ تَكَبَّرَ وَتَصَنَّعَ. يَا بُنَيَّ، إِنَّ الصِّدْقَ فِي الْقَوْلِ مَنْجَاةٌ لَكَ مِنَ الْمَهَالِكِ وَلَوْ رَأَيْتَ الْمَوْتَ فِيهِ، وَإِنَّ الْكَذِبَ مَهْلَكَةٌ وَلَوْ رَأَيْتَ فِيهِ النَّجَاةَ."

يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ مُقْبِلٌ عَلَى دَارٍ لَيْسَتْ دَارَكَ، وَأَهْلٍ لَيْسُوا بِأَهْلِكَ، فَاخْفِضْ صَوْتَكَ، وَأَخْفِ غَضَبَكَ، وَلَا تَلْتَفِتْ فِي بُيُوتِ النَّاسِ، وَلَا تَجْلِسْ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ، وَإِذَا جَلَسْتَ فَلَا تَجْلِسْ فِي مُحَاذَاةِ الْكِبَارِ، وَإِذَا جُعْتَ فَلَا تَطْلُبِ الطَّعَامَ، وَإِذَا نَعِسْتَ فَحَارِبِ النَّوْمَ حَتَّى يَنَامَ الْجَمِيعُ. يَا بُنَيَّ، لَا تَسْأَلْ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ، وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي مَا لَا يَخُصُّكَ. إِذَا مَشَيْتَ، فَكُنْ سَرِيعَ الْخُطَى، وَإِذَا ضَرَبْتَ، فَاضْرِبْ بِحَزْمٍ، وَإِذَا عَطَفْتَ، فَاعْطِفْ بِإِنْصَافٍ. يَا بُنَيَّ، احْتَرِمِ الْكَبِيرَ وَارْحَمِ الصَّغِيرَ، وَحَارِبِ الرَّاحَةَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْكَسَلِ، وَحَارِبِ النَّوْمَ فَإِنَّهُ وَالِدُ الْفَشَلِ. لَا تَتَمَنَّى بَلِ اسْعَ لِمَا تُرِيدُ، فَالْأَمَانِيُّ أَحْلَامُ الْعَاجِزِينَ، أَمَّا الْعَزِيمَةُ وَالْمُضِيُّ فِي مَا تَأْمُلُ فَهِيَ شِيَمُ الرِّجَالِ. أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَ عَنْكَ مِقْدَاماً حَتَّى وَإِنْ مِتَّ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ جَبَاناً وَلَوْ بَقِيتَ حَيّاً مُعَافىً. لَا تَتَذَكَّرْ أُمَّكَ كَطِفْلٍ يَحِنُّ إِلَى أُمِّهِ، وَإِذَا انْطَلَقْتَ إِلَى مَقْصِدِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْوَرَاءِ... ارْحَلْ فِي حِفْظِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ.

قَالَ لَهَا: "يَا أُمَّاهُ، اطْمَئِنِّي، لَقَدْ وُلِدْتُ رَجُلاً وَلَنْ أُخَيِّبَ ظَنَّكِ، وَلَنْ تَجِدِي فِيَّ حَسْرَةً." ثُمَّ وَدَّعَهَا وَرَحَلَ مَعَ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ. وَعِنْدَمَا وَصَلَا إِلَى دِيَارِ فسيلَةَ، تَفَاجَأَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ بِمَا رَأَى! وَجَدَ يُوسُفَ زَعِيمًا فِي قَوْمِهِ، كَثِيرَ الْأَبْنَاءِ، لَدَيْهِ سَبْعَةُ أَبْنَاءٍ وَسَبْعُ بَنَاتٍ. وَعِنْدَمَا رَأَى الْأَبْنَاءُ أَبَاهُمْ يَعُودُ وَمَعَهُ صَبِيٌّ غَرِيبٌ، عَلَتْ عَلَى وُجُوهِهِمِ الدَّهْشَةُ وَالِاسْتِغْرَابُ.

أَمَّا أَبْنَاؤُهُ فَهُمْ: مُصْعَبٌ، جَابِرٌ، الْبَشِيرُ، مُحَمَّدٌ الْأَعْرَجُ، يُونُسُ، الْفَيْصَلُ، وَالْيَسَعُ الْمُلَقَّبُ بِـ"قَلْبِ الْأَسَدِ". وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَهُنَّ: سَلْمَى، نُعْمَى، أَرْوَى، لَيْلَى، نَسِيبَةُ، رُفَيْدَةُ، وَالْعَنُودُ. وَقَدِ اسْتَغْرَقَ سَعْدٌ أَيَّامًا لِيَتَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ مِنْ زَوْجَتَيْنِ، وَأَخَذَ وَقْتًا لِيَعْرِفَ أَيُّهُمْ مِنْ أَيِّ زَوْجَةٍ.

فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ، وَفِي عَصْرِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، قَالَ لَهُ يُوسُفُ: "عَلَيْكَ أَنْ تَخْتَارَ فِي أَيِّ الْبَيْتَيْنِ تُرِيدُ الْإِقَامَةَ."

فَأَجَابَ سَعْدٌ: "أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ بَيْتٍ، وَسَأُخْبِرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَقَامِي الدَّائِمِ."

قَالَ يُوسُفُ: "أَحْسَنْتَ، فَبِأَيِّ الْبَيْتَيْنِ تَبْدَأُ؟"

أَجَابَ سَعْدٌ: "سَأَبْدَأُ بِمَا بَدَأْتَ بِهِ أَنْتَ، بَيْتِ زَوْجَتِكَ الْأُولَى وَأَبْنَائِكَ الْكِبَارِ."

قَالَ يُوسُفُ: "أَحْسَنْتَ أَيُّهَا الْغُلَامُ، لِكُلِّ مُشْكِلَةٍ لَدَيْكَ حَلٌّ."

فَأَقَامَ ابْنُ وَرَقَةَ مَعَ أُمِّ الْكِرَامِ، زَوْجَةِ يُوسُفَ الْأُولَى، الَّتِي كَانَتْ لَدَيْهَا خَمْسَةُ أَبْنَاءٍ وَبِنْتَانِ: مُصْعَبٌ، جَابِرٌ، الْبَشِيرُ، مُحَمَّدٌ الْأَعْرَجُ، وَبَنَاتُهَا نَسِيبَةُ وَرُفَيْدَةُ، وَكُلُّهُمْ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ. فَرِحُوا بِهِ وَأَكْرَمُوهُ، وَعَلِمُوا مِنْ أَبِيهِمْ أَنَّهُ ابْنُ صَدِيقِهِ التَّاجِرِ الشَّرِيفِ مِنْ بَنِي عَجْلَانَ. مُنْذُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقَبَ "الشَّرِيفِ"، وَأَحَبُّوهُ وَأُعْجِبُوا بِحِكْمَتِهِ وَذَكَائِهِ الْفَائِقِ فِي سِنِّهِ الصَّغِيرِ.

كَمَا أَوْصَتْهُ أُمُّهُ، أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ يُوسُفَ التَّيْمِيَّ عَمَّنْ سَتَكُونُ زَوْجَتُهُ مِنْ بَنَاتِهِ، لَكِنَّهُ آثَرَ الصَّمْتَ. وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ وَأَكْمَلَ الْأُسْبُوعَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ يُوسُفُ: "الْيَوْمَ هُوَ مَوْعِدُ انْتِقَالِكَ إِلَى الْبَيْتِ الثَّانِي أَمْ نَسِيتَ؟"

قَالَ سَعْدٌ: "لَمْ أَنْسَ، وَلَكِنْ أَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِكَ لِذَلِكَ."

انْتَقَلَ سَعْدٌ إِلَى بَيْتِ زُبَيْدَةَ، أُمِّ الْيَسَعِ "قَلْبِ الْأَسَدِ"، الَّذِي كَانَ ابْنُهَا الْأَكْبَرَ، وَيَلِيهِ يُونُسُ الَّذِي كَانَ فِي عُمُرِ سَعْدٍ، ثُمَّ الْفَيْصَلُ، أَصْغَرُ الْأَبْنَاءِ، الَّذِي كَانَ مَا زَالَ يَحْبُو، وَبَنَاتُهَا أَرْوَى، سَلْمَى، نُعْمَى، لَيْلَى، وَالْعَنُودُ، وَجَمِيعُهُنَّ دُونَ سِنِّ الْبُلُوغِ، إِلَّا أَرْوَى الَّتِي كَانَتْ فِي السَّابِعَةَ عَشْرَةَ.

لَمْ يَجِدْ سَعْدٌ رَاحَتَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَقَدْ أَزْعَجَهُ الْأَطْفَالُ بِمُشَاغَبَاتِهِمْ، وَسَخِرُوا مِنْهُ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الْمَاءَ أَثْنَاءَ نَوْمِهِ، لَكِنَّهُ صَبَرَ حَتَّى أَكْمَلَ الْأُسْبُوعَ. فِي نِهَايَةِ الْأُسْبُوعِ، أَعْلَنَ رَحِيلَهُ إِلَى بَيْتِ أُمِّ الْكِرَامِ، فَقَالَتْ إِحْدَى الْبَنَاتِ، وَهِيَ تَبْكِي: "يَا أُمِّي، دَعِيهِ يَبْقَى مَعَنَا، فَإِنِّي أَحْبَبْتُهُ."

رَدَّتِ الْأُمُّ: "يَا بُنَيَّتِي، لِكُلِّ أَحَدٍ مَكَانٌ يَجِدُ فِيهِ رَاحَتَهُ، وَأَنَا أُرِيدُهُ أَنْ يَذْهَبَ لِيُقِيمَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يُفَضِّلُهُ."

بَعْدَمَا رَحَلَتِ الطِّفْلَةُ، اسْتَفْسَرَ سَعْدٌ مِنَ الْأُمِّ: "لِمَاذَا تُرِيدِينَ مِنِّي أَنْ أَرْحَلَ إِلَى بَيْتِ زَوْجَتِكَ الْأُخْرَى رَغْمَ أَنَّ الضَّرَائِرَ عَادَةً مَا يَتَنَافَسْنَ؟"

أَجَابَتْهُ زُبَيْدَةُ: "أَنْتَ غُلَامٌ صَغِيرٌ، لَكِنَّكَ تَمْتَلِكُ عَقْلَ رَجُلٍ نَاضِجٍ. نَظَرَاتُكَ تُخْبِرُنِي أَنَّكَ أَكْبَرُ مِنْ عُمْرِكَ. لَا أَشْعُرُ بِالِاطْمِئْنَانِ وَأَنْتَ تَسْرَحُ وَتَمْرَحُ مَعَ بَنَاتِي. هَلْ تَقُولُ الْحَقِيقَةَ إِذَا سَأَلْتُكَ؟"

قَالَ سَعْدٌ: "اسْأَلِي مَا تَشَائِينَ."

قَالَتْ زُبَيْدَةُ: "هَلْ أُعْجِبْتَ بِأَحَدٍ مِنْ بَنَاتِي؟"

ابْتَسَمَ سَعْدٌ وَقَالَ: "أَصْدُقُكِ الْقَوْلَ، سَلْمَى الْبَاكِيَةُ هَذِهِ قَدْ شَغَلَتْ قَلْبِي. لَمْ أَعُدْ أَرْغَبُ فِي شَيْءٍ سِوَاهَا، إِمَّا أَنْ أَرْحَلَ أَوْ تَحْجُبِيها عَنِّي؛ فَأَنَا عِنْدَمَا أَرَاهَا يَخْفِقُ قَلْبِي وَتَرْتَجِفُ أَطْرَافِي."

قَالَتْ زُبَيْدَةُ: "ارْحَلْ، ارْحَلْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَكَ أَحَدٌ. أَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْفِيَ مَشَاعِرَكَ؟"

عَادَ سَعْدٌ إِلَى أُمِّ الْكِرَامِ، لَكِنَّ زُبَيْدَةَ أَخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِمَا حَدَثَ، فَغَضِبَ يُوسُفُ التَّيْمِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا. نَادَى عَلَى سَعْدٍ، فَجَاءَ وَوَقَفَ أَمَامَهُ بِثَبَاتٍ.

قَالَ يُوسُفُ غَاضِبًا: "مَا هَذَا الَّذِي أَسْمَعُهُ يَا فَتَى؟"

أَجَابَ سَعْدٌ: "هَلْ أَخْبَرَتْكَ زَوْجَتُكَ بِمَا قُلْتُ؟"

قَالَ يُوسُفُ: "نَعَمْ، هَلْ تَعْتَرِفُ بِمَا قُلْتَ؟"

أَجَابَ سَعْدٌ: "لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ، لَمْ أَقُلْ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ الْخَوْفَ مِنْ غَضَبِكَ. سَأَلَتْنِي زَوْجَتُكَ فَأَجَبْتُهَا بِصِدْقٍ. إِنْ كَانَ مَا قُلْتُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ، فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامُ. هَذِهِ النَّظَرَاتُ الَّتِي تَنْظُرُونَ بِهَا تَجْعَلُ الْأَوْلَادَ يَكْذِبُونَ خَوْفًا، لَكِنَّنِي لَنْ أَكُونَ جَبَانًا حَتَّى لَوْ قَتَلْتَنِي. مَاذَا أَغْضَبَكَ فِي قَوْلِي؟ لِأَنِّي شَعَرْتُ بِمَا لَا أَتَحَكَّمُ فِيهِ؟ أَمْ لِأَنِّي تَحَدَّثْتُ بِصِدْقٍ عَمَّا شَعَرْتُ بِهِ؟"

قَالَ يُوسُفُ: "كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تُغَادِرَ الدَّارَ مُنْذُ أَنْ شَعَرْتَ بِهَذَا الشُّعُورِ."

قَالَ سَعْدٌ: "لِمَاذَا؟ أَنَا لَا أَخْشَى أَنْ أَضُرَّ أَحَدًا، وَلَا أَسْمَحُ لِنَفْسِي بِمَا يُعِيبُنِي فِي عُيُونِ الرِّجَالِ. لَا أَخُونُ مَنْ أَطْعَمَنِي فِي دَارِهِ." بعدَ مُرورِ الزَّمَنِ وانقِضاءِ مُدَّتِي، لمْ يَرَ أَولادُك مِنِّي سِوَى البِرِّ والإحسانِ، وتَحمُّلِ الأذَى والصَّبْرِ الدُّؤوبِ...

في هٰذا الجَوِّ المشحونِ بالكَلِماتِ، كانتْ زُبيدةُ تنظرُ في صَمْتٍ. حينَها الْتَفَتَ إليها يُوسُفُ، زَوجُها، قائِلًا: "يا زُبيدةُ، هَلْ شَهِدتِ منهُ ما يَدعو إِلى الشَّكِّ؟"

أجابتْهُ زُبيدةُ: "حاشا لله، لم أُلاحِظْ شيئًا مُريبًا سِوَى عُمْقِهِ الفِكْريِّ ونُضْجِهِ العَقلانيِّ، مما جَعَلَهُ يَبْرُزُ كَأنَّهُ ليسَ مُجرَّدَ طِفْلٍ. شَعرتُ بالرَّهبةِ، فَسَألتُهُ عن ذلك."

تَوَجَّهَ يُوسُفُ إلى سَعْدٍ قائلًا: "يا بُنَيَّ، لمْ نَرَ منك ما يَدعُونا إِلى اللَّوْمِ أو النَّقْدِ، ولا نَجِدُ ما نُؤاخِذُكَ عليهِ. ومعَ ذلك، أَرجو منك الابتعادَ عن أطفالي."

رَدَّ عليهِ سَعْدٌ بهُدوءٍ: "سَأفعلُ يا عماهُ، ولكنْ قبلَ رَحيلي من مَحكَمَتِكَ، هل لي أنْ أتَحدَّثَ؟"

قالَ يُوسُفُ: "تفضَّلْ، أنا أُصغي إِلَيْكَ."

قالَ سَعْدٌ: "يا عَمّاهُ، لَقَدْ وَعَدْتَني بِتَزْويجِ ابْنَتِكَ، وَقَدِ اخْتَرْتُ سَلْمى، فَأَرْجو مِنْكَ تَجْديدَ العَهْدِ لي بِها تَحْديدًا، ولا أُريدُ غَيْرَها."

أجابَهُ يُوسُفُ: "يا بُنَيَّ، لَمْ يَحِنِ الوَقْتُ لِمِثْلِ هٰذا الحَديثِ، فَنَحْنُ هُنا لِنَتَعَلَّمَ."

رَدَّ سَعْدٌ بِحِكْمَةٍ: "يا عَمّاهُ، هٰذا لا يَمْنَعُني مِنْ مَعْرِفَةِ مَنْ سَتَكونُ شَريكَتي في الحَياةِ."

سَأَلَهُ يُوسُفُ: "وَماذا سَتَفْعَلُ لَوْ كَبُرَتْ سَلْمى وَرَفَضَتْكَ بَعْدَ أنْ أُوافِقَ عَلَيْها الآنَ؟"

أجابَ سَعْدٌ بِحَزْمٍ: "عِنْدَها، تَكونُ قَدْ أَوْفَيْتَ بِوَعْدِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لي نَصيبٌ عِنْدَ اللهِ فيها، فلا مَلامَةَ عَلَيْكَ."

أَشارَ يُوسُفُ بِرَأسِهِ وَقالَ: "حَسَنًا، وَماذا تَقولينَ يا أُمَّ سَلْمى؟"

قالَتْ: "لَنْ أَعِدَهُ بِشَيْءٍ الآنَ، وَلَنْ أَعْتَرِضَ عَلَى عَهْدِكَ لَهُ، وَلَكِنْ لي كَلِمَتي في الوَقْتِ المُناسِبِ، فَلِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ."

رَحَلَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ إلى دارِ أُمِّ الكِرامِ، الَّتي تَبْعُدُ عَنْ دارِهِمْ مَسافَةَ سَبْعِمِائَةِ خُطْوَةٍ. قَضى سَعْدٌ أَرْبَعَ سَنَواتٍ مَعَ أُمِّ الكِرامِ، الَّتي أَحَبَّتْهُ وَأَعْطَتْهُ مَكانَةً خاصَّةً في قَلْبِها، حَتّى أَنَّها كانَتْ تُفَضِّلُهُ بِالطَّعامِ الطَّيِّبِ على أَوْلادِها.

كانَ أَبْناءُ أُمِّ الكِرامِ فُرْسانًا بَواسِلَ، لا يُضاهُونَ في الشَّجاعةِ وَالبَأْسِ، يَتَفَوَّقُونَ في مَيادينِ القِتالِ ولا يَتَراجَعونَ أَمامَ المُحارِبِين. خِلالَ تِلْكَ السَّنَواتِ، تَعَلَّمَ سَعْدٌ كُلَّ شَيْءٍ، كانَ يَحْضُرُ مَجالِسَ العَرَبِ، يَسْتَمِعُ إلى العِلْمِ وَالأَدَبِ وَالشِّعْرِ وَالحِكْمَةِ، كَما تَعَلَّمَ فُنونَ القِتالِ وَأَسْرارَ الحُروبِ مِنْ يُوسُفَ التِّيميِّ، وَتَدَرَّبَ كَثيرًا مَعَ أَبْنائِهِ المُحارِبِين.

عِنْدَما بَلَغَ السّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، لَمْ يَكُنْ هُناكَ مَنْ يَسْتَطيعُ مُجارَاتَهُ في المَهاراتِ القِتالِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ كانَ دائِمَ التَّفْكيرِ في سَلْمى، الَّتي لَمْ يَرَها مُنْذُ رَحيلِهِ مِنْ بَيْتِها. حَتّى في يَوْمِ وَفاةِ أَخِيها جابِرٍ، لَمْ تَظْهَرْ سَلْمى لِتَعْزِيَةِ أَحَدٍ، وَلَمْ يَجْرُؤْ سَعْدٌ على سُؤالِ أَحَدٍ عَنْها.

كانَتْ جَميعُ أَخَواتِها يَظْهَرْنَ في العَزاءِ وَالأَعْراسِ، إِلّا سَلْمى. وَكُلَّما أَرادَ سَعْدٌ الاِسْتِفْسارَ عَنْ غِيابِها، كانَ شَيْءٌ ما يَكْبَحُهُ. ظَنَّ أَنَّ هٰذا الغِيابَ قَدْ يَكونُ بِسَبَبِ خَوْفِهِمْ عَلَيْها مِنْهُ.

في تِلْكَ الفَتْرَةِ، بَدَأَتِ الحُروبُ في المِنْطَقَةِ تَخْفُتُ تَدْريجيًّا، مَعَ بَعْضِ الهَجَماتِ هُنا وَهُناكَ مِنَ بَعْضِ القَبائِلِ عَلى بَعضِها. كانَ يُوسُفُ التِّيميُّ قائِدَ جَناحِ قَبيلَتَهِ، وَابْنُ عَمِّهِ القاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التِّيميِّ كانَ مِنْ عُلَماءِ الأُمَّةِ المُتَمَيِّزِينَ، يُضِيئُونَ اللَّياليَ بِعُلومِهِمِ الغَزيرَةِ.

كَذٰلِكَ كانَ هُناكَ صَعالِيكُ البَدوِ الَّذِينَ يُهاجِمُونَ القَوافِلَ وَيَسْرِقُونَ الإبِلَ، يَقْطَعُونَ الطُّرُقَ على المُسافِرِينَ وَالتُّجّارِ، وَيَنْهَبُونَ أَمْوالَهُم ثُمَّ إمّا يَقْتُلُونَهُم أَوْ يَتْرُكُونَهُم لِيُواجِهُوا المَوْتَ عَطَشًا في الصَّحْراءِ.

عِنْدَما بَلَغَ سَعْدٌ السّابِعَةَ عَشْرَةَ، اشْتَدَّ عُودُهُ وَتَصَلَّبَتْ عَضَلاتُهُ. قَرَّرَ العَوْدَةَ إلى أَهْلِهِ، فَقَدْ تَغَيَّرَتْ فيهِ طِباعٌ كَثيرَةٌ. أَصْبَحَ كَثيرَ الصَّمْتِ، يُطيلُ النَّظَرَ إلى الأَرْضِ، يَكْتَسي بِلِباسِ الحَياءِ وَالخَجَلِ.

في صَباحِ أَحَدِ الأَيّامِ، جَلَسَ سَعْدٌ أَمامَ يُوسُفَ التِّيميِّ، وَرَأْسُهُ مُنْحَنٍ بِأَدَبٍ شَديدٍ، وَقالَ لَهُ: "يا عَمّاهُ، مُنْذُ شَهْرٍ وَأَنا أَرْغَبُ في الحَديثِ مَعَكَ، وَلَكِن حَيائي يَمْنَعُني. لَقَدْ أَكْرَمْتَني كَوالِدٍ لأَبْنائِهِ، وَرَبَّيْتَني كَما لَوْ كُنْتُ مِنْ صُلْبِكَ. لَمْ أَرَ مِنْكَ ظُلْمًا أَوْ بُخْلًا. أَصْبَحْتُ أَعْتَبِرُكَ بِمَثابَةِ أَبي، وَلا أَتَحَمَّلُ فِراقَكَ وَلا فِراقَ أُمِّ الكِرامِ وَإِخْوَتي. وَلَكِنْ لِكُلِّ أَمْرٍ نِهايَةٌ، وَالغايَةُ الَّتي جِئْتُ مِنْ أَجْلِها قَدْ تَحَقَّقَتْ. تَعَلَّمْتُ مِنْكَ ما جِئْتُ لِأَتَعَلَّمَهُ وَما لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُ أَنْ أَتَعَلَّمَهُ. فَضْلُكَ عَلَيَّ كَبيرٌ وَلا يَسَعُني إِلَّا أَنْ أَشْكُرَكَ. أَطْلُبُ مِنْكَ الإِذْنَ بِالعَوْدَةِ إلى داري، وَأَنا مُكَلَّلٌ بِالخَجَلِ."

أَجابَهُ يُوسُفُ التَّيميُّ: "لَقَدْ أَكْمَلْتَ تَعْليمَكَ، وَأَصْبَحْتَ بَطَلًا يَهابُهُ الفُرْسانُ، وَجَبَلًا تَخْشى مِنْهُ الرِّياحُ. وَلَكِنْ قَبْلَ رَحيلِكَ، لَدَيْنا دَيْنٌ عَلَيْكَ يَجِبُ أَنْ تَسُدَّهُ، وَوُعودٌ نُريدُ الوَفاءَ بِها لَكَ."

فَرِحَ سَعْدٌ فَرَحًا عَظيمًا، إِذْ شَعَرَ أَنَّ اللِّقاءَ بِسَلْمى باتَ قَريبًا. قالَ لِيُوسُفَ: "وَما الدَّيْنُ الَّذي عَلَيَّ سَدادُهُ؟"

أَجابَهُ يُوسُفُ: "لَقَدْ هاجَمَ بَعْضُ البَدْوِ مِنْ جِهَةِ صَيْعَرَ جِيرانَنا بَني سُهَيْلٍ، وَسَلَبُوا مِنْهُم ثَلاثَةً مِنْ أَعْرَقِ الإبِلِ. أَخوكَ البَشيرُ أَرادَ اللَّحاقَ بِهِمْ وَاسْتِعادَةَ الإبِلِ، فَهَلْ تَسْتَطيعُ أَنْتَ القِيامَ بِهٰذِهِ المُهِمَّةِ بَدَلًا مِنْهُ؟"

قالَ سَعْدٌ بِحَزْمٍ: "نَعَمْ يا عَمّاهُ، سَأَذْهَبُ وَسَأَسْتَعيدُ الإبِلَ مِنْ هٰؤُلاءِ اللُّصوصِ."

أَعْطاهُ يُوسُفُ الفَرَسَ الَّذي وَعَدَهُ بِهِ، وَالسَّيْفَ الَّذي وَعَدَهُ بِهِ، وَقالَ لَهُ: "اِنْجَحْ في مُهمَّتِكَ، وَسَيْفي وَجَوادِي لَكَ سَواءٌ نَجَحْتَ أَمْ لَمْ تَنْجَحْ."

سَأَلَهُ سَعْدٌ بِلَهْفَةٍ: "وَماذا عَنِ الوَعْدِ الثّالِثِ يا عَمّاهُ؟"

أَجابَهُ يُوسُفُ بِتَنَهُّدَةٍ: "أَنا عَلَى وَعْدي بِتَزْويجِكَ سَلْمى، وَلَكِنَّني أَخْشى أَنْ تُغَيِّرَ أَنْتَ رَأْيَكَ، لِذٰا الأَفْضَلُ أَنْ نَتْرُكَ هٰذا الوَعْدَ الآنَ."

قالَ سَعْدٌ بِثِقَةٍ: "قُلْ يا عَمّاهُ، لَنْ تَجِدَني جَبانًا أَوْ مُتَرَدِّدًا."

قالَ يُوسُفُ: "يا بُنَيَّ، سَلْمى مَريضَةٌ مُنْذُ أَرْبَعِ سَنَواتٍ."

اِرْتَعَدَ سَعْدٌ وَسَأَلَهُ بِقَلَقٍ: "وَما مَرَضُها يا عَمّاهُ؟"

أَجابَهُ يُوسُفُ بِحُزْنٍ: "تَسْيطِرُ عَلَيْها نَوباتُ خَوْفٍ كُلَّما خَرَجَتْ مِنْ غُرْفَتِها، تَرْتَعِدُ وَتَصْرُخُ وَقَدْ يُغْمى عَلَيْها. وَلَكِنْ في غُرْفَتِها، تَعيشُ بِسَلامٍ، تَأكُلُ وَتَنامُ جَيِّدًا، تُصَلِّي وَتَقْرَأُ القُرْآنَ حَتّى أَنَّها حَفِظَتِ الكِتابَ كُلَّهُ. وَلَكِنَّها لا تَسْتَطيعُ الخُرُوجَ."

سَأَلَهُ سَعْدٌ: "وَما الَّذي يُخيفُها؟"

قالَ يُوسُفُ: "تَقولُ أَنَّها تَرى غُرابًا مُخيفًا يُطارِدُها كُلَّما خَرَجَتْ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِيُؤْذِيَها. وَلَكِنَّنا لَمْ نَرَ هٰذا الغُرابَ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّها تَتَوَهَّمُ الأُمُورَ. سَعَيْنا بِكُلِّ الوَسائِلِ لِعِلاجِها، وَلَكِنْ دونَ جَدْوى."

طَلَبَ سَعْدٌ بِتَرَدُّدٍ: "هَلْ يُمْكِنُني رُؤْيَتَها قَبْلَ سَفَري يا عَمّاهُ؟"

أَجابَهُ يُوسُفُ: "قُمْ بِمُهِمَّتِكَ أَوَّلًا، وَإِنْ نَجَحْتَ، سَنُشاوِرُها في لِقائِكَ. إِذا سَمَحَتْ لَنا، فَسَيَكونُ اللِّقاءُ."

قالَ لهُ: "سَمْعاً وَطَاعَةً يا عَمِّي. الآنَ لا بُدَّ لي مِنَ الانْتِصارِ وَاسْتِعادَةِ الإبِلِ، وسَأَعودُ سَليمًا مُعافًى بِإِذنِ اللهِ."

أجَابَهُ يُوسُفُ: "يَجِبُ أَن تُنْهِى مُهَمَّتَكَ قَبلَ أُسْبُوعٍ، حَتَّى تَكُونَ حَاضِرًا فِي زِفَافِ وَلَدِي، أَخِيكَ الأَكْبَرِ، بَعدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ."

فَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ: "إِنْ شَاءَ اللهُ، سَأُتِمُّ المُهَمَّةَ فِي أَقَلَّ مِن أُسْبُوعٍ. الطَّرِيقُ يَسْتَغْرِقُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَهَابًا وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِيَابًا، وسَأَتَخَلَّصُ مِنَ اللُّصُوصِ فِي يَومٍ وَاحِدٍ بِإِذنِ اللهِ."

امتَطَى سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ، ابْنُ السَّبْعَةَ عَشَرَ رَبِيعًا، فَرَسَهُ الأَسْوَدَ. رَغْمَ شَبَابِهِ، كَانَ بِجَسَدِ فَارِسٍ وَقُوَّةِ مُحَارِبٍ عَظِيمٍ. الفَرَسُ الذِي كَانَ يُرَاقِبُهُ مُنْذُ خَمْسِ سَنَوَاتٍ، رَغْمَ مَا أَصَابَهُ مِنْ وَهَنٍ، ظَلَّ جَمُوحًا لا يُقْهَرُ. حَمَلَ سَيْفَ يُوسُفَ التَّيْمِي، السَّيْفَ الذِي خَاضَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ حَرْبًا بَيْنَ صَدٍّ وَغَارَةٍ. حَمَلَ سَعْدٌ زَادَهُ الكَافِيَ وَمَاءً فِي قِرْبَةٍ، وَانْدَفَعَ كَأَنَّهُ يَرْكَبُ الرِّيحَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الشَّرْقِ الشَّمَالِيِّ، إِلَى أُولَئِكَ البَدْوِ المُتَفَلِّتِينَ. كَانَ يَعْرِفُ الطُّرُقَ جَيِّدًا، فَهُوَ ابْنُ البَادِيَةِ الذِي يَعْرِفُ أَسْمَاءَ الجِبَالِ وَالوِدْيَانِ، فَلا سَبِيلَ لِلضَّيَاعِ فِي الأَرْضِ التِي يَعْرِفُهَا كَمَعْرِفَةِ رَاحَةِ يَدِهِ.

بَعْدَ مَسِيرَةِ يَومٍ كَامِلٍ، وَحِينَ أَسْدَلَ اللَّيْلُ سُتُورَهُ، تَعِبَ سَعْدٌ وَنَزَلَ فِي بَطْنِ وَادٍ، فَرَبَطَ فَرَسَهُ، وصَلَّى المَغْرِبَ وَالعِشَاءَ، وَافْتَرَشَ بُرْدَتَهُ واضْطَجَعَ لِيَنَامَ. وَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ أَصْوَاتًا غَرِيبَةً قَرِيبَةً مِنهُ، أَصْوَاتَ غِنَاءٍ وَطَرَبٍ، وَصَفِيرٍ وَصِيَاحٍ لَمْ يَسْمَعْ مِثْلَهُ مِنْ قَبلُ. نَهَضَ وَتَلَفَّتَ يَمِينًا وَيَسَارًا، وَلَمْ يَرَ أَحَدًا، لَكِنَّ الأَصْوَات كَانَتْ قَرِيبَةً جِدًّا. أَدْرَكَ سَعْدٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الجِنُّ، إِذْ كَانَتْ تِلْكَ الأَوْدِيَةُ مَعْرُوفَةً بِكَوْنِهَا مَأْهُولَةً بِالجِنِّ، وَلطَالَمَا أُطْلِقَتْ عَلَيْهَا أَسْمَاءٌ مِثْلَ وَادِي عَبْقَرَ، وَوَادِي الهَوَاشِيرِ، وَتُخُومِ الجِنِّ، وَجَبَلِ الشَّيْطَانِ، لِمَا رَآهُ النَّاسُ فِيهَا مِنْ عَجَائِبَ.

قَامَ سَعْدٌ مِنْ مَكَانِهِ، وَحَلَّ رِبَاطَ فَرَسِهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى وَادٍ آخَرَ، لَكِنْ مَا لَبِثَ أَنْ سَمِعَ تِلْكَ الأَصْوَاتِ تَقْتَرِبُ مِنْهُ مُجَدَّدًا. صَاحَ فِيهِمْ قَائِلًا: "اذْهَبُوا بَعِيدًا عَنِّي؛ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنَامَ. أَلَيْسَ لَدَيْكُمْ إِكْرَامٌ لِلضَّيْفِ أَوْ عَابِرِ السَّبِيلِ؟ كَيْفَ تُزْعِجُونَ المُسَافِرَ؟ انْصَرِفُوا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ."

فَأَجَابَهُ أَحَدُهُم: "أَنْتَ جِئْتَ إِلَيْنَا، وَنَحْنُ لَمْ نَأْتِ إِلَيْكَ. فَرَدَّ سَعْدٌ قَائِلًا: إِنْ كُنتَ رَجُلًا حَقِيقِيًّا فَاظْهِرْ نَفْسَكَ، وَلا تَتَكَلَّمْ مَعِي مُخْتَفِيًا مِثْلَ الجُبَنَاءِ."

فَإِذَا بِرَجُلٍ يَظْهَرُ أَمَامَهُ فِي الثَّلَاثِينَ مِنْ عُمُرِهِ، بِقَوَامٍ قَوِيٍّ وَجَسَدٍ مَمْشُوقٍ، وَعَيْنَانِ تَلْمَعَانِ كَأَنَّهُمَا جَمْرَتَانِ، يَحْمِلُ سَيْفًا يَبْرُقُ كَالذَّهَبِ. قَالَ لَهُ: "تَصِفُنِي بِالجَبَانِ فِي أَرْضِي وَأَمَامَ قَوْمِي؟ وَاللهِ لَنْ أَتْرُكَكَ. هَلُمُّوا أَيُّهَا الأَبْطَالُ."

ظَهَرَ أَرْبَعُونَ مِنَ الفُرْسَانِ، كُلُّهُمْ عَلَى هَيْئَةِ هَذَا الأَوَّلِ.

قَالَ لَهُمْ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ: "مِنْ أَيِّ القَوْمِ أَنْتُمْ؟!"

قَالُوا: "نَحْنُ مِنْ قَبِيلَةِ فَزَامَ. أَلَمْ تَسْمَعْ بِأَبِي نَهْشَلِ الفَزَامِيِّ؟"

فأجابَ سَعْدٌ: "لا وَاللهِ، ما سَمِعْتُ بِهَذَا الرَّجُلِ وَلا بِالقَبِيلَةِ. هَلْ أَنْتُمْ مِنَ الجِنِّ أَمْ مِنَ الإِنْسِ؟"

رَدُّوا عَلَيْهِ: "نَحْنُ لا نُجِيبُكَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَيُّهَا المُعْتَدِي، اقْبِضُوا عَلَيْهِ."

اجْتَمَعَ الفُرْسَانُ عَلَى سَعْدِ بْنِ وَرَقَةَ، فَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَبَدَأَ يَضْرِبُ يَمِينًا وَيَسَارًا، لَكِنَّهُ لَمْ يُصِبْ أَحَدًا، إِذْ كَانَ يَضْرِبُ فِي الهَوَاءِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ. حَتَّى الآنَ لَمْ يَعْلَمْ سَعْدٌ إِنْ كَانُوا جِنًّا أَمْ سَحَرَةَ الصَّحْرَاءِ. تَكَاثَفُوا حَوْلَهُ وَأَمْسَكُوهُ، وَمَا إِنْ لَامَسَتْ أَيْدِيهِمْ جَسَدَهُ حَتَّى انْشَلَّ وَخَارَتْ قُوَاهُ. أَخَذُوهُ وَوَثَقُوهُ بِالسَّلَاسِلِ وَحَمَلُوهُ مَعَ فَرَسِهِ إِلَى غَارٍ فِي بَطْنِ جَبَلٍ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الغَارَ بِصَخْرَةٍ كَبِيرَةٍ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمَّ تَرَكُوهُ وَذَهَبُوا تَحْتَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.

عِنْدَمَا أَفَاقَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ، لَمْ يَجِدْ أَيَّ وِثَاقٍ أَوْ أَثَرًا لِرِبَاطٍ عَلَى يَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. وَعِنْدَمَا بَزَغَ الصَّبَاحُ، رَأَى أَنْوَارَ الفَجْرِ تَتَسَلَّلُ مِنْ أَطْرَافِ الصَّخْرَةِ الَّتِي سَدَّتْ مَدْخَلَ الغَارِ. قَامَ وَصَلَّى، وَأَخْرَجَ شَيْئًا قَلِيلًا مِنْ زَادِهِ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَأَعْطَى فَرَسَهُ قَلِيلًا مِنَ الشَّعِيرِ وَالمَاءِ، لأَنَّهُ أَدْرَكَ أَنَّ أَمَدَ الحَبْسِ قَدْ يَطُولُ.

عِنْدَمَا شَعشَعَ الفجر وَأَشْرَقَتِ الشَّمْسُ دَخَلَ النُّورُ مِنْ أَطْرَافِ الصَّخْرَةِ، فأَضَاءَ الكَهْفُ قَلِيلًا. حَاوَلَ سَعْدٌ تَحْرِيكَ الصَّخْرَةِ لِيَخْرُجَ، لَكِنَّهَا كَانَتْ ضَخْمَةً جِدًّا، حَتَّى عَشْرَةُ رِجَالٍ بِقُوَّتِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ زَحْزَحَتَهَا. بَدَأَ يَحْفِرُ الأَرْضَ تَحْتَهَا لِتَسْقُطَ، لَكِنَّ الرِّمَالَ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَلَمَّا نَفِدَتْ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الصَّخْرَةَ مَوْضُوعَةٌ بِإِحْكَامٍ عَلَى كَبِدِ الجَبَلِ، فَكَانَ لا سَبِيلَ لِلْحَفْرِ. جَلَسَ يُفَكِّرُ فِي مَا يَفْعَلُهُ، وَيَسْتَرْجِعُ مَا أَصَابَهُ مِنْ بَلَاءٍ.

قَامَ سَعْدٌ وَرَبَطَ حَبْلَ الفَرَسِ بِأَطْرَافِ الصَّخْرَةِ، وَسَحَبَ لِجَامِ الفَرَسِ إِلَى الدَّاخِلِ، عَلَّ الفَرَسَ يَسْتَطِيعُ تَحْرِيكَ الصَّخْرَةِ وَلَوْ قَلِيلًا، لَكِنْ هَيْهَات، لَمْ يَسْتَطِعِ الحِصَانُ الأَسْوَدُ القَوِيُّ أَنْ يُحَرِّكَهَا قَيْدَ أُنْمُلَةٍ. بَعْدَ أَنْ نَفِدَتْ مِنْهُ كُلُّ الحِيَلِ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذَا النَّفَقِ، اتَّجَهَ إِلَى اللهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ القَائِلُ: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}، اللَّهُمَّ إِنِّي مُضْطَرٌّ وَأَلَمَّ بِيَ السُّوءُ، فَاسْتَجِبْ دُعَائِي وَاكْشِفِ السُّوءَ عَنِّي." وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ فَرَجَ اللهِ.

وَمَرَّ اليَومُ الأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَهُوَ لا يَزَالُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالمَاءُ عَلَى وَشْكِ النَّفَادِ، وَالزَّادُ أَصْبَحَ شَحِيحًا. صَلَّى سَعْدٌ فِي هَذَا الغَارِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَرْضًا، وَقَرَأَ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَدَعَا دُعَاءً مُسْتَمِرًّا دُونَ كَلَلٍ أَوْ مَلَلٍ. وَفِي إِحْدَى أَدْعِيَتِهِ قَالَ:

"وَإِذَا انْتَهَى عِزِّي وَشَاخَتْ قُوَّتِي     فَاللهُ يَرْحَمُ مَنْ يُبَدِّلُ لَونَهُ

فَهُوَ الَّذِي أَجْرَى السَّحَابَ بِمَائِهِ     وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الأَنَامَ وَكَونَهُ

يَا مَلْجَئِي بِالعَفْوِ أَطْلُبُ رَاجِيًا     اجْعَلْ لِعَبْدِكَ مَخْرَجًا كُنْ عَوْنَهُ"

شَعَرَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ بِتَعَبٍ شَدِيدٍ وَغَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ، فَرَأَى فِي المَنَامِ أَنَّ الصَّخْرَةَ قَدِ انْفَرَجَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا وَذَهَبَ إِلَى البَدْوِ، وَقَابَلَهُمْ وَهُمْ سَبْعَةٌ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ، وَاسْتَسْلَمُوا لَهُ وَسَلَّمُوهُ إِبِلَ بَنِي سُهَيْلٍ، وَعَادَ إِلَى الدَّارِ. رَأَى سَلْمَى فِي جَمَالٍ لا يُضَاهَى، وَقَدْ تَعَافَتْ مِنْ مَرَضِهَا، وَتَزَوَّجَهَا وَخَرَجَتْ مَعَهُ فِي أَبْهَى حُلَّةٍ، حَتَّى أَشْرَقَتِ الأَرْضُ مِنْ حَوْلِهَا مِنْ شِدَّةِ جَمَالِهَا وَبَرِيقِهَا، وَكَانَ سَعِيدًا سَعَادَةً لا تُشْبِهُهَا سَعَادَةٌ. لَكِنَّهُ اسْتَيْقَظَ فَجْأَةً مِنْ نَوْمِهِ، لِيَجِدَ نَفْسَهُ مَا زَالَ مَحْبُوسًا فِي الغَارِ. فَانْطَبَقَ عَلَيْهِ الهَمُّ بَعْدَ أَنْ شَعَرَ بِالفَرَحِ فِي حُلْمِهِ.

وَمَعَ انْسِدَادِ الآمَالِ عَلَى سَعْدِ بْنِ وَرَقَةَ، وَالأَيَّامُ تَمُرُّ عَلَيْهِ، وَالمَاءُ يَنْفَدُ، وَالزَّادُ قَدْ نَفِدَ بِالفِعْلِ، لَمْ يَسْتَسْلِمْ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَنِ الدُّعَاءِ. وَفِي صَبَاحِ اليَومِ الخَامِسِ، سَمِعَ حَرَكَةً وَضَجِيجًا وَنِقَاشًا حَادًّا خَارِجَ الغَارِ. اقْتَرَبَ مِنَ الصَّخْرَةِ وَنَظَرَ مِنْ فُتْحَةٍ بَيْنَ الصَّخْرَةِ وَشَفِيرِ الغَارِ، فَرَأَى هَيْئَةَ الرِّجَالِ الَّذِينَ اعْتَقَلُوهُ وَمَعَهُمْ شَيْخٌ كَبِيرٌ يَرْتَدِي لِبَاسًا وَقُورًا، وَيَشُعُّ النُّورُ مِنْ وَجْهِهِ وَهُوَ غَاضِبٌ، وَيَقُولُ: "أَسْرِعُوا وَأَزِيحُوا هَذِهِ الصَّخْرَةَ، فَوَاللهِ لَوْ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ لَأَقْتُلَنَّكُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا." فَانْزَاحَتِ الصَّخْرَةُ كَأَنَّهَا قِطْعَةُ خَشَبٍ خَفِيفَةٍ، فَخَرَجَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ. وَكَانَ الوَقْتُ صَبَاحًا بَعْدَ الشُّرُوقِ بِقَلِيلٍ. أَخَذَ فَرَسَهُ وَخَرَجَ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ الَّذِي بَدَا أَنَّهُ زَعِيمُ القَبِيلَةِ: "مَاذَا حَدَثَ؟ لِمَاذَا حَبَسَكَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ هُنَا؟"

قَالَ لَهُ: "وَاللهِ يَا عَمَّاهُ، لَا أَعْلَمُ مَا هُوَ ذَنْبِي."

فَرَدَّ عَلَيْهِ العَجُوزُ بِغَضَبٍ: "مَاذَا قُلْتَ؟ عَمَّاهُ؟!!!"

قَالَ الشَّابُّ بِهُدُوءٍ وَاحْتِرَامٍ: "نَعَمْ، فَأَنْتَ فِي مَقَامِ عَمِّي، وَلَابُدَّ لِي أَنْ أُخَاطِبَكَ بِالإِجْلَالِ وَالاحْتِرَامِ."

فَرَدَّ العَجُوزُ مُتَعَجِّبًا: "يَا بُنَيَّ، وَاللهِ لَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَائِي أَوْ أَبْنَاءِ أَخِي يَوْمًا بِمِثْلِ هَذَا الكَلَامِ المُحْتَرَمِ، مَنْ عَلَّمَكَ هَذَا الأَدَبَ وَمَنْ رَبَّاكَ؟ هَيَّا لِتَذْهَبَ مَعَنَا إِلَى دِيَارِنَا فَنُكْرِمَكَ وَنَقْتَصَّ لَكَ مِنَ المُسِيئِينَ بِحَقِّكَ."

أَجَابَهُ الشَّابُّ بِحُزْنٍ: "يَا عَمَّاهُ، إِنَّ أَمَامِي سَفَرًا طَوِيلًا، وَأَيَّامِي قَدِ انْقَضَتْ فِي هَذَا الحَبْسِ، فَأَخْشَى أَنْ يَظُنَّ الذِينَ أَرْسَلُونِي أَنِّي هَلَكْتُ."

قَالَ لَهُ العَجُوزُ بِحَزْمٍ: "لَا وَاللهِ، لَنْ أَدَعَكَ تَذْهَبُ وَأَنْتَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ؛ إِنَّكَ مُتْعَبٌ كَمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ وَلَا تَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ مَشَقَّةِ السَّفَرِ. هَيَّا مَعَنَا."

ثُمَّ أَخَذُوهُ وَأَرْكَبُوهُ عَلَى حِصَانٍ، وَسَارُوا بِهِ إِلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ. هُنَاكَ، وَقَفَ العَجُوزُ عَلَى تَلَّةٍ وَصَاحَ بِكَلِمَةٍ غَرِيبَةٍ، فَإِذَا بِالرِّمَالِ تَتَطَايَرُ كَأَنَّ إِعْصَارًا قَدْ هَبَّ عَلَيْهَا، وَفُتِحَتْ أَبْوَابٌ عَظِيمَةٌ تُؤَدِّي إِلَى آبَارٍ عَمِيقَةٍ تَحْتَ الأَرْضِ. دَخَلُوا إِلَى تِلْكَ الأَبْوَابِ وَأَدْخَلُوا مَعَهُمْ الشَّابَّ، وَكَانَ يَمْتَلِئُ دَهْشَةً وَخَوْفًا وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا لِذَلِكَ العَجُوزِ. وَمَا إِنْ تَمَكَّنُوا دَاخِلَ تِلْكَ الأَرْضِ، حَتَّى رَأَى الشَّابُّ مَدِينَةً كَامِلَةً مَبْنِيَّةً تَحْتَ الأَرْضِ، مَلِيئَةً بِالعَجَائِبِ وَالغَرَائِبِ. دَخَلُوا إِلَى وَسَطِ المَدِينَةِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ قَصْرٌ رَائِعُ الجَمَالِ يُضَاهِي بَيَاضُهُ بَيَاضَ النُّورِ.

دَخَلُوا القَصْرَ وَوَضَعُوا لَهُ طَعَامًا شَهِيًّا، وَكَانَتْ هُنَاكَ فَتَيَاتٌ كَأَنَّهُنَّ الدَّرَارِي يخْدِمْنَ الضُّيُوفَ وَيُوَزِّعْنَ الطَّعَامَ. يَبْدُو أَنَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ هُوَ مَالِكُ هَذَا القَصْرِ وَيَتَصَرَّفُ كَأَنَّهُ مَلِكٌ. بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَ الشَّابُّ طَعَامَهُ الشَّهِيَّ، قَالَ لَهُ العَجُوزُ: "أَنَا مَلِكُ الجِنِّ فِي فَزامَ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خُدَّامُ المَمْلَكَةِ فِي هَذِهِ القَبِيلَةِ. نَحْنُ مُسْلِمُونَ لَا نَعْتَدِي عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ انْحَرَفُوا عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، فَأَصْبَحَ شُغْلُهُمْ الشَّاغِلُ شُرْبَ الخَمْرِ وَمُعَاقَرَةَ النِّسَاءِ وَالغِنَاءَ فِي الأَوْدِيَةِ وَالصَّحَارِي. وَاللهِ يَا بُنَيَّ، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ بِحَبْسِكَ حَتَّى اشْتَكَى أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ وِشَايَةٍ فِيهَا الخَيْرُ وَنَجَاةٌ لِمُسْلِمٍ مِنَ الهَلَاكِ. لَقَدْ غَضِبْتُ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ مَعَكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَهَا أَنَا ذَا أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ عَمَّا فَعَلُوا بِكَ."

أَجَابَهُ الشَّابُّ: "لَا عَلَيْكَ يَا عَمَّاهُ؛ فَهَذِهِ أَقْدَارُ اللهِ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَبِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ."

فَقَالَ لَهُ العَجُوزُ: "خُذْ رَاحَتَكَ هُنَا فِي قَصْرِي، وَإِنْ شِئْتَ فَتَجَوَّلْ فِي أَنْحَاءِ المَمْلَكَةِ، فَلَنْ يَمَسَّكَ أَحَدٌ مِنَ الجِنِّ بِسُوءٍ؛ فَأَنْتَ فِي عَهْدِي حَتَّى آتِيَكَ فِي المَسَاءِ. لِي جَلْسَةٌ فِي القَضَاءِ قَدْ تَطُولُ، وَإِذَا أَتَاكَ رَسُولٌ مِنِّي يَسْتَدْعِيكَ فَتَعَالَ مَعَهُ."

اضْطَجَعَ الشَّابُّ عَلَى فِرَاشٍ وَثِيرٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ فِي حَيَاتِهِ، وَهُوَ يَتَأَمَّلُ سَقْفَ القَصْرِ المُزَخْرَفَ بِتَفَاصِيلَ عَجِيبَةٍ، وَيَتَأَمَّلُ تِلْكَ الجَوَارِيَ اللَّاتِي كَأَنَّهُنَّ نُجُومُ السَّمَاءِ، جَمَالَهُنَّ وَنَظَافَتَهُنَّ وَزِينَتَهُنَّ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا مِنْ قَبْلُ. وَلَكِنَّهُ كَانَ مُرْهَقًا، فَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَنَامَ حَتَّى صَلَاةِ الظُّهْرِ.

عِنْدَ الأَذَانِ، اسْتَيْقَظَ عَلَى صَوْتٍ جَمِيلٍ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى. بَعْدَهَا جَاءَهُ أَحَدُ الفُرْسَانِ وَأَبْلَغَهُ بِأَنَّ المَلِكَ يَدْعُوهُ إِلَى مَجْلِسِ القَضَاءِ. فَتَوَجَّهَ الشَّابُّ إِلَى المَجْلِسِ، وَجَلَسَ أَمَامَ المَلِكِ، وَكَانَتِ الحَاشِيَةُ فِي مَجْلِسٍ دَائِرِيٍّ، وَالوُزَرَاءُ يَلْبِسُونَ مَلَابِسَ زَاهِيَةً وَيَبْدُو عَلَيْهِمْ حُسْنُ المَظْهَر.

قَالَ لَهُ المَلِكُ: "هَلِ اسْمُكَ سَعْدُ ابْنُ وَرَقَةَ؟"

قَالَ الشَّابُّ: "نَعَمْ."

ثُمَّ سَأَلَهُ المَلِكُ: "هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ مَعَ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ؟"

فَأَجَابَ سَعْدٌ: "نَعَمْ."

فَسَأَلَهُ المَلِكُ: "مَنْ الَّذِي أَرْسَلَكَ؟"

قَالَ الشَّابُّ: "أَرْسَلَنِي عَمِّي يُوسُفُ إِلَى قَبِيلَةِ كَذَا مِنْ أَجْلِ كَذَا وَكَذَا."

فَقَالَ المَلِكُ: "أَبْشِرْ، سَنُعِينُكَ فِي ذَلِكَ، وَلَكِن الآنَ نَحْنُ بِصَدَدِ الظُّلْمِ الَّذِي تَعَرَّضْتَ لَهُ. لَقَدِ اعْتَرَفَ أَبْنَائِي وَأَبْنَاءُ أَخِي بِأَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ بِحَقِّكَ، وَقَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِمْ بِالسِّجْنِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَالتَّجْوِيعِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ كَمَا فَعَلُوا بِكَ."

قَالَ الشَّابُّ بِتَوَاضُعٍ: "يَا مَوْلَايَ، إِنْ كَانَ حُكْمُكَ قَدْ سُبِقَ فَلَيْسَ لَدَيَّ مَا أَقُولُ، وَإِنْ كَانَ يَحِقُّ لِي التَّدَخُّلُ فِي الحُكْمِ فَلْتَأْذَنْ لِي جَلَالَتُكَ."

فَقَالَ المَلِكُ: "الحُكْمُ حُكْمُكَ، وَالمَظْلُومُ أَنْتَ، فَاحْكُمْ بِمَا تَرَى، وَاللهِ سَوْفَ أُطَبِّقُ مَا تَحْكُمُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَمَرْتَ بِقَتْلِهِمْ."

قَالَ سَعْدٌ: "يَا مَوْلَايَ، هُمْ لَمْ يَحْبِسُونِي خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَإِنَّمَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ أَجُعْ وَلَمْ أَعْطَشْ، فَقَدْ كَانَ زَادِي وَمَائِي مَعِي. فَالحُكْمُ العَادِلُ أَنْ يُحْبَسُوا خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِدُونِ تَجْوِيعٍ، وَهَذَا هُوَ العَدْلُ، وَإِنْ أَرَدْتَ مِنِّي الفَضْلَ فَإِنِّي أَعْفُو عَنْهُمْ إِكْرَامًا لَكَ يَا مَوْلَايَ."

قَالَ المَلِكُ: "يَا بُنَيَّ، أَنْتَ صَغِيرٌ فِي السِّنِّ، وَلَكِنَّ عَقْلَكَ يَزِنُ عُقُولَ المُلُوكِ. لَقَدْ حَكَمْتَ بِالعَدْلِ وَتَفَضَّلْتَ بِالعَفْوِ، فَلَكَ عَلَيْنَا وَلَهُمْ فَضْلٌ كَبِيرٌ. لَمْ يَنْزِلْ عِنْدَنَا ضَيْفٌ أَكْرَمُ مِنْكَ." ثُمَّ نَادَى الجَمِيعَ وَأَمَرَهُمْ: "اذْهَبُوا إِلَى صَعَالِيكِ العَرَبِ مِنْ قَبِيلَةِ كَذَا وَكَذَا، وَأَوْثِقُوهُمْ بِالحِبَالِ، وَقُودُوا جِمَالَ بَنِي سُهَيْلٍ وَأْتُوا بِهَا إِلَيْنَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ تَأَخَّرْتُمْ فَلَكُمُ الوَيْلُ."

تَدَخَّلَ الشَّابُّ قَائِلًا: "يَا مَوْلَايَ، أَنَا صَاحِبُ الشَّأْنِ، وَأَنَا الَّذِي سَأَذْهَبُ وَأُحَارِبُ بِسَيْفِي هَذَا وَأَسْتَرْجِعُ الإِبِلَ إِلَى أَهْلِهَا. كَيْفَ أَجْلِسُ هُنَا كَالنِّسَاءِ بَيْنَمَا يَقُومُ الرِّجَالُ بِمهمَّتِي؟!"

فَقَالَ المَلِكُ: "الأَمْرُ لَكَ، وَلَكِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ السَّمَاحَ لَهُمْ بِمُرَافَقَتِكَ دُونَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي مَعْرَكَتِكَ إِلَّا إِذَا احْتَجْتَ إِلَيْهِمْ."

قَالَ سَعْدٌ: "قُلْتَ فَعَدَلْتَ يَا مَوْلَايَ."

قَالَ لَهُ المَلِكُ: "إِذًا، عِنْدَ عَوْدَتِكَ، يَجِبُ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ لِأُكْرِمَ وِفَادَتَكَ."

قَالَ سَعْدٌ: "سَمْعًا وَطَاعَةً، أَيُّهَا المَلِكُ العَادِلُ."

ثُمَّ نَاوَلَ المَلِكُ سَعْدًا كَأْسًا قَائِلًا: "اشْرَبْ هَذَا وَاجْرَعْ مِنْهُ ثَلَاثًا."

شَرِبَ الشَّابُّ، وَأَحَسَّ بِشَيْءٍ يَسْرِي فِي جَسَدِهِ كَالقَشْعَرِيرَةِ. فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: "هَذَا سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِنَا؛ إِنَّكَ سَتَرَى الجِنَّ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَرَدْتَ رُؤْيَتَهُمْ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الجِنُّ كَائِنًا مَنْ كَانَ أَنْ يَتَخَفَّى عَنْكَ؛ فَقَدْ انْكَشَفَتْ عَنْكَ الحُجُبُ وَزَالَ السِّتَارُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ."

فِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي، وَدَّعَ سَعْدٌ المَلِكَ قَائِلًا: "أَكْرَمَكَ اللهُ كَمَا أَكْرَمْتَنِي يَا مَوْلَايَ."

رَدَّ المَلِكُ: "اذْهَبْ، وَسَيَتْبَعُكَ الفُرْسَانُ."

فَغَادَرَ الشَّابُّ عَلَى فَرَسِهِ الَّذِي اسْتَعَادَ قُوَّتَهُ. بَعْدَ قَضَاءِ يَوْمٍ مَعَ المَلِكِ عَبْدِ الجَلِيلِ، مَلِكِ مَمْلَكَةِ فَزامَ فِي الرُّبْعِ الخَالِي، سَارَ سَعْدٌ حَتَّى العَصْرِ وَلَمْ يَرَ أَحَدًا مِنَ الفُرْسَانِ يَتْبَعُهُ. وَلَكِنَّهُ لَاحَظَ وُجُودَ أَرْبَعَةِ غِرْبَانٍ تَتْبَعُهُ أَيْنَمَا ذَهَبَ. وَعِنْدَمَا نَزَلَ وَصَلَّى العَصْرَ، اخْتَفَتِ الغِرْبَانُ خَلْفَ جَبَلٍ قَرِيبٍ. أَكْمَلَ الشَّابُّ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةً وَهُوَ يَسِيرُ مِنْ فَجٍّ إِلَى فَجٍّ، وَمِنْ سَهْلٍ إِلَى سَهْلٍ، وَمِنْ وَادٍ إِلَى وَادٍ حَتَّى بَلَغَ هَدَفَهُ وَوَصَلَ إِلَى صَيْعَرَ، مِنْطَقَةٍ تَجْتَمِعُ فِيهَا اللُّصُوصُ البَدْوُ الَّذِينَ يَنْهَبُونَ إِبِلَ العَرَبِ. نَزَلَ الشَّابُّ وَرَبَطَ فَرَسَهُ، وَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ جَالِسِينَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ، وَقَالَ لَهُمْ بِحَزْمٍ: "إِنَّ جَمَاعَةً مِنْكُمْ أَغَارُوا عَلَى بَنِي سُهَيْلٍ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ ثَلَاثًا مِنَ الإِبِلِ. وَقَدْ جِئْتُ لِأَسْتَرِدَّهَا."

فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ خَوْفٌ شَدِيدٌ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ مُعْتَذِرًا: "نَعَمْ، نَعَمْ، أَخَذْنَاهَا وَنَحْنُ نَعْتَذِرُ إِلَيْكَ. هَا هِيَ الإِبِلُ، خُذْهَا وَاذْهَبْ بِسَلَامٍ."

اِنْدَهَشَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ مِنْ سُرْعَةِ خَوْفِ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصِ وَاسْتِسْلَامِهِمْ، فَنَظَرَ خَلْفَهُ لِيَجِدَ أَبْنَاءَ المَلِكِ عَبْدِ الجَلِيلِ الأَرْبَعَةَ، وَقَدْ وَقَفُوا بِقَامَاتٍ ضَخْمَةٍ وَسُيُوفٍ مُشْهَرَةٍ وَهَيْئَاتٍ تُثِيرُ الرَّهْبَةَ، فَاسْتَوْعَبَ أَنَّ اللُّصُوصَ قَدْ رَهَبُوا مِنْهُمْ. غَضِبَ سَعْدٌ وَقَالَ لَهُمْ: "أَيْنَ الفَخْرُ فِي هَذَا؟ لَمْ أَسْتَعِد الإِبِلَ بِجُهْدِي بَلْ بِسَبَبِ خَوْفِهِمْ مِنْكُمْ." فَأَجَابُوهُ: "نَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِحِمَايَتِكَ وَمُرَافَقَتِكَ." عِنْدَهَا اقْتَادَ سَعْدٌ الإِبِلَ وَعَادَ أَدْرَاجَهُ. وَبَعْدَ سَاعَاتٍ مِنَ السَّيْرِ، تَحَوَّلَ أُولَئِكَ الأَصْحَابُ إِلَى غِرْبَانٍ وَطَارُوا مُبْتَعِدِينَ.

تَابَعَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ مَسِيرَهُ مِنْ دِيَارِ صَيْعَرَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَمْلَكَةِ مَلِكِ الجِنِّ المُسْلِمِ، عَبْدِ الجَلِيلِ الكَاسِرِ. وَقَفَ عَلَى التَّلَّةِ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا المَلِكُ فِي المَرَّةِ السَّابِقَةِ حِينَ نَادَى بِالكَلِمَةِ الَّتِي تُفَرِّقُ الرِّمَالَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ تِلْكَ الكَلِمَةَ. فَرَفَعَ صَوْتَهُ قَائِلًا: "أَيُّهَا المَلِكُ الصَّالِحُ، أَنَا سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ، قَدْ وَفَيْتُ بِوَعْدِي." عِنْدَهَا تَطَايَرَتِ الرِّمَالُ، وَانْفَتَحَتِ الأَبْوَابُ المُؤَدِّيَةُ إِلَى دِيَارِهِمْ. اِسْتَقْبَلَهُ المَلِكُ عِنْدَ مَدْخَلِ الدِّيَارِ وَرَحَّبَ بِهِ بِحَرَارَةٍ، وَأَدْخَلَهُ إِلَى دَارِ الضِّيَافَةِ.

وَصَلَ سَعْدٌ فِي وَقْتٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، فَأَدَّى صَلَاتَهُ وَقَرَأَ حِزْبَهُ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ، تَجَمَّعَ حَوْلَهُ الجِنُّ يَسْتَمِعُونَ وَيَتَأَثَّرُونَ، بَلْ يَبْكُونَ. قَرَأَ سَعْدٌ الآيَاتِ الَّتِي تَتَحَدَّثُ عَنِ الجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا لِلْقُرْآنِ وَقَالُوا: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ."

كَانَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ مَذْهُولًا مِنْ طِيبَةِ هَؤُلَاءِ الجِنِّ الصَّالِحِينَ، وَتَذَكَّرَ الظُّلْمَ الَّذِي عَانَى مِنْهُ عَلَى يَدِ الفُرْسَانِ الَّذِينَ أَسَرُوهُ فِي الكَهْفِ. فَأَخْبَرَ المَلِكَ قَائِلًا: "يَا مُولَايَ، إِنَّ أَبْنَاءَكَ وَأَبْنَاءَ أَخِيكَ لَا يُشْبِهُونَ هَؤُلَاءِ القَوْمَ الطَّيِّبِينَ. هَؤُلَاءِ صَالِحُونَ، أَمَّا أُولَئِكَ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ." أَجَابَ المَلِكُ بِحِكْمَةٍ: "يَا بُنَيَّ، إِنَّ مِنَّا الصَّالِحِينَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ، نَحْنُ قَبَائِلُ شَتَّى. لَقَدْ تَزَوَّجْتُ أَنَا وَأَخِي مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى، وَتَرَبَّى أَوْلَادُنَا مَعَ أَخْوَالِهِمْ فَنَشَأُوا بِطِبَاعٍ فَاسِدَةٍ. نَسْأَلُ اللهَ لَهُمْ الهِدَايَةَ، وَلَكِنَّهُمْ رِجَالٌ شُرَفَاءُ، لَا يَقْبَلُونَ الاِنْتِقَاصَ مِنْ دِينِ اللهِ وَيُحِبُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ." فَرَدَّ سَعْدٌ: "وَاللهِ، فِيهِمْ خَيْرٌ، وَنَرْجُو اللهَ لَهُمْ الهِدَايَةَ."

طَلَبَ المَلِكُ مِنْ سَعْدٍ أَنْ يَقْضِيَ اللَّيْلَةَ عِنْدَهُ وَأَنْ يَسْتَأْنِفَ مَسِيرَهُ فِي اليَوْمِ التَّالِي. وَأَشَارَ المَلِكُ: "لَدَيَّ الكَثِيرُ لِأَقُولَهُ لَكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَقَدْ أَصْبَحْتَ صَدِيقًا، وَالصَّدَاقَةُ بَيْنَ الإخْوَةِ لَيْسَتْ أَمْرًا هَيِّنًا." وَعِنْدَ حُلُولِ اللَّيْلِ، طَلَبَ المَلِكُ مِنْ سَعْدٍ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فِي صَلَاةِ العِشَاءِ وَأَنْ يُلْقِيَ مَوْعِظَةً عَلَى الجِنِّ مِنْ عِلْمِهِ. فَقَالَ سَعْدٌ: "إِذًا، أَطْلُبُ مِنْ أَوْلَادِكَ أَنْ يَحْضُرُوا لِيَسْتَمِعُوا إِلَى مَوْعِظَتِي يَا مُولَايَ."

بَعْدَ أَنْ أَمَّهُمْ سَعْدٌ فِي صَلَاةِ العِشَاءِ، وَقَفَ وَأَلْقَى خُطْبَتَهُ قَائِلًا: "أَيُّهَا القَوْمُ، إِنَّ اللهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعْمَةٍ وَلَمْ يَشْكُرُوهَا، سُلِبَتْ مِنْهُمْ. وَإِذَا أُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهَا، كَانَتْ عَلَيْهِمْ بَلَاءً وَذُنُوبًا. إِنَّ التَّفَاخُرَ بِالنَّفْسِ مِنْ شِيَمِ الضُّعَفَاءِ، أَمَّا التَّوَاضُعُ فَهُوَ شَأْنُ الأَقْوِيَاءِ. إِنَّ القُوَّةَ بِيَدِ اللهِ، يُمْنَحُهَا لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، وَأَهْلِ المَعْصِيَةِ ضُعَفَاءُ مَهْمَا عَظُمَ بُنْيَانُهُمْ.

أَرْسَلَ اللهُ رَسُولَهُ لِيُبَلِّغَ النَّاسَ الهُدَى، وَبَعْدَ قَبْضِهِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ يُكْمِلُوا مهَمَّتَهُ وَيُبَلِّغُوا رِسَالَتَهُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً). أَنْتُمْ، أَيُّهَا الجِنُّ، قَدْ مَنَحَكُمُ اللهُ قُدُرَاتٍ لَمْ يُعْطِهَا لِلْبَشَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مَزَايَا كَثِيرَةً، فَاسْتَغِلُّوا قُوَّتَكُمْ لِنُصْرَةِ اللهِ، وَسَخِّرُوا قُدُرَاتِكُمْ لِمَنْفَعَةِ الخَلْقِ وَفِعْلِ الخَيْرِ، فَهَذَا هُوَ شُكْرُ النِّعَمِ. إِنَّ اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ شَأْنُ السُّفَهَاءِ، وَالسُّكْرَ وَالعُهْرَ لَا يَلِيقُ بِالأَبْطَالِ الصَّادِقِينَ. وَهَلْ يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يُنَادَى يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ بِأَنَّهُ كَانَ مَاجِنًا سَكِيرًا أَمَامَ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ؟

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالعُمُرَ فِيهَا مَحْدُودٌ. فَاسْتَغِلُّوا هَذِهِ السَّاعَاتِ القَلِيلَةَ لِلاِسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ إِلَى الدَّارِ الأَبَدِيَّةِ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ."

ثُمَّ خَتَمَ سَعْدٌ خُطْبَتَهُ بِالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَدَعَا اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَيُثَبِّتَهُمْ عَلَى الحَقِّ.

كانَ المَلِكُ مُتَرَبِّعًا على عَرْشِهِ يَسْتَمِعُ بِإِعْجَابٍ شَدِيدٍ إلى خُطْبَةِ سَعْدٍ العَصْمَاءِ الَّتِي أَلْقَاهَا أَمَامَ جُمُوعِ الجِنِّ. وَبَعْدَ أَنْ أَنْهَى سَعْدٌ خُطْبَتَهُ المُؤَثِّرَةَ، دَعَاهُ المَلِكُ إِلَى القَصْرِ مُكَرَّمًا، حَيْثُ قَضَيَا مَعًا وَقْتًا طَوِيلًا في الحَدِيثِ. وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ، سَأَلَ المَلِكُ سَعْدًا عَنْ عَلاقَتِهِ بِيُوسُفَ التَّيْمِيِّ. فَأَخْبَرَهُ سَعْدٌ بِالقِصَّةِ بِالتَّفْصِيلِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الحَدِيثِ عَنْ سَلْمَى المَرِيضَةِ الَّتِي يَنْتَابُهَا الفَزَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الغُرَابِ. تَعَجَّبَ المَلِكُ مِنْ كَلامِهِ وَقَالَ: "إِنَّ التَّحَوُّلَ إِلَى الغِرْبَانِ هُوَ سِرُّ مَمْلَكَتِنَا. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الفَتَاةُ تَرَى غُرَابًا حَقِيقِيًّا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ وَهْمٍ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا الغُرَابَ هُوَ جِنِّيٌّ مِنْ مَمْلَكَتِي، وَهُوَ أَمْرٌ يَسْهُلُ التَّعَامُلُ مَعَهُ."

فَسَأَلَهُ سَعْدٌ: "وَكَيْفَ أَتَحَقَّقُ مِنْ ذَلِكَ يَا مَوْلايَ؟"

أَجَابَهُ المَلِكُ: "عَلَيْكَ بِمُرَاقَبَةِ مَدَاخِلِ وَمَخَارِجِ بَيْتِهَا، فَإِنْ رَأَيْتَ غُرَابًا يَقْتَرِبُ مِنْهَا، فَقُلْ لَهُ: 'أَنَا مِنْ أَصْحَابِ المَلِكِ عَبْدِ الجَلِيلِ الكَاسِرِ، وَأَنَّ عَبْدَ الجَلِيلِ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ في الحَالِ'. فَإِنِ ابْتَعَدَ الغُرَابُ، فَقَدْ نَجَحْتَ، وَإِنْ سَمِعَ مِنْكَ كَلِمَةَ السِّرِّ فَسَوْفَ يُصَدِّقُكَ."

تَسَاءَلَ سَعْدٌ: "وَمَا هِيَ كَلِمَةُ السِّرِّ؟"

قَالَ المَلِكُ: "كَلِمَةُ السِّرِّ هِيَ 'الهَامَةُ'."

اسْتَفْسَرَ سَعْدٌ: "الهَامَةُ، تِلْكَ الَّتِي تَعْنِي مُقَدِّمَةَ الرَّأْسِ؟"

أَجَابَ المَلِكُ: "نَعَمْ، إِنَّهَا هِيَ. فَإِنْ لَمْ تَرَ شَيْئًا وَلِمُدَّةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ الفَتَاةَ تَتَوَهَّمُ وَتَعِيشُ في خَيَالٍ، فَاللهُ يُعِينُهَا."

فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَرِحَ ابْنُ وَرَقَةَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ قَدْ أَرَادَ لَهُ خَيْرًا، وَأَنَّ الجُنُودَ الَّذِينَ احْتَجَزُوهُ وَالأَيَّامَ الخَمْسَ الَّتِي قَضَاهَا في الغَارِ كَانَتْ نِعْمَةً مُسْتَتِرَةً. فَكَمْ مِنْ بَلاَءٍ يَرَاهُ الإِنسَانُ شَرًّا وَلَكِنَّهُ يَحْمِلُ الخَيْرَ في طَيَّاتِهِ. حَقًّا، الخَيْرُ فِيمَا يَخْتَارُهُ اللهُ.

فِي الصَّبَاحِ التَّالِي، انْطَلَقَ سَعْدُ ابْنُ وَرَقَةَ إِلَى دِيَارِ تَيْمٍ عَلَى ظَهْرِ الفَرَسِ "الرِّيحِ"، وَهُوَ اسْمُ فَرَسِ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِسُرْعَتِهَا الفَائِقَةِ. كَانَ سَعْدٌ يَقُودُ قَافِلَةً مِنَ الإِبِلِ الأَصِيلَةِ. وَعِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى دِيَارِ تَيْمٍ مَسَاءَ اليَوْمِ الثَّامِنِ، وَجَدَهَا خَالِيَةً تَمَامًا؛ لاَ أَحَدَ في بَيْتِ أُمِّ الكِرَامِ، وَلاَ حَرَكَةً في بَيْتِ زُبَيْدَةَ الَّذِي يَبْعُدُ عَنْهُ سَبْعَمِائَةِ خُطْوَةٍ، حَيْثُ كَانَ الجَمِيعُ قَدْ ذَهَبُوا إِلَى حَفْلِ زِفَافِ ابْنِهِمْ.

وَقَفَ سَعْدٌ أَمَامَ بَيْتِ زُبَيْدَةَ مُتَأَمِّلًا، مُتَسَائِلًا إِنْ كَانَتْ سَلْمَى قَدْ سَافَرَتْ مَعَهُمْ أَمْ لاَ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَتَفَكَّرُ، خَرَجَتْ خَادِمَةُ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ، وَتُدْعَى دُرَّةَ، مِنْ دَارِ زُبَيْدَةَ. فَنَادَاهَا سَعْدٌ: "يَا دُرَّةُ، يَا دُرَّةُ، تَعَالَيْ إِلَى هُنَا."

اقْتَرَبَتْ دُرَّةُ مِنْهُ وَقَالَتْ: "نَعَمْ، يَا سَيِّدِي؟"

سَأَلَهَا سَعْدٌ: "أَيْنَ ذَهَبَ الجَمِيعُ؟"

أَجَابَتْهُ دُرَّةُ: "لَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى العُرْسِ مُنْذُ البَارِحَةِ."

فَسَأَلَهَا سَعْدٌ: "وَمَتَى سَيَعُودُونَ؟"

قَالَتْ: "غَدًا مَسَاءً، إِنْ شَاءَ اللهُ."

ثُمَّ تَابَعَ سَعْدٌ مُسْتَفْسِرًا: "وَمَنْ بَقِيَ هُنَا مَعَكِ؟"

أَجَابَتْ دُرَّةُ: "لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ سِوَى سَلْمَى، الَّتِي حُرِمَتْ مِنْ حُضُورِ العُرْسِ بِسَبَبِ مَرَضِهَا، وَهِيَ تَصْرُخُ طُولَ اليَوْمِ: 'اذْهَبْ أَيُّهَا الغُرَابُ المَلْعُونُ، اذْهَبْ، اذْهَبْ!'"

اسْتَفْسَرَ سَعْدٌ: "وَهَلْ رَأَيْتِ أَنْتِ هَذَا الغُرَابَ، يَا دُرَّةُ؟"

أَجَابَتْ دُرَّةُ: "وَاللهِ، لَمْ أَرَهُ أَنَا وَلاَ أَيُّ شَخْصٍ آخَرَ. إِنَّ الفَتَاةَ تَتَخَيَّلُ أَشْيَاءً غَيْرَ مَوْجُودَةٍ."

فَسَأَلَهَا سَعْدٌ: "وَمَتَى بَدَأَ هَذَا الصُّرَاخُ؟"

قَالَتْ دُرَّةُ: "بَدَأَ الصُّرَاخُ مُنْذُ سَفَرِ أَهْلِهَا."

قَالَ لَهَا: "سَأَبْقَى هُنَا أُرَاقِبُ المَكَانَ، فَإِذَا سَمِعْتِ صَرْخَةً، نَادِينِي فَوْرًا."

أَجَابَتْهُ: "سَتَسْمَعُهَا؛ فَإِنَّ صَرْخَتَهَا تَعُمُّ أَرْجَاءَ المَكَانِ."

اِتَّجَهَتْ دُرَّةُ نَحْوَ سَلْمَى، بَيْنَمَا ظَلَّ سَعْدٌ قُرْبَ بَيْتِ أُمِّ الكَرَامِ، يُرَاقِبُ غُرْفَةَ سَلْمَى بِنَظَرَاتِهِ المُتَفَحِّصَةِ، حَتَّى أَسْدَلَ اللَّيْلُ سَتَائِرَهُ المُظْلِمَةَ وَرَصَّعَ سَمَاءَهُ بِنُجُومِهِ اللَّامِعَةِ. تَعِبَ سَعْدٌ بَعْدَ يَوْمٍ طَوِيلٍ، فَصَلَّى ثُمَّ نَامَ فِي العَرَاءِ. اِسْتَيْقَظَ عِنْدَ الفَجْرِ، فَصَلَّى، وَنَظَرَ إِلَى غُرْفَةِ سَلْمَى، فَرَأَى شُعَاعًا مِنَ الضَّوْءِ يَنْبَعِثُ مِنْ نَافِذَتِهَا، فَظَنَّ أَنَّهَا قَضَتِ اللَّيْلَ سَاهِرَةً تَحْتَ ضَوْءِ السِّرَاجِ. أَخْرَجَ بَعْضَ العُشْبِ لِإِطْعَامِ الدَّوَابِّ، وَسَقَاهَا، ثُمَّ تَجَوَّلَ فِي الصَّحْرَاءِ، مَشْيًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، تَمْلَؤُهُ الشَّفَقَةُ عَلَى سَلْمَى وَالقَلَقُ عَلَى حَالِهَا، وَالشَّوْقُ العَارِمُ لِرُؤْيَتِهَا يُمْزِّقُ قَلْبَهُ، لَكِنَّهُ أَبَى أَنْ يَقْتَرِبَ مِنْ غُرْفَتِهَا.

وَأَثْنَاءَ تَجَوُّلِهِ، أَبْصَرَ غُرَابًا يَقْتَرِبُ مِنَ المَكَانِ. شَعَرَ بِأَنَّ هَذَا الغُرَابَ هُوَ ذَاكَ المُتَّهَمُ، فَتَتَبَّعَ حَرَكَتَهُ بِعَيْنَيْهِ، فَلَاحَظَ أَنَّهُ يَقْتَرِبُ مِنْ غُرْفَةِ سَلْمَى، وَكَانَ الوَقْتُ صَبَاحًا بَعْدَ الشُّرُوقِ بِقَلِيلٍ. هَرَعَ سَعْدٌ إِلَى غُرْفَتِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ، وَسَلَّهُ مِنْ غِمْدِهِ، وَانْطَلَقَ مُسْرِعًا نَحْوَ غُرْفَةِ سَلْمَى، وَقَلْبُهُ يَنْبِضُ بِسُرْعَةٍ بِسَبَبِ الحَمَاسَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي التَّخَلُّصِ مِنْ هَذَا الغُرَابِ.

فَرِحَ سَعْدٌ عِنْدَمَا أَدْرَكَ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ وَهْمًا، وَأَنَّ الغُرَابَ حَقًّا يُمَثِّلُ الجِنِّيَّ، مِمَّا زَادَ أَمَلَهُ فِي شِفَاءِ سَلْمَى قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللهُ. فَجْأَةً، حَطَّ الغُرَابُ عَلَى نَافِذَةِ غُرْفَةِ سَلْمَى وَدَخَلَ الغُرْفَةَ، فَصَرَخَتْ سَلْمَى صَرْخَةً مُدَوِّيَةً هَزَّتِ المَكَانَ. اضْطَرَبَ سَعْدٌ بِشِدَّةٍ وَرَكَضَ نَحْوَ الغُرْفَةِ وَهُوَ يَهْتِفُ: "اِنْتَظِرْ أَيُّهَا اللَّعِينُ، اليَوْمَ سَأَمْزِقُكَ إِرَبًا!"

وَلَكِنْ، مَا إِنِ اقْتَرَبَ سَعْدٌ مِنَ الغُرْفَةِ حَتَّى طَارَ الغُرَابُ وَحَلَّقَ فِي السَّمَاءِ، يَنْظُرُ إِلَى سَعْدٍ نَظْرَةَ تَحَدٍّ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ سَعْدٌ مِنْ تِلَاوَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ وَصَايَا المَلِكِ الصَّالِحِ، حَتَّى اخْتَفَى الغُرَابُ سَرِيعًا فِي الأُفُقِ، بَيْنَمَا اسْتَمَرَّتْ سَلْمَى فِي الصُّرَاخِ. وَقَفَ سَعْدٌ عِنْدَ بَابِ غُرْفَتِهَا، قَائِلًا لَهَا: "لَقَدْ طَارَ الغُرَابُ." مُحَاوِلًا تَهْدِئَتَهَا، وَرَآهَا تَرْتَعِشُ مِنَ الخَوْفِ، تُحَاوِلُ تَغْطِيَةَ جَسَدِهَا. عِنْدَمَا رَأَتْهُ، صَرَخَتْ وَأُغْمِيَ عَلَيْهَا.

فَاسْتَدَارَ سَعْدٌ يُنَادِي عَلَى دُرَّةَ قَائِلًا: "يَا دُرَّةُ، يَا دُرَّةُ، تَعَالِي بِسُرْعَةٍ، سَلْمَى قَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا!"

وَبَيْنَمَا كَانَ يَنْدُبُ الحَظَّ وَيُسْرِعُ لِنَجْدَتِهَا، قَالَتْ لَهُ دُرَّةُ بِغَضَبٍ: "وَأَنْتَ، مَا الَّذِي أَدْخَلَكَ عَلَيْهَا؟! سَأُخْبِرُ سَيِّدِي بِمَا فَعَلْتَ أَيُّهَا الخَائِنُ!"

رَدَّ سَعْدٌ بِصَوْتٍ مُتَوَسِّلٍ: "يَا دُرَّةُ، دَعْكِ مِنْ هَذَا الكَلامِ، أَسْرِعِي إِلَيْهَا الآنَ!"

اِنْدَفَعَتْ دُرَّةُ إِلَى غُرْفَةِ سَلْمَى وَوَجَدَتْهَا مُغْمًى عَلَيْهَا، فَرَشَّتْ عَلَى وَجْهِهَا المَاءَ حَتَّى أَفَاقَتْ، ثُمَّ سَأَلَتْهَا سَلْمَى، مَذْعُورَةً: "مَنْ الَّذِي دَخَلَ عَلَيَّ؟!"

أَشَاحَ سَعْدٌ بِوَجْهِهِ خَجَلًا وَقَالَتْ دُرَّةُ: "هَذَا هُوَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ، الَّذِي يَسْكُنُ فِي بَيْتِ أُمِّ الكَرَامِ."

نَظَرَتْ سَلْمَى بِذُهُولٍ وَقَالَتْ: "يَا اللهُ، هَذَا هُوَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ؟ لَقَدْ أَصْبَحَ رَجُلًا! لَمْ أَرَهُ مُنْذُ خَمْسِ سَنَوَاتٍ!"

أَجَابَتْ دُرَّةُ: "وَأَنَا أَرَاهُ كُلَّ يَوْمٍ، لَكِنَّنِي لَمْ أَتَحَدَّثْ مَعَهُ إِلَّا اليَوْمَ، عِنْدَمَا دَخَلَ عَلَيْكِ."

سَأَلَتْ سَلْمَى بِقَلَقٍ: "وَهَلْ رَأَى مِنِّي شَيْئًا؟"

قَالَتْ دُرَّةُ: "لَا أَعْلَمُ، لَكِنَّهُ جَاءَنِي مُسْرِعًا وَقَالَ لِي: أَدْرِكِي سَلْمَى، فَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهَا. وَلَمَّا وَبَّخْتُهُ لَمْ يَهْتَمَّ، وَأَمَرَنِي بِالإِسْرَاعِ إِلَيْكِ."

تَنَهَّدَتْ سَلْمَى وَقَالَتْ: "يَا دُرَّةُ، هَذَا الفَتَى أَمِينٌ وَلَيْسَ بِخَائِنٍ. نَظْرَتُهُ إِلَيَّ كَانَتْ مُفْعَمَةً بِالحَيَاءِ وَالشَّفَقَةِ، وَكَانَتْ خَاطِفَةً، ثُمَّ اسْتَدَارَ بِسُرْعَةٍ. لَوْ عَرَفْتُهُ لَمَا أُغْمِيَ عَلَيَّ. فَلَا تُخْبِرِي أَبِي بِشَيْءٍ، لِئَلَّا يُسَاءَ الظَّنُّ بِهِ."

أَجَابَتْ دُرَّةُ: "سَمْعًا وَطَاعَةً."

عِنْدَمَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَصارَ وَقْتُ الضُّحَى، قَالَتْ سَلْمَى: "اِذْهَبِي إِلَيْهِ وَاسْأَلِيهِ مَاذَا يَأْكُلُ؟ وَاصْنَعِي لَهُ طَعَامًا، وَأَخْبِرِيهِ أَنِّي بِخَيْرٍ."

فَعَلَتْ دُرَّةُ كَمَا طَلَبَتْ مِنْهَا سَلْمَى، وَبَيْنَمَا كَانَ سَعْدٌ فِي غُرْفَتِهِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ الَّذِي أَعَدَّتْهُ لَهُ دُرَّةُ، تَسَلَّلَ الغُرَابُ وَاخْتَبَأَ خَلْفَ الغُرْفَةِ، يَتَرَقَّبُ الفُرْصَةَ المُنَاسِبَةَ. دَخَلَتْ دُرَّةُ غُرْفَةَ سَلْمَى وَهِيَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَقَالَتْ: "هَيَا نَأْكُلْ." تَنَاوَلَتَا الطَّعَامَ مَعًا، وَخِلالَ الأَكْلِ، قَالَتْ سَلْمَى: "يَا دُرَّةُ، هَذَا الفَتَى يُشْغِلُ قَلْبِي. مُنْذُ أَنْ كُنْتُ طِفْلَةً وَهُوَ يُحِبُّنِي، كَمَا أَخْبَرَتْنِي أُمِّي، لَكِنْ لَا أَعْلَمُ هَلْ مَا زَالَ عَلَى حُبِّهِ، أَمْ أَنَّ الأَيَّامَ غَيَّرَتْ مَا بَدَاخِلِهِ؟"

أَجَابَتْهَا دُرَّةُ: "يَا سَلْمَى، هَذَا الفَتَى يُحِبُّكِ حَقًّا. لَقَدْ رَأَيْتُ كَيْفَ كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْكِ بِقَلَقٍ وَشَفَقَةٍ كَبِيرَةٍ عِنْدَمَا كُنْتِ فِي غَيْبُوبَتِكِ."

وَبَيْنَمَا كَانَتْ تَتَحَدَّثُ دُرَّةُ، كَانَ الغُرَابُ يَسْتَمِعُ، ثُمَّ مَا إِنْ خَرَجَتْ دُرَّةُ، حَتَّى تَحَوَّلَ الغُرَابُ إِلَى صُورَةِ رَجُلٍ يُشْبِهُ سَعْدَ بْنَ وَرَقَةَ، وَدَخَلَ عَلَى سَلْمَى، وَنَزَعَ عَنْهَا ثِيَابَهَا. صَرَخَتْ سَلْمَى بِقُوَّةٍ، وَجَاءَتْ دُرَّةُ مُسْرِعَةً، فَلَمْ تَرَ شَيْئًا، فِيمَا اسْتَمَرَّ صُرَاخُ سَلْمَى المُرْتَعِدِ.

قالتْ سَلْمى لدُرَّةَ: "اِطْرُدي هٰذا الرَّجُلَ منْ هُنا، يا دُرَّةُ". فأجابَتْها دُرَّةُ: "أنا لا أَراهُ". فقالَتْ سَلْمى بغَضَبٍ: "أنتِ كاذِبَةٌ، يا دُرَّةُ. أنتِ تتَّفِقينَ معهُ لأَذِيَّتي".

سَمِعَ سَعْدُ ابنُ وَرَقَةَ الصُّراخَ، فخرجَ منْ غُرْفَتِهِ مُسْرِعًا، لكنَّ الجِنِّيَّ في غُرْفَةِ سَلْمى استحالَ إلى غُرابٍ وطَارَ بَعيدًا. وعندما اقتربَ سَعْدٌ منَ الغُرْفَةِ، نادى: "يا دُرَّةُ، ما أخبارُ سَلْمى؟". فَرَدَّتْ سَلْمى غاضِبَةً: "يا دُرَّةُ، اِذْهَبي إلى هٰذا الفاسِقِ الذي يُناديكِ". قالَتْ دُرَّةُ: "إنَّهُ سَعْدُ ابنُ وَرَقَةَ". فقالَتْ سَلْمى: "إنَّهُ نَفْسُ الرَّجُلِ الذي كانَ مَعي". فردَّتْ دُرَّةُ بتَعَجُّبٍ: "نَسْأَلُ اللهَ لكِ العافِيَةَ، لمْ يَدْخُلْ سَعْدُ ابنُ وَرَقَةَ غُرْفَتَكِ، يا سَلْمى، فهوَ الآنَ بالخارجِ". فأجابَتْ سَلْمى بحَنَقٍ: "أَعْلَمُ أنَّهُ بالخارجِ، لقدْ كانَ هُنا وخَرَجَ، أَلا يَخْشى اللهَ هٰذا الفتى؟ سُبْحانَ اللهِ! لقدْ كُنْتُ أَحْتَرِمُهُ قَبلَ قليلٍ، والآنَ سَقَطَ منْ نَظَري". قالَتْ لها دُرَّةُ بهُدوءٍ: "يا سَلْمى، لا تَظْلِمي بَريئًا بِسَبَبِ رُؤْياكِ غَيْرِ الحَقيقِيَّةِ".

قَضَتْ سَلْمى يَوْمَها كُلَّهُ غارِقَةً في الحُزْنِ حتَّى جاءَ أهلُها عندَ العَصْرِ. وعندما نَزَلَ يُوسُفُ وأولادُهُ ورأَوْا أنَّ سَعْدًا قدْ أَحْضَرَ الإبِلَ، فَرِحوا وأُعْجِبُوا بِبَسالَتِهِ التي قَهَرَ بها الأعْداءَ. شَكَرَهُ يُوسُفُ وقالَ لهُ: "يا سَعْدُ، اِذْهَبْ أنتَ وأَحَدُ إخْوَتِكَ إلى بَني سُهَيْلٍ وأَخْبِرْهُمْ أنَّكَ أنتَ الذي أَعَدْتَ لهمْ دَوابَّهُمْ". ردَّ سَعْدٌ بتواضُعٍ: "يا عَمَّاهُ، الفَضْلُ في ذلكَ ليسَ لي وحدي". فقالَ يُوسُفُ: "حَتَّى وإنْ ساعدَكَ أَحَدٌ، لا يَهُمُّ. أنتَ اِهْتَمَمْتَ بالأمْرِ، اِذْهَبْ سَريعًا وأَدْخِلِ الفَرَحَ على بَني سُهَيْلٍ، فإنَّهُم أَصْدِقاؤُنا".

أمَّا سَلْمى، فما زالَ الحُزْنُ والغَضَبُ يَكْتَنِفانِها، ثمَّ قَرَّرَتْ أنْ تُخْبِرَ والدَها بما حَدَثَ. نادَتْ أَباها وقالَتْ: "يا أَبَتي، هٰذا الفَتى الذي يُقالُ لهُ سَعْدُ ابنُ وَرَقَةَ...". قاطَعَها والدُها مُتَعَجِّبًا: "نعم، وما بالُ سَعْدٍ؟ يَحْفَظُهُ اللهُ!". أجابَتْ سَلْمى بغُصَّةٍ: "نالَ منكَ، وكَشَفَ سِتْرَكَ، ولمْ يَحْفَظْ غَيْبَتَكَ". قالَ والدُها مُسْتَنْكِرًا: "اِسْتَغْفِري اللهَ، يا بُنَيَّتي، ماذا حَدَثَ؟!". قالَتْ لهُ: "لقدْ تَجاوَزَ بابي، وجَرَّ ثِيابي، وأَهانَ شَبابي". ردَّ والدُها بِعَيْنَيْنِ مُتَّسِعَتَيْنِ: "بِئْسَ ما تَقولينَ، يا سَلْمى، فأنتِ تَتَخَيَّلينَ". فأجابَتْهُ بِحَزْمٍ: "لقدْ أَخْبَرْتُكَ يا أَبي، وأنتَ بالخِيارِ: أَصَدَّقْتَني أمْ كَذَّبْتَني".

نادى يُوسُفُ على دُرَّةَ وسَألَها: "يا دُرَّةُ، ماذا تَقولُ سَلْمى؟". أجابَتْهُ دُرَّةُ بِصِدْقٍ: "إنَّها تَتَخَيَّلُ، يا مَولاي. لمْ يَدْخُلْ عليها، ولَمَّا كانَتْ تَصْرُخُ، كانَ هوَ في غُرْفَتِهِ. وأنا شاهِدَةٌ على ذلكَ". قالَتْ سَلْمى بأَلَمٍ: "يا أَبي، لا تُصَدِّقْها، وصَدِّقْني، أنا التي رأيْتُ ذلكَ". فَحاوَلَ والدُها تَهدِئَتَها: "حَسَنًا، حَسَنًا، يا سَلْمى، أنتِ صادِقَةٌ في ذلكَ. خَيْرٌ خَيْرٌ. اِرْتاحي قَليلًا حتَّى أَرْجِعَ إليكِ، ولا تُخْبِري أحَدًا بما حَدَثَ".

خَرَجَ يُوسُفُ من غُرْفَةِ ابْنَتِهِ، وبَيْنَما هوَ خارِجٌ أمامَ البابِ، نَظَرَ إلى الأرْضِ فرأى آثارَ حِذاءِ سَعْدٍ عندَ البابِ. تَفَحَّصَ يُوسُفُ الآثارَ وأَدْرَكَ أنَّ ابْنَتَهُ كانَتْ صادِقَةً، إذْ كانَتْ تِلكَ آثارَ قَدَمَيْ سَعْدٍ حينَما وَقَفَ صَباحًا عندَ البابِ لِيِطْمَئِنَّ عليها. فقالَ في نَفْسِهِ: "لقدْ صَدَقَتِ ابْنَتي، الفَتى خانَني وأنا غائِبٌ. ولكنْ ماذا أَفْعَلُ بِهِ؟". ذَهَبَ كَئِيبًا حَزينًا وهوَ صامِتٌ، ولمْ يُخْبِرْ أحَدًا بما قالَتْ سَلْمى.

جَلَسَ يُوسُفُ يُفَكِّرُ مَلِيًّا ويتَساءَلُ في نَفْسِهِ: "لِماذا يَفْعَلُ سَعْدٌ هٰذا الأمْرَ؟ وهُوَ مَعْروفٌ بأَدَبِهِ والْتِزامِهِ بالحَقِّ والعَدْلِ".

لَقَدْ شَاهَدْتُ آثارَ أَقدامِهِ على العَتَبَةِ، ولَوْ لمْ أَرَهَا بِعَيْنِي، لَمَا صَدَّقْتُ ما حَدَثَ. لا إلهَ إلاَّ اللهُ! يا رَبِّ، ما الذي يَجْرِي؟!

عِنْدَمَا عَادَ سَعْدٌ مِنْ بَنِي سُهَيْلٍ مُحَمَّلًا بِالْبَهْجَةِ وَالأَمَلِ، تَوَجَّهَ مُبَاشَرَةً إِلَى عَمِّهِ يُوسُفَ، وَقَالَ لَهُ بِشَغَفٍ: "أَبْشِرْ، يا عَمَّاهُ! إِنَّ القَوْمَ قَدِ اسْتَبْشَرُوا خَيْرًا بِمَقْدَمِي، وَأَرْسَلُوا تَحِيَّاتِهِمْ وَدَعَوَاتِهِمْ لَكَ بِمَوْفُورِ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ. وَأَعْلَمُ، يا عَمِّي، أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُ اللهِ ثُمَّ فَضْلُ تَرْبِيَتِكَ الحَكِيمَةِ لِي، لَمَا اسْتَطَعْتُ تَجَاوُزَ هَذِهِ المِحْنَةِ العَصِيبَةِ." ظَلَّ سَعْدٌ يَتَحَدَّثُ بِحَمَاسٍ، فِي حِينِ كَانَ يُوسُفُ يُحَدِّقُ فِيهِ بِوَجْهٍ مُتَجَهِّمٍ وَنَظَرَاتٍ غَاضِبَةٍ. لَاحَظَ سَعْدٌ تَغَيُّرَ مَلَامِحِ عَمِّهِ، فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الخَادِمَةَ قَدْ تَكُونُ أَخْبَرَتْ يُوسُفَ بِتَقَارُبِهِ مِنْ غُرْفَةِ سَلْمَى. عِنْدَهَا، تَسَلَّلَ إِلَيْهِ رُعْبٌ شَدِيدٌ وَخَوْفٌ عَظِيمٌ، إِذْ أَدْرَكَ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا خَطِيرًا قَدْ وَقَعَ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِي مُوَاجَهَةِ عَوَاقِبَ لَمْ يَتَوَقَّعْهَا.

قالَ يُوسُفُ لِسَعْدِ بنِ وَرَقَة: "يا سَعْدُ، أَنْزِلِ الرَّحْلَ لأني أُرِيدُ التَّحَدُّثَ مَعَكَ في أَمْرٍ هامٍّ. فَلْنَذْهَبْ إِلى البِئْرِ لِنَتَحَدَّثَ على انْفِرادٍ."

أجابَ سَعْدٌ قَائِلًا: "كَمَا تَأْمُرُ يا عَمَّاه."

ثُمَّ نَزَلَ سَعْدٌ مِنْ على دَابَّتِهِ وتَبِعَ يُوسُفَ حَتَّى وَصَلا إِلَى البِئْرِ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ سِوَاهُمَا. جَلَسَا بِجِوَارِ البِئْرِ، وَبَدَأَ يُوسُفُ الحَدِيثَ قَائِلًا: "يا بُنَيَّ، مُنْذُ أَنْ رَأَيْتُكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ لامِعٌ بَيْنَ الأَطْفَالِ، مَرْفُوعُ الرَّأْسِ، شَرِيفُ الأَصْلِ، حَسَنُ السُّلُوكِ، ذَكِيٌّ، لَبِقٌ، صَادِقٌ، وَأَمِينٌ. رَأَيْتُ فِيكَ الشَّخْصَ المُنَاسِبَ لِأُعَلِّمَكَ مَا تَعَلَّمْتُهُ مِنَ الحَقِّ والعِلْمِ وَفُنُونِ الحُرُوبِ. فَاسْتَأْمَنَنِي وَالِدُكَ عَلَيْكَ، وَوَضَعَتْ وَالِدَتُكَ ثِقَتَهَا فِيَّ، وَأَعْطَوْكَ إِلَيَّ دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْكَ طُولَ هَذِهِ السِّنِينَ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّنِي أَحْسَنْتُ تَرْبِيَتَكَ، وَأَنَّنِي سَأُعِيدُكَ إِلَيْهِمْ أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذْتُكَ مِنْهُمْ. لَكِنَّ مَا حَدَثَ اليَوْمَ يَجْعَلُنِي أَنْدَمُ عَلَى اليَوْمِ الَّذِي دَخَلْتُ فِيهِ بَيْتَكُمْ، لِأَرَى الأَطْفَالَ يَلْعَبُونَ، وَلِأَسْأَلَ عَنْ دَارِ أَبِيكَ. لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُ أَبَدًا أَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْ طَعَامِي، وَنَامَ عَلَى فِرَاشِي، وَاسْتَأْمَنْتُهُ عَلَى حُرْمَتِي، سَيَغْدُرُ بِي وَيَخُونُ ثِقَتِي."

كَانَ سَعْدٌ في البِدَايَةِ خَائِفًا، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ مُتَمَاسِكًا، وَبَدَتْ عَيْنَاهُ ثَابِتَتَيْنِ كَعُيُونِ الرِّجَالِ، وَلَمْ تَرْتَعِشْ أَطْرَافُهُ أَبَدًا، بَلْ كَانَتْ تَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِهِ ابْتِسَامَةُ الوَاثِقِ. فَقَالَ: "أَكْمِلْ حَدِيثَكَ يا عَمَّاهُ، فَقَدْ تَعَوَّدْتُ أَلَّا أُقَاطِعَ أَحَدًا حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ؛ فَرُبَّمَا فِي نِهَايَةِ الحَدِيثِ مَا يُوَضِّحُ لِي حُجَّتِي."

أَجَابَهُ يُوسُفُ: "يا سَعْدُ، مَا الَّذِي دَفَعَكَ لِتَدْخُلَ غُرْفَةَ ابْنَتِي وَأَنَا غَائِبٌ، وَتُجَرِّدَهَا مِنْ ثِيَابِهَا، وَتَكْشِفَ سِتْرِي؟"

رَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ: "هَلِ انْتَهَيْتَ مِمَّا تُرِيدُ قَوْلَهُ يا عَمَّاه؟"

أَجَابَ يُوسُفُ: "نَعَمْ، أَكْمَلْتُ."

فَقَالَ سَعْدٌ: "إِذًا اصْبِرْ عَلَيَّ حَتَّى أَكْمِلَ حَدِيثِي، وَلَا تَتَعَجَّلْ فِي الحُكْمِ عَلَيَّ يا عَمَّاه."

سَأَلَهُ يُوسُفُ: "وَمَاذَا لَدَيْكَ لِتَقُولَهُ؟"

أَجَابَهُ سَعْدٌ: "يا عَمَّاه، عِنْدَمَا ذَهَبْتُ إِلَى اللُّصُوصِ فِي صَيْعَرَ، لَمْ يَكُونُوا مِنَ الصِّيَاعِرَةِ، بَلْ كَانُوا مِنَ البَدْوِ المُنْفَلِتِينَ، وصَيْعَرُ مِنْهُمْ بَرَاءٌ. وَفِي طَرِيقِي حَدَثَتْ لِي أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، سَأَقُصُّهَا عَلَيْكَ بِالتَّفْصِيلِ. لَقَدْ أَعْطَانِي مَلِكُ الجِنِّ شَرَابًا يَكْشِفُ لِي عَنْ مَا لَا يُرَى لِلْعَيْنِ البَشَرِيَّةِ. وَعِنْدَمَا جِئْتُ هُنَا، رَأَيْتُ الغُرَابَ الَّذِي كَانَتْ تَرَاهُ سَلْمَى..."

قَاطَعَهُ يُوسُفُ قَائِلًا: "يا سَعْدُ، لَا تَسْتَخِفَّ بِعَقْلِي. لَقَدْ عَرَفْتُكَ صَادِقًا مُنْذُ طُفُولَتِكَ، فَمَا هَذِهِ الأَكَاذِيبُ الَّتِي تَسْرُدُهَا؟ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّنِي سَأُصَدِّقُ هَذِهِ الخُرَافَاتِ؟! لَقَدْ سَافَرْتُ عَبْرَ طَرِيقِكَ هَذَا مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ وَلَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. أَنْتَ تَخْتَلِقُ قِصَصًا لِتُبَرِّرَ أَفْعَالَكَ. لَوْ صَدَقْتَنِي القَوْلَ رُبَّمَا كُنْتُ أَعْذُرُكَ، فَإِنَّ العِشْقَ يا بُنَيَّ مَرَضٌ قَدْ يَجُرُّكَ لِأُمُورٍ لَا تَسْتَطِيعُ مُقَاوَمَتَهَا. فَاصْدُقْنِي وَلَا تَكْذِبْ."

رَدَّ سَعْدٌ: "يا عَمَّاه، أَرْجُوكَ دَعْنِي أُكْمِلُ حَدِيثِي وَلَا تُقَاطِعْنِي، ثُمَّ تَحَدَّثْ عَنِّي كَمَا تَشَاءُ."

أَجَابَ يُوسُفُ: "لَقَدْ سَئِمْتُ مِنْ هَذِهِ القِصَّةِ الَّتِي تَسْرُدُهَا، وَأَضَعْتَ وَقْتِي."

قَالَ سَعْدٌ: "أَمْهِلْنِي حَتَّى أُكْمِلَ حَدِيثِي."

رَدَّ يُوسُفُ: "حَسَنًا، أَكْمِلْ، فَأَنَا أَسْمَعُكَ."

قَالَ سَعْدٌ: "يا عَمَّاه، عِنْدَمَا رَأَيْتُ الغُرَابَ يَدْخُلُ غُرْفَةَ سَلْمَى، أَمْسَكْتُ بِسَيْفِي وَصِحْتُ لِأَقْتُلَهُ. وَعِنْدَمَا وَصَلْتُ إِلَى البَابِ لَمْ أَدْخُلْ، فَلَمَّا رَأَتْنِي سَلْمَى أُغْمِيَ عَلَيْهَا، وَأَنَا رَجَعْتُ دُونَ أَنْ أَدْخُلَ. وَبَعْدَهَا جَاءَتْنِي دُرَّةُ بِالطَّعَامِ، وَسَمِعْتُ صَرْخَةً أُخْرَى، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَطُلْ. فَلِمَاذَا لَمْ أَتَذَكَّرِ الكَلِمَةَ الَّتِي قَالَهَا لِي مَلِكُ الجِنِّ لِأَطْرُدَ بِهَا الغُرَابَ؟! فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، شَعَرْتُ بِالخَوْفِ وَلَمْ أَسْتَطِعْ تَذَكُّرَ شَيْءٍ. وَاللهِ، لَمْ أَدْخُلِ الغُرْفَةَ، وَلَمْ أَمُدَّ يَدِي عَلَى سَلْمَى. وَمَا أَظُنُّ أَنَّ سَلْمَى قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا لأَنَّ الغُرَابَ تَمَثَّلَ فِي صُورَتِي."

ضَحِكَ يُوسُفُ سَاخِرًا وَقَالَ: "يا بُنَيَّ، لَقَدْ فَقَدْتُ الثِّقَةَ بِكَ، وَلَمْ أُصَدِّقْ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا قُلْتَ. أَنْتَ تَرْوِي خَيَالَاتٍ تَافِهَةً، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْكَ، الفَرَسُ وَالسَّيْفُ لَكَ، وَلَكِنَّ ابْنَتِي لَنْ تَكُونَ لَكَ لأَسْبَابٍ ثَلاَثَةٍ:

أَوَّلًا: هِيَ لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً بِإِبْدَاءِ رَأْيِهَا فِيكَ.

ثَانِيًا: هِيَ غَاضِبَةٌ عَلَيْكَ وَتَرْفُضُكَ.

ثَالِثًا: لَقَدْ اسْتَعْجَلْتَ وَكَشَفْتَ سِتْرِي قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكَ بِذَلِكَ. سَأَتَجَاوَزُ مَا فَعَلْتَ لأَنَّنِي لَا أَمْلِكُ الأَدِلَّةَ الكَافِيَةَ لِإِدَانَتِكَ، وَسَأَفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ فَهُوَ الحُكْمُ العَدْلُ. اذْهَبْ يا سَعْدُ عَائِدًا إِلَى دِيَارِكَ، فَلَا مَقَامَ لَكَ عِنْدِي بَعْدَ اليَوْمِ."

قَالَ سَعْدٌ: "لَا أَلُومُكَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَا أَفْرِضُ عَلَيْكَ تَصْدِيقِي. أَنْتَ مَعْذُورٌ فِي غَضَبِكَ. لَكِنِّي أَطْلُبُ مِنْكَ طَلَبًا أَخِيرًا: هَلْ تَمْنَحُنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟"

سَأَلَهُ يُوسُفُ: "وَمَاذَا تُرِيدُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ؟"

أَجَابَ سَعْدٌ: "أَمْهِلْنِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَسَأَكُونُ شَاكِرًا لَكَ."

قَالَ يُوسُفُ: "وَلَكِنْ لَا أُرِيدُ أَنْ أَرَاكَ خِلَالَ هَذِهِ الأَيَّامِ؛ لأَنَّنِي لَا أَضْمَنُ أَنْ أَتَحَكَّمَ فِي غَضَبِي."

أَجَابَهُ سَعْدٌ: "سَأُقِيمُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، ثُمَّ أَرْحَلُ."

فَأَذِنَ لَهُ يُوسُفُ بِذَلِكَ. مَكَثَ سَعْدٌ فِي المَسْجِدِ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْ مَنْزِلِ يُوسُفَ، وَهُوَ يُرَاقِبُ غُرْفَةَ سَلْمَى، يَتَمَنَّى أَنْ يَرَى الغُرَابَ لِيُخْبِرَهُ بِرِسَالَةِ المَلِكِ عَبْدِ الجَلِيلِ. وَلَكِنْ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ مَرَّتْ وَلَمْ يَرَ شَيْئًا.

نَادَى سَعْدٌ دُرَّةَ وَسَأَلَهَا: "هَلْ رَأَتْ سَلْمَى شَيْئًا؟" أَجَابَتْ دُرَّةُ: "مُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ، لَمْ تَرَ شَيْئًا."

وَدَّعَ سَعْدٌ الجَمِيعَ، وَخَصَّ بِالوَدَاعِ أُمَّ الكِرَامِ، الَّتِي بَكَتْ لِفِرَاقِهِ وَقَالَتْ لَهُ: "وَاللهِ إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ بَرِيءٌ، وَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُنْصِفَكَ."

قَالَ لَهَا: "يا أُمَّاه، هَلْ تُزَوِّدِينِي طَعَامًا لِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا؟"

قَالَتْ لَهُ: "لَكَ ذَلِكَ يا بُنَيَّ، بِالبَرَكَةِ." وَزَوَّدَتْهُ بِمَا طَلَبَ.

وَبَعْدَ أَنْ قَالَ لَهَا وَدَاعًا، لَمْ يَتَوَجَّهْ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ مُبَاشَرَةً إِلَى مَنْزِلِهِ، بَلْ قَصَدَ دِيَارَ مَلِكِ الْجِنِّ الصَّالِحِ عَبْدِ الْجَلِيلِ. عِنْدَمَا بَلَغَ التَّلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ بِنِدَائِهِ، صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "أَيُّهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ، أَنَا سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ." فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ فُتِحَتْ لَهُ الْأَبْوَابُ وَدَخَلَ، فَاسْتَقْبَلَهُ الْمَلِكُ وَسُكَّانُ الْمَمْلَكَةِ الطَّيِّبَةِ بِالتَّرْحَابِ.

تَحَدَّثَ سَعْدٌ لِلْمَلِكِ قَائِلًا: "جِئْتُكَ يَا مَوْلاَيَ مَنْكُوبًا وَمَظْلُومًا، فَقَدْ حَدَثَتْ مَعِي أُمُورٌ جِسَامٌ. إِنَّ عَمِّي الَّذِي رَبَّانِي وَعَلَّمَنِي وَكَانَ بِمَثَابَةِ أَبِي، غَاضِبٌ عَلَيَّ الْآنَ، وَأَنَا فِي كَرْبٍ عَظِيمٍ." ثُمَّ رَوَى لَهُ كُلَّ مَا حَدَثَ.

اِسْتَمَعَ الْمَلِكُ عَبْدُ الْجَلِيلِ بِحَنُوٍّ وَقَالَ: "اِهْدَأْ يَا سَعْدُ وَاطْمَئِنَّ، فَالْأَمْرُ بَسِيطٌ بِإِذْنِ اللهِ. أَوَّلًا، هَلْ يُوسُفُ التَّيْمِيُّ يُنْكِرُ وُجُودَ الْجِنِّ؟ أَمْ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللهِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ سُورَةٌ كَامِلَةٌ بِاسْمِنَا، سُورَةُ الْجِنِّ؟ أَمْ أَنَّهُ يُنْكِرُ رُؤْيَةَ الْجِنِّ؟ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ قَدْ يَرَوْنَ الْجِنَّ بِإِذْنِ اللهِ إِنْ أَرَادَ. أَلَمْ يَرَ الْكُفَّارُ إِبْلِيسَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ؟ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. أَلَمْ يَعْلَمْ يُوسُفُ التَّيْمِيُّ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ رَأَوُا الْجِنَّ؟ وَأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَأَى جِنِيًّا يَأْخُذُ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ؟"

فَقَالَ سَعْدٌ: "وَاللهِ يَا مَوْلاَيَ، إِنَّ يُوسُفَ التَّيْمِيَّ رَجُلٌ عَالِمٌ، فَلَا أَدْرِي لِمَاذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ." فَقَالَ الْمَلِكُ: "يَا بُنَيَّ، إِنْ كَانَ يُوسُفُ يُرِيدُ أَنْ يَرَانَا، فَسَوْفَ نُرِيَهُ. وَسَنُبَرِّئُكَ بِإِذْنِ اللهِ. سَيُرَافِقُكَ أَبْنَائِي زِيَادٌ وَكَعْبُ الْأَكْبَرُ، وَسَأُعْطِيكَ شُرْبَةً تَسْقِيهَا لِيُوسُفَ لِيَرَى كَمَا تَرَى، فَيَعْلَمَ الْحَقِيقَةَ وَيُبَرِّئَكَ وَيُزَوِّجَكَ ابْنَتَهُ."

أَجَابَ سَعْدٌ: "يَا مَوْلايَ، لَا أَسْتَطِيعُ الْعَوْدَةَ إِلَى دِيَارِ يُوسُفَ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنَّ كَرَامَتِي لَا تَسْمَحُ لِي بِذَلِكَ. أُرِيدُ فَقَطْ اسْتِرْجَاعَ سُمْعَتِي فِي نَظَرِ مَنْ رَبَّانِي وَأَحْسَنَ إِلَيَّ. وَإِذَا اسْتَطَعْتَ يَا مَوْلايَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا لِإِعَادَةِ اعْتِبَارِي، فَأَنْتَ بِمَثَابَةِ عَمِّي الْآخَرِ."

قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: "لَا تَقْلَقْ، اِذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ وَاسْتَمْتِعْ بِرِفْقَتِهِمْ. سَأَظَلُّ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهِمْ حَتَّى أَكْشِفَ الْحَقِيقَةَ. أَمَّا الْمُعْتَدِي الْفَاسِدُ عَلَى الْفَتَاةِ، فَعِقَابُهُ عِنْدِي شَدِيدٌ."

قَضَى سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ لَيْلَتَهُ فِي قَصْرِ الضِّيَافَةِ مَعَ الْمَلِكِ عَبْدِ الْجَلِيلِ. وَفِي الصَّبَاحِ، أَهْدَاهُ الْمَلِكُ عَصًا ذَهَبِيَّةً تُشْبِهُ الصُّولَجَانَ، وَقَالَ لَهُ: "إِنَّ لِهَذِهِ الْعَصَا أَسْرَارًا سَتُدْهِشُكَ، وَلَكِنْ إِنْ عَصَيْتَ اللهَ، سَتَفْقِدُهَا. وَإِنْ فَقَدْتَهَا فَأَكْثِرْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، وَرُبَّمَا تَعُودُ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا لَا تَعُودُ." شَكَرَ سَعْدٌ الْمَلِكَ وَغَادَرَ إِلَى دِيَارِهِ.

تَرَكَ سَعْدٌ حُبَّهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَلَكِنَّ الْحُبَّ كَانَ كَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، لَمْ يَسْتَطِعْ نِسْيَانَ الْفَتَاةِ الَّتِي أَدْهَشَهُ جَمَالُهَا، رَغْمَ أَنَّهَا اتَّهَمَتْهُ زُورًا. كَانَ يَعْذِرُهَا، فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا ضَحِيَّةُ ظُرُوفِهَا. طُولَ الطَّرِيقِ، كَانَتْ أَفْكَارُهُ مَشْغُولَةً بِهَا، وَكَانَتِ التُّهْمَةُ الْجَائِرَةُ تَثْقُلُ قَلْبَهُ، بَيْنَمَا كَانَ يَشْتَاقُ لِأَهْلِهِ بِشِدَّةٍ. فَأَنْشَدَ يَقُولُ:

يَا رَبِّ كُنْ لِي فِي الْمَهَالِكِ مُنْقِذًا   أَنْتَ الْمُجِيبُ وَأَنْتَ رَبُّ الْمُهْتَدِي

اِنْصِفْنِي يَا رَبِّي وَبَرِّئْ سَاحَتِي    فَلَقَدْ وُصِفْتُ صَبِيحَةً بِالْمُفْسِدِ

تِلْكَ الَّتِي أَرْوَيْتُهَا بِمَحَبَّتِي    هَدَمَتْ جِدَارِي وَاسْتَحَثَّتْ مَرْقَدِي

فَاللهُ يَشْفِيهَا وَيُسْعِدْ أَهْلَهَا    فَهِيَ الْبَرِيئَةُ وَهِيَ نَفْسُ الْمُعْتَدِي

وَعِنْدَمَا وَصَلَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ إِلَى دِيَارِهِ فِي بَنِي عَجْلَانَ بَعْدَ غِيَابِ خَمْسِ سِنِينَ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَابَلَهُ شَقِيقُهُ مَرْثَدٌ. قَالَ لَهُ سَعْدٌ: "يَا مَرْثَدُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ." وَقَفَ مَرْثَدٌ مَدْهُوشًا، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى هَذَا الشَّابِّ الْمَفْعَمِ بِالْحَيَوِيَّةِ وَالنُّورِ. وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ، رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَسَأَلَهُ: "مَنْ أَنْتَ؟" أَجَابَ سَعْدٌ: "أَنَا أَخُوكَ سَعْدٌ." اِنْدَهَشَ مَرْثَدٌ وَعَانَقَهُ، وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ دُمُوعَ الشَّوْقِ، ثُمَّ ذَهَبَا مَعًا إِلَى الدَّارِ.

كَانَ اللِّقَاءُ فِي الْبَيْتِ مَشْهَدًا عَاطِفِيًّا مَلِيئًا بِالْبُكَاءِ وَالْأَشْوَاقِ. فَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ طَبْعُ الرَّحْمَةِ وَالْحَنُوِّ، وَقُلُوبُهُمْ رَقِيقَةٌ كَأَفْئِدَةِ الطَّيْرِ، مَعَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ فِي الْحُرُوبِ.

أَمَّا وَالِدُ سَعْدٍ، فَقَدْ كَانَ يُعَانِقُهُ طَوِيلًا ثُمَّ يَبْتَعِدُ قَلِيلًا لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ يُعَانِقُهُ مَرَّةً أُخْرَى. وَأَمَّا الْأُمُّ، فَقَدْ كَانَتْ تَنْظُرُ إِلَى ابْنِهَا بِعَيْنَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ بِدُمُوعِ الْفَرَحِ. لَقَدْ كَانَ يَوْمُ عَوْدَةِ سَعْدٍ إِلَى دَارِهِ يَوْمًا لَا يُنْسَى، وَأُقِيمَتْ لَهُ مَأْدُبَةٌ عَظِيمَةٌ جَمَعَ فِيهَا وَرَقَةُ أَكَابِرَ الْقَوْمِ وَأَعْيَانَ الْبَلْدَةِ.

تَحَدَّثَ سَعْدٌ لِلْجَمْعِ، تَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ حِفْظِهِ، وَأَسْمَعَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. قَالَ لَهُ أَحَدُ الْأَعْيَانِ، يَزِيدُ الصَّنْعَانِيُّ: "كُنْتُ قَدْ سَمِعْتُ أَنَّكَ ذَاهِبٌ لِتَعَلُّمِ الْفُرُوسِيَّةِ، فَإِنَّ بِلَادَنَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ." فَرَدَّ عَلَيْهِ وَرَقَةُ: "نَعَمْ، لَقَدْ تَعَلَّمَ ابْنِي الْفُرُوسِيَّةَ، وَلَوْ لَمْ يُكْمِلْ تَعْلِيمَهُ فِيهَا لَمَا أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا يُوسُفُ التَّيْمِيُّ."

فَقَالَ يَزِيدُ: "إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ صَحِيحًا، فَنَطْلُبُ مُبَارَزَةً بِالسُّيُوفِ بَيْنَ ابْنِكَ وَبَيْنَ ضِرَارِ بْنِ قُوَيْمٍ." وَكَانَ ضِرَارٌ مِنْ أَمْهَرِ النَّاسِ بِالسَّيْفِ، لَا يَكَادُ مُنَافِسُهُ يَأْخُذُ مَعَهُ ثَلَاثَ أَنْفَاسٍ. نَظَرَ وَرَقَةُ إِلَى سَعْدٍ وَسَأَلَهُ: "مَاذَا تَقُولُ يَا سَعْدُ؟" أَجَابَ سَعْدٌ: "أَنَا مُسْتَعِدٌّ يَا أَبِي. مَتَى تَكُونُ الْمُبَارَزَةُ؟"

قَالَ يَزِيدُ: "الْآنَ فِي هَذَا الْمَجْمَعِ الْكَبِيرِ." وَكَانَ يَزِيدُ يُضْمِرُ الْحِقْدَ لِوَرَقَةَ، وَيَحْسُدُهُ عَلَى أَمْوَالِهِ وَتِجَارَاتِهِ، وَكَانَ يُرِيدُ إِذْلَالَهُ بِهَزِيمَةِ ابْنِهِ أَمَامَ النَّاسِ. وَقَدْ كَانَ سَعْدٌ فِي السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، وَضِرَارٌ فِي الثَّلَاثِينَ. وَافَقَ ضِرَارٌ وَأَحْضَرَ سَيْفَهُ، وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فِي حَلْقَةٍ حَوْلَ السَّاحَةِ.

دَخَلَ سَعْدٌ إِلَى الْبَيْتِ لِيَأْتِيَ بِسَيْفِهِ، وَخَرَجَ ضِرَارٌ مُرْتَدِيًا دِرْعَهُ وَحَامِلًا مِجَنَّهُ (دُرُقَتَهُ). وَعِنْدَمَا عَادَ سَعْدٌ، لَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ سَيْفًا وَلَا دِرْعًا، بَلِ الْعَصَا الذَّهَبِيَّةَ اللَّامِعَةَ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمَلِكُ عَبْدُ الْجَلِيلِ.

تَعَجَّبَ النَّاسُ وَسَأَلُوهُ: "مَا هَذِهِ الْعَصَا يَا فَتَى؟!" أَجَابَ سَعْدٌ: "تُرِيدُونَ الْمُبَارَزَةَ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَجْرَحَ الْفَارِسَ." قَالُوا لَهُ: "وَلَكِنَّهُ لَنْ يَرْحَمَكَ!" قَالَ سَعْدٌ: "لَا أَسْأَلُهُ الرَّحْمَةَ، فَإِنْ قَدرَ عَلَيَّ فَلْيَفْعَلْ مَا يَشَاءُ.

ضَرَبَ سَعْدٌ ضَرْبَتَهُ القاسِيَةَ على كَتِفِ خَصْمِهِ الأيسرِ، فَسَقَطَ الدِّرْعُ من يَدِهِ، ولم يَتَمَكَّنْ من الْتِقاطِهِ ثانِيَةً. انفَجَرَ الخَصْمُ في هُجُومٍ عَشْوَائِيٍّ بسَيفِهِ، لكن يَدَهُ اليُسْرَى كانت عاجِزَةً كأنَّما أَصَابَها شَلَلٌ. ثم تَلَقَّى ضَرْبَةً أُخرى من العَصَا على كَتِفِهِ الأيْمَنِ، فَسَقَطَ سَيْفُهُ هَذِهِ المَرَّةَ، ولم يَسْتَطِعْ الإِمساكَ به. حينئذٍ، صَرَخَ غَضَبًا وقَهْرًا كَأَنَّهُ قد جُنَّ، وصَاحَ: "العَصَا تَضْرِبُ كَالصَّاعِقَةِ!".

الْتَفَتَ وَرَقَةُ إلى يَزِيدَ وهُوَ يَبْتَسِمُ بِفَخْرٍ، وقالَ له: "مَاذَا رَأَيْتَ يا يَزِيدُ؟ أَلَيْسَ ابْنِي قد أَسْكَتَ لِسَانَكَ؟". فقالَ أَحَدُ الحَاضِرِينَ: "اسمَحُوا لي بِكَلِمَةٍ؛ نَحْنُ بِحَاجَةٍ إلى فَارِسٍ قَوِيٍّ ووَاثِقٍ وشَابٍّ في السِّنِّ، فإنَّ غُرُورَ ضِرَارٍ وكِبَرَ سِنِّهِ وتَخَاذُلِهِ عن التَّدْرِيبِ جَعَلَهُ يَظُنُّ أنَّهُ لا يُهْزَمُ، لذا أَقْتَرِحُ أن يَكُونَ سَعْدُ بنُ وَرَقَةَ قَائِدَنا".

رَدَّ سَعْدٌ بِوَقَارٍ: "لَنْ أَقْبَلَ بِهَذَا الآنَ، لكِنِّي سَأَكُونُ يَمِينًا لِفَارِسِنا ضِرَارٍ". قالَ وَالِدُهُ: "أَحْسَنْتَ يا بُنَيَّ، هَكَذَا رَبَّيْتُكَ، وهَكَذَا يَكُونُ أَهْلُ الثِّقَةِ والإِيمَانِ والتَّوَاضُعِ". انتَشَرَتْ أَخْبَارُ بَرَاعَةِ سَعْدِ بن وَرَقَةَ في فُنُونِ القِتَالِ والعِلْمِ في أَرْجَاءِ المِنْطَقَةِ، وبَدَأَ النَّاسُ يَأْتُونَ إليهِ من كُلِّ صَوْبٍ، يَسْأَلُونَهُ الفِقْهَ، ويَطْلُبُونَ عندَهُ العِلْمَ. لم يَمْضِ وَقْتٌ طَوِيلٌ حتى أَصْبَحَ سَعْدٌ مَرْجِعًا لِكُلِّ مُعْضِلَةٍ، يَجِدُ لِكُلِّ سُؤَالٍ جَوَابًا، ولكُلِّ مُشْكِلَةٍ حَلاًّ.

مَرَّتِ الأَشْهُرُ ولم يَعْرِفْ أَحَدٌ ما حَدَثَ لِيُوسُفَ التَّيْمِيِّ، ولم يُخْبِرْ سَعْدٌ أَهْلَهُ بما جَرَى مَعَهُ ومعَ المَلِكِ عَبْدِ الجَلِيلِ أو التُّهْمَةِ التي لُفِّقَتْ له. ثم ذاتَ يَوْمٍ، مَاتَ الحِصَانُ الأَسْوَدُ الذي أَهْدَاهُ له يُوسُفُ التَّيْمِيُّ، فَبَكَى عليهِ سَعْدٌ كَأَنَّهُ فَقَدَ ابنَهُ، كانَ يَعْرِفُهُ منذُ خَمْسِ سَنَوَاتٍ. في وَسَطِ بُكَائِهِ، سَأَلَهُ أَبُوهُ: "يا سَعْدُ، لَطَالَمَا أَرَدْتُ أن أَسْأَلَكَ وأنْسَى، هَلْ ما زَالَ يُوسُفُ مُتَمَسِّكًا بوَعْدِهِ أن يُزَوِّجَكَ ابْنَتَهُ؟". أَجَابَ سَعْدٌ: "لا يا أَبِي، الفَتَاةُ التي اخْتَرْتُها مَرِضَتْ، فَتَنَازَلْتُ عن طَلَبِي، واكْتَفَيْتُ بالحِصَانِ والسَّيفِ". سَأَلَهُ وَالِدُهُ: "هل هو مَرَضٌ لا أَمَلَ في شِفَائِهِ؟". رَدَّ سَعْدٌ: "لَقَدْ أَصَابَهَا في عَقْلِهَا، فلم تَعُدْ مُكَلَّفَةً باخْتِيَارِ زَوْجٍ أو المُوافَقَةِ عليهِ". قالَ له وَالِدُهُ: "أَحْسَنْتَ يا بُنَيَّ، في كُلِّ مِحْنَةٍ تَجِدُ الحِكْمَةَ".

تُوُفِّيَ زَعِيمُ قَبِيلَةٍ عَرَبِيَّةٍ، واهْتَزَّتْ بِقَاعُ شَمَالِ اليَمَنِ لهَذَا الخَبَرِ حتى بَلَغَ عُمَانَ. أُرْسِلَ وَفْدٌ من قَبِيلَةِ بَنِي عَجْلَانَ لتَقْدِيمِ العَزَاءِ، وكانَ وَرَقَةُ وَالِدُ سَعْدٍ من ضِمْنِهِمْ. عندَ وُصُولِهِمْ، التَقَى وَرَقَةُ بصَدِيقِهِ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ، فَابْتَهَجَ وَجْهُهُ وقالَ له: "واللهِ يا يُوسُفُ، لو خَدَمْتُكَ عَبْدًا، وغَسَلْتُ قَدَمَيْكَ، ووَضَعْتُ الدِّهَانَ على رَأْسِكَ، لا أَسْتَطِيعُ أن أُوفِيَكَ حَقَّكَ فيما فَعَلْتَهُ مع ابْنِي سَعْدٍ. أَسْأَلُ اللهَ أن يُبَارِكَ لَكَ في ذُرِّيَّتِكَ".

كانَ يُوسُفُ التَّيْمِيُّ مَذْهُولًا، إذ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ وَرَقَةَ سَيُذِلُّهُ أمامَ النَّاسِ بسَبَبِ التُّهْمَةِ التي أُلْقِيَتْ على ابْنِهِ، لَكِنَّهُ لم يكنْ يَعْلَمُ شَيْئًا عن هَذِهِ التُّهْمَةِ. ثم قالَ وَرَقَةُ لِيُوسُفَ: "نَسْأَلُ اللهَ أن يَشْفِيَ ابْنَتَكَ من المَرَضِ". استَفْسَرَ يُوسُفُ: "أَأَخْبَرَكَ سَعْدٌ أنها مَرِيضَةٌ؟". أَجَابَ وَرَقَةُ: "نَعَمْ، حينَ سَأَلْتُهُ عن الوَعْدِ الأخيرِ بتَزْويجِهِ ابْنَتَكَ، قالَ لي إنَّ الفَتَاةَ التي اخْتَارَها مَرِضَتْ، ولم تَعُدْ مُكَلَّفَةً". أَدْرَكَ يُوسُفُ أنَّ سَعْدًا لم يُخْبِرْ وَالِدَهُ بشَيْءٍ عَمّا حَدَثَ. امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ بالدُّمُوعِ، وفَكَّرَ: "هذا الفَتَى جَوْهَرَةٌ من جَوَاهِرِ الصَّلاحِ، لو لم يَعْفُ عَني لهَلَكْتُ". ثم قالَ لِوَرَقَةَ: "يا وَرَقَةُ، إنَّ ابْنَتِي قد شُفِيَتْ بحَمْدِ اللهِ، فَقُلْ لابْنِكَ أنْ يَأْتِيَ ويَأْخُذَ أَمَانَتَهُ". رَدَّ وَرَقَةُ: "سَأُخْبِرُهُ وسَنَأْتِيكَ في مَوْكِبٍ مَهِيبٍ، تَسْمَعُ به العَرَبُ في المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، وسَأَكُونُ من أَسْعَدِ النَّاسِ عندما تَكُونُ ابْنَةُ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ في بَيْتِي".

أَضَافَ وَرَقَةُ: "يا يُوسُفُ، إنَّ ابْنِي أَصْبَحَ بَارِعًا في العِلْمِ والفِقْهِ والأَدَبِ، يُنَافِسُ الفُصَحَاءَ ويُسْكِتُهُمْ، ولا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مُجَارَاتَهُ في الشِّعْرِ، إضافةً إلى بَرَاعَتِهِ في فُنُونِ الحَرْبِ والمُبَارَزَةِ. لا أَعْلَمُ كَيْفَ أَشْكُرُكَ". أَجَابَ يُوسُفُ: "يا وَرَقَةُ، إنَّ ابْنَكَ ذو عَقْلٍ نَاضِجٍ وقَلْبٍ مُتَّقٍ ورُوحٍ ثَائِرَةٍ، لا يَعْرِفُ الكَذِبَ، ولم يُغْرِهِ اللهْوُ، نَالَ العِلْمَ والشَّرَفَ بنُبُوغِهِ، ونَالَ القُوَّةَ والسِّيَادَةَ بنَشَاطِهِ، سَتَرَاهُ فيما يَجِيءُ فَارِسًا لا يُهْزَمُ وسُلْطَانًا لا يُقْهَرُ".

ثم تَابَعَ: "إذا ذَهَبْتَ إليهِ، فَاحْمِلْ منِّي له وَصِيَّةً سَيَفْهَمُ مَغْزَاهَا، ولا تَسْأَلْهُ عن سِرِّهَا، إنْ كُنْتَ تُقَدِّرُنِي. قُلْ لَهُ: 'لقد رَأَيْنَا الغُرَابَ المُتَّهَمَ وأَخْبَرْنَاهُ بالهَامَةِ'". ضَحِكَ وَرَقَةُ قَائِلًا: "ما هَذِهِ الأَلْغَازُ التي تَجْعَلُكَ تَضْحَكُ حتى تَسْقُطَ؟". رَدَّ يُوسُفُ: "أَلَمْ أَقُلْ لكَ لا تَسْأَلْ؟". أَجَابَ وَرَقَةُ: "لَنْ أَسْأَلَ عن خُرَافَاتِكَ أنتَ وابْنَ أَخِيكَ سَعْدٍ. هَيَّا يا رِجَالُ". ووَدَّعَ وَرَقَةُ صَدِيقَهُ يُوسُفَ التَّيْمِيَّ وسَافَرَ مع الوَفْدِ.

عِنْدَ عَوْدَتِهِ، قالَ وَرَقَةُ لابْنِهِ سَعْدٍ: "يا سَعْدُ، جِئْتُكَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ". فَخَفَقَ قَلْبُ سَعْدٍ تَرَقُّبًا. "أَخْبِرْنِي يا أَبِي، فإنِّي أُحِبُّ البَشَائِرَ". قالَ وَرَقَةُ: "قَابَلْتُ عَمَّكَ ومُعَلِّمَكَ يُوسُفَ التَّيْمِيَّ، وأَخْبَرَنِي أنَّ الفَتَاةَ قد شُفِيَتْ، وأنَّهُ مُسْتَعِدٌّ للوَفَاءِ بوَعْدِهِ". تَغَيَّرَ وَجْهُ سَعْدٍ، وكأنَّهُ لم يَرْغَبْ في سَمَاعِ هَذَا الكَلامِ، لكنَّ أَبَاهُ لم يُلَاحِظْ ذَلِكَ، واسْتَمَرَّ في الحَدِيثِ: "لَقَدْ حَمَّلَنِي يُوسُفُ أَمَانَةً، وهِيَ عِبَارَةٌ عن لُغْزٍ، قالَ: 'لقد رَأَيْنَا الغُرَابَ المُتَّهَمَ وأَخْبَرْنَاهُ بالهَامَةِ'".

ابْتَهَجَ وَجْهُ سَعْدٍ فَرَحًا، قَائِلًا: "يا أَبِي، وَصَلَتْنِي رِسَالَةُ عَمِّي يُوسُفَ وفَهِمْتُ اللُّغْزَ. ولأنَّهُ سَيُوفِي بوَعْدِهِ ويُزَوِّجُنِي ابْنَتَهُ، فأنا أَشْكُرُهُ، لكنْ يا أَبِي، لَقَدْ غَيَّرْتُ رَأْيِي، ولا أُرِيدُ الزَّوَاجَ منها؛ لأنَّ دِيَارَهَا بَعِيدَةٌ". قالَ وَرَقَةُ بِذُهُولٍ: "يا بُنَيَّ، ما هَذَا الكَلامُ الذي لا يُشْبِهُكَ؟! لَقَدْ وَعَدْتُهُ بِمَوْكِبِ زَوَاجٍ لا مَثِيلَ له، وأَنْتَ تَقُولُ غَيَّرْتَ رَأْيَكَ؟ أَلَمْ تَفْرَحْ أنَّ الفَتَاةَ قد شُفِيَتْ؟ وأنَّ يُوسُفَ سَيُوفِي بوَعْدِهِ؟ أَخْبِرْنِي، يا ابْنِي، مَاذَا يَجْرِي بينَكَ وبينَ يُوسُفَ؟ رَأَيْتُ في عَيْنَيْهِ شَيْئًا من الرِّيبةِ والشَّكِّ عندما التَقَيْتُ به، لكِنِّي تَجَاهَلْتُ ذَلِكَ. يَجِبُ أنْ تُخْبِرَنِي".

قالَ سَعْدٌ: "سَأُخْبِرُكَ يا أَبِي، اخْتَرْتُ الفَتَاةَ حينَما كانتْ صَغِيرَةً، ولم أَرَهَا لمُدَّةِ خَمْسِ سَنَوَاتٍ، وحينَ رَأَيْتُهَا مَرَّةً أُخْرَى، لم تَمِلْ إليها نَفْسِي، فأَخْبَرْتُ يُوسُفَ بذَلِكَ".

نَظَرَ إليه وَرَقَةُ بِتَشَكُّكٍ قَائِلًا: "أَشُمُّ رَائِحَةَ الكَذِبِ في كَلامِكَ، يا بُنَيَّ".

سَكَتَ سَعْدٌ ثم انْصَرَفَ إلى غُرْفَتِهِ، فلم يَجِدْ العَصَا التي أَهْدَاهُ إِيَّاهَا المَلِكُ عبدُ الجَلِيلِ. قالَ في نَفْسِهِ: "إنَّهَا المَعْصِيَةُ، الكِذْبَةُ التي كَذَبْتُهَا على أَبِي. ضَاعَتْ العَصَا".

عادَ إلى أَبِيهِ مُسْرِعًا وقالَ له: "يا أَبِي، اعْفُ عنِّي، فقد كَذَبْتُ عَلَيْكَ. واللهِ إنَّ الفَتَاةَ تُعْجِبُنِي، وأَتَمَنَّى الزَّوَاجَ منها. ولكنْ هُنَاكَ ما يَمْنَعُنِي من ذَلِكَ، ولا أَسْتَطِيعُ أنْ أُخْبِرَكَ به؛ إنَّهُ سِرٌّ أَحْتَفِظُ به لِنَفْسِي".

قالَ له وَالِدُهُ بِعَتْبٍ: "إنْ كُنْتَ تَكْتُمُ الأَسْرَارَ عن أَبِيكَ، فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلامُ. هلْ تُرِيدُ أنْ أَغْضَبَ مِنْكَ بعدَ أنْ كُنْتَ مَصْدَرَ سَعَادَتِي في حَيَاتِي؟".

وَقَفَ سَعْدٌ حَائِرًا، مُمَزَّقًا بينَ رَغْبَتِهِ في إِخْفَاءِ الحَقِيقَةِ عن أَبِيهِ وبينَ خَوْفِهِ من إِشْعَالِ الفَجْوَةِ والعَدَاوَةِ بينَهُ وبينَ صَدِيقِهِ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ.

قالَ سَعدٌ لِأَبيهِ: "يا أَبي، الأَمرُ لَيْسَ بِسَيِّئٍ كما تَظُنُّ. لَكِنَّني قَطَعْتُ على نَفْسي عَهْدًا بِكِتْمانِ السِّرِّ لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ عُلْيا. لا أُريدُ أَنْ أُخالِفَ هَذا العَهْدَ. لِذا أَطْلُبُ مِنْكَ السَّماحَ لي بِزِيارَةِ مُعَلِّمي وعَمِّي يُوسُفَ التَّيميِّ، وسَأَسْتَأْذِنُهُ في إِخْبارِكَ بِما حَدَثَ، فَتَكونَ الزِّيَارَةُ خَيْرًا وَبَرَكَةً وتُطْلِعَكَ على الحَقيقَةِ."

رَدَّ الأَبُ: "ما رَأْيُكَ أَنْ أُرافِقَكَ؟"

أَجَابَهُ سَعْدٌ: "لَكَ ذَلِكَ يا أَبي، سَنَذْهَبُ إِلَيْهِ غَدًا صَباحًا بِإِذْنِ اللهِ."

عادَ سَعْدٌ إِلَى غُرْفَتِهِ وقَدْ أَثْقَلَهُ الشُّعورُ بِالذَّنْبِ، إِذْ أَنَّهُ قَدْ كَذَبَ على أَبيهِ حِفاظًا على السِّرِّ. اسْتَغْفَرَ اللهَ وطَلَبَ العَفْوَ عن كِذْبَتِهِ، حَتَّى وإِنْ كانَتْ لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ. قَضى اليَومَ في هَمٍّ وغَمٍّ لِفِقْدانِ عَصاهُ الَّتي لَمْ يَكُنْ يَتَخَيَّلُ السَّفَرَ بِدُونِها. وعِنْدَما اسْتَيْقَظَ لِصَلاةِ الفَجْرِ، وَجَدَ العَصا مَوْضوعَةً على صَدْرِهِ، فَاسْتَبْشَرَ بِفَرَحٍ عَظيمٍ.

تَحَضَّرَ الابْنُ وأَبوهُ لِلسَّفَرِ وانْطَلَقا إِلَى بَيْتِ يُوسُفَ التَّيميِّ. وعِنْدَ وُصولِهِما، ظَهَرَ على وَجْهِ يُوسُفَ التَّيميِّ اضْطِرابٌ عَظيمٌ رَغْمَ فَرْحَتِهِ بِرُؤْيَتِهِما، فَقَدْ امْتَزَجَتْ مَشاعِرُهُ بِما يَحُسُّهُ مِنْ إِحْراجٍ أَمامَ رَجُلَيْنِ يَعْرِفُ أَنَّهُما يَحْمِلانِ الأَسْرارَ.

اسْتَقْبَلَهُم يُوسُفُ بِصَوْتٍ جَهُوريٍّ كَعادَتِهِ، واجْتَمَعَ أَبْناءُ البَيْتَيْنِ لِلسَّلامِ على سَعْدٍ ولِلتَّعَرُّفِ على أَبيهِ، الَّذي سَمِعوا عَنْهُ الكَثيرَ مِنَ الحِكاياتِ عَبْرَ والِدِهِم وسَعْدٍ نَفْسِهِ.

بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لَهُما كَرَمَ الضِّيافَةِ، اخْتَلَى بِهِما يُوسُفُ لِيَكْشِفَ لِسَعْدٍ ووالِدِهِ ما كانَ مَسْتورًا. قالَ سَعْدٌ: "يا عَمّاهُ، لَمْ أُخْبِرْ أَبي بِشَيْءٍ مِمَّا حَدَثَ بَيْنَنا مُنْذُ سَفَرِكَ إِلَى صَيْعَرَ. جِئْتُكَ بِهِ لِتَرْوِيَ لَهُ بِنَفْسِكَ ما جَرى، فَأَنا أَرْغَبُ في سَماعِ القِصَّةِ كامِلَةً وتَفاصيلِ اللُّغْزِ الَّذي بَعَثْتَهُ لي عَبْرَ أَبي."

تَنَحْنَحَ يُوسُفُ وَقالَ: "بِسْمِ اللهِ، سَأَبْدَأُ الحَديثَ، فَأَرْجوكَ يا وَرَقَةُ، اسْتَمِعْ جَيِّدًا ولا تَسْخَرْ مِمَّا سَأَرْوِيَهُ حَتَّى أَنْتَهيَ مِنْ قِصَّتي."

بَدَأَ يُوسُفُ بِسَرْدِ قِصَّتِهِ، فَقالَ: "مُنْذُ فَتْرَةٍ، بَدَأَتْ ابْنَتي تَرى أَشْياءً غَريبَةً، وحينَما ذَهَبَ سَعْدٌ إِلَى صَيْعَرَ، رَأى هُوَ الآخَرُ أُمورًا غَريبَةً. في البِدايَةِ، لَمْ أُصَدِّقْها حينَ شَكَتْ لي، حَتَّى رَأَيْتُ آثارَ قَدَمِ سَعْدٍ أَمامَ البابِ، وسَمِعْتُهُ يَقولُ إِنَّ الجِنِّيَّ المُتَشَكِّلَ في صورَةِ غُرابٍ ظَهَرَ لِيُوقِعَ بِهِ. سَخِرْنا مِنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ، واتَّهَمْتُهُ زورًا وأَذَيْتُ قَلْبَهُ وطَرَدْتُهُ مِنْ بَيْتي. وَمَعَ ذَلِكَ، أَصَرَّ على البَقاءِ في المَسْجِدِ ثَلاثَةَ أَيّامٍ، وَلَمْ أَعْرِفْ لِماذا طَلَبَ ذَلِكَ.

بَعْدَ أُسْبوعٍ مِنْ رَحيلِ سَعْدٍ، جاءَني ثَلاثَةُ رِجالٍ بِمَظاهِرَ غَريبَةٍ، لا تَبْدو عَلَيْهِم آثارُ سَفَرٍ. حَلُّوا ضُيوفًا عِنْدي، وَلَمْ أَسْأَلْهُمْ عَنْ قَوْمِهِم حَتَّى اليَوْمِ الثّاني. حينَها قالوا لي إِنْ شَرِبْتَ مِنَ الشَّرابِ الَّذي يُقَدِّمُونَهُ لي، سَيُخْبِرونَني عَنْ هُوِيَّتِهِم. فَأَجَبْتُهُم بِأَنَّني سَأَشْرَبُ إِذا شَرِبوا قَبْلي. فَأَخْرَجَ أَحَدُهُمْ زُجاجَةً بِها سائِلٌ أَزْرَقُ، وَشَرِبَ مِنْها أَمامي ثُمَّ ناوَلَني إِيَّاها. شَرِبْتُ مِنْها لِأَنَّها كانَتْ أَلَذَّ ما ذُقْتُ، وَبَعْدَها قالوا لي إِنْ كانَتِ ابْنَتي مَريضَةً وتَدَّعِي رُؤْيَةَ أَشْياءٍ غَريبَةٍ. فَأَجَبْتُ بنَعَم، وإِنَّنا لا نُصَدِّقُها. فَقالوا لي إِنَّني سَأَعْلَمُ قَريبًا ما إِذا كانَتْ تَرى حَقًّا أَمْ تَتَوَهَّمُ.

في اليَوْمِ السّادِسِ، رَأَيْتُ غُرابًا كَبيرًا يُراقِبُ مِنْ على تَلَّةٍ قَريبَةٍ، وابْنَتي تَرْتَعِدُ مِنَ الخَوْفِ وهيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ. وعِنْدَما سَأَلْتُها عَنْ حالِها، قالَتْ إِنَّهُ يُراقِبُها مِنْ على التَّلَّةِ وأنَّها خائِفَةٌ. عِنْدَها، أَخْبَرْتُها بِأَنَّني أُصَدِّقُها.

دَخَلَتْ زَوْجَتي زُبَيْدَةُ عَلَيْنا بَيْنَما كُنْتُ أَحْتَضِنُ ابْنَتي المُرْتَعِدَةِ. وعِنْدَما سَأَلَتْني زُبَيْدَةُ عَمّا يَحْدُثُ، أَشَرْتُ لَها بِالنَّظَرِ إِلَى التَّلَّةِ. ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِطاعَتِها رُؤْيَةُ الغُرابِ. قُلْتُ لَها إِنَّني وابْنَتي نَراهُ. عِنْدَها، تَذَكَّرْتُ أَنَّ سَعْدًا أَوْصاني بِأَنْ أُخْبِرَ الغُرابَ بِكَلِماتٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ ظَهَرَ لَهُ. فَخَرَجْتُ مِنْ غُرْفَةِ ابْنَتي وتَوَجَّهْتُ نَحْوَ الغُرابِ وَقُلْتُ: 'أَيُّها المُعْتَدِي، المَلِكُ عَبْدُ الجَليلِ يَأْمُرُكَ أَنْ تَتْرُكَ الفَتاةَ وتَأْتِيَهُ، ويَقولُ لَكَ "الهامَةَ الهامَةَ".'

صَرَخَ الغُرابُ بِصَوْتٍ أَشْبَهَ بِصَرْخَةِ طِفْلٍ: 'لَنْ أَعودَ إِلَيْها، لَنْ أَعودَ إِلَيْها.' ثُمَّ طارَ إِلَى بابِ الغُرْفَةِ وأَدْخَلَ مِنْقارَهُ في الأَرْضِ لِيُخْرِجَ سَبِيبَةً مَدْفُونَةً، وأَخَذَها وطارَ بَعيدًا. قالَتْ لي ابْنَتي: 'يا أَبي، لَنْ يَعودَ مَرَّةً أُخْرى، لِأَنَّ الخَوْفَ الَّذي كانَ في قَلْبي قَدْ زالَ.' ثُمَّ طَلَبَتْ مِنّي الخُروجَ لِرُؤْيَةِ إِخْوَتِها وأُمِّها بَعْدَ خَمْسِ سَنَواتٍ مِنَ الحَبْسِ في غُرْفَتِها.

وفي اليَوْمِ التّالي، اجْتَمَعْنا جَميعًا، وابْتَهَجْنا بِشِفاءِ ابْنَتِنا. حَكَيْتُ لَهُم ما حَدَثَ مَعَ سَعْدٍ، وأَوْضَحْتُ لِسَلْمى أَنَّ الجِنِّيَّ هُوَ مَنْ تَشَكَّلَ بِصورَةِ سَعْدٍ. واعْتَرَفَتْ سَلْمى بِخَطَئِها في اتِّهامِ سَعْدٍ زورًا. وقالَتْ لي: 'يا أَبي، لِماذا لا تَدْعو سَعْدًا لِزِيارَتِنا؟ أُريدُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْهُ السَّماحَ.' أَجَبْتُها بِأَنَّني لا أَسْتَطيعُ مُواجَهَتَهُ، إِذْ جَرَحْتُ مَشاعِرَهُ باتِّهامِنا لَهُ."

فَبَكى سَعْدٌ وقالَ: "لا عَلَيْكَ يا عَمّاهُ، فَقَدْ كانَ غَضَبُكَ مُبَرَّرًا، وأَيُّ أَحَدٍ في مَكانِكَ كانَ سَيَفْعَلُ مِثْلَما فَعَلْتَ."

ثُمَّ تَوَجَّهَ يُوسُفُ إِلَى وَرَقَةَ قائِلًا: "أَمَا عِنْدَكَ شَيْءٌ تَقولُهُ، يا أَبا مَرْثَدٍ؟"

أَجابَ وَرَقَةُ: "لَمْ أَكُنْ أَتَصَوَّرُ أَنَّني سَأَسْمَعُ يَوْمًا مِثْلَ هَذا الحَديثِ وأُصَدِّقُهُ، وَلَكِنَّ هَذا كُلَّهُ مِنْ قَدَرِ اللهِ."

الْتَفَتَ يُوسُفُ إِلَى سَعْدٍ وقالَ: "ادْخُلْ على أُمِّكَ، أُمِّ الكِرامِ، فَهِيَ تَشْتاقُ إِلَيْكَ. اذْهَبْ إِلَى زُبَيْدَةَ وسَلِّمْ على إِخْوَتِكَ وسَلْمى، واشْكُرِ اللهَ على شِفائِها. إِنَّها تَنْتَظِرُ رُؤْيَتَكَ وتَتَمَنّى حُضورَكَ. هِيَ لَكَ إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَصْحَبَها."

طَلَبَ وَرَقَةُ مِنْ يُوسُفَ الإِذْنَ لِيُحَدِّثَ ابْنَهُ على انْفِرادٍ. قامَ يُوسُفُ وقالَ: "لَكَ ذَلِكَ يا صَديقي."

قالَ وَرَقَةُ لابْنِهِ: "يا بُنَيَّ، لا تَرْفُضْ عَرْضَ عَمِّكَ. إِنَّ في هَذا الأَمْرِ خَيْرًا وَفيرًا لَكَ. على الأَقَلِّ، اذْهَبْ وَقابِلِ الفَتاةَ، فَإِنْ أَعْجَبَتْكَ، عُدْ وَقُلْ لي: 'لَمْ أَتْعَبْ مِنَ السَّفَرِ'. وإِنْ لَمْ تُعْجِبْكَ، قُلْ لي: 'يا أَبي، إِنِّي مُتْعَبٌ مِنَ السَّفَرِ.' وفي كُلِّ الأَحْوالِ، سَأَكونُ أَنا مَنْ يَتَحَدَّثُ مَعَ يُوسُفَ. هَلِ اتَّفَقْنا؟"

رَدَّ سَعْدٌ: "اتَّفَقْنا يا أَبي."

نادى وَرَقَةُ على يُوسُفَ وقالَ: "هَلْ يُمْكِنُ لِلْفَتى أَنْ يَدْخُلَ؟"

أَجابَ يُوسُفُ: "فَلْيَدْخُلْ."

دَخَلَ سَعْدٌ وسَلَّمَ على أُمِّ الكِرامِ وعلى إِخْواتِهِ الكِبارِ، فَفَرِحوا بِعودَتِهِ. كانَتْ أُمُّ الكِرامِ تَبْكي مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ وتَقولُ: "يا بُنَيَّ، كُنْتُ أَدْعو اللهَ في كُلِّ صَلاةٍ أَنْ يَرُدَّكَ إِلَيْنا، فَقَدِ اشْتَقْتُ إِلَيْكَ كَثيرًا."

أَخَذَ سَعْدٌ وَقْتًا مَعَ أُمِّ الكِرامِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ زُبَيْدَةَ وسَلَّمَ على سَلْمى. كانَتْ سَلْمى تَجْلِسُ على يَسارِ والِدَتِها، فَابْتَسَمَتْ بِخَجَلٍ شَديدٍ عِنْدَما رَأَتْ سَعْدًا. كانَتْ سَلْمى في غايَةِ الجَمالِ، كَأَنَّ الكَوْنَ كُلَّهُ يَحْتَفِي بِجَمالِها، وبَدا عَلَيْها الحَياءُ الشَّديدُ.

قالَتْ زُبَيْدَةُ لِسَعْدٍ: "هَذِهِ الفَتاةُ لا تَتَوَقَّفُ عَنِ الحَديثِ عَنْكَ، لَقَدْ أَزْعَجَتْ مَسامِعَنا بِذِكْرِكَ." قالَتْ سَلْمى بِخَجَلٍ: "أُمِّي!"

خَرَجَ سَعْدٌ مُسْرِعًا إِلَى أَبيهِ بِابْتِسامَةٍ تَمْلَأُ وَجْهَهُ. قَرَأَ وَرَقَةُ الفَرْحَةَ في عُيُونِ ابْنِهِ وسَأَلَهُ يُوسُفُ: "هَلْ رَأَيْتَ سَلْمى، يا سَعْدُ؟"

أَجابَ سَعْدٌ: "نَعَمْ، يا عَمّي."

فَقالَ لَهُ يُوسُفُ: "وَما رَأْيُكَ؟"

ابْتَسَمَ سَعْدٌ وأَطْرَقَ رَأْسَهُ خَجَلًا.

قالَ وَرَقَةُ: "أَظُنُّهُ مُتْعَبٌ مِنَ السَّفَرِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ يا سَعْدُ؟"

رَدَّ سَعْدٌ قائِلًا: "لا، يا أَبي، واللهِ كَأَنَّني لَمْ أَكُنْ مُسافِرًا، فَإِنِّي لا أَشْعُرُ بِأَيِّ تَعَبٍ."

ضَحِكَ وَرَقَةُ وقالَ: "كَيفَ يَتْعَبُ مِنَ السَّفَرِ فارِسٌ مِثْلَكَ؟ نَحْنُ العَجائِزُ مَنْ يَتْعَبُ."

سَأَلَ يُوسُفُ: "أَيْنَ الرِّيحُ يا سَعْدُ؟ (والرِّيحُ هُوَ فَرَسُ سَعْدٍ الأَسْوَدُ). لِماذا تَرْكَبُ هَذا الفَرَسَ الأَدْهَمَ؟"

أَجابَ سَعْدٌ: "عَلَيَّ واجِبُ العَزاءِ، يا عَمّاهُ، فَإِنَّ جَوادِيَ الحَبيبَ ماتَ قَبْلَ شَهْرٍ."

تَأَثَّرَ يُوسُفُ على الفَرَسِ وقالَ: "الخَيْرُ فيما اخْتارَهُ اللهُ، وَلَكِنَّني لا أَرْضى لَكَ هَذا الفَرَسَ الأَدْهَمَ، وسَأُهْدِيكَ البُراقَ (والبُراقُ هُوَ فَرَسٌ مِنْ سُلالَةِ الرِّيحِ)."

كانَ كَرَمُ يُوسُفَ التَّيْمِيِّ لِضُيوفِهِ لا يُوصَفُ. قالَ وَرَقَةُ مُقاطِعًا: "جَزاكَ اللهُ خَيْرًا يا صَديقي، لَمْ تَتْرُكْ شَيْئًا مِنْ صُنوفِ الكَرَمِ. جَهِّزْ لَنا عَروسَنا، فَنَحْنُ لا نُريدُ أَنْ نَتْرُكَها خَلْفَنا. جَهِّزْ لَها هَوْدَجًا وناقَةً صَهْباءَ، فَإِنَّنا سَنَعْقِدُ قِرانَها غَدًا ونَأْخُذُها مَعَنا."

قالَ يُوسُفُ: "هَذا يَوْمُ فَرْحَتي، لَمْ أَكُنْ أَحْلُمُ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ سَعْدُ بْنُ وَرَقَةَ ابْنَتي سَلْمى، وما أَدْراكَ ما سَلْمى؟ فَتاةٌ مِنْ بَني تَيْمٍ، جَمالُها كَالسِّحْرِ، لَوْنُها كَالجَميل الأصْفَرِ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ، وإِذا تَبَسَّمَتْ تَوَرَّدَتْ خُدودُها وكأَنَّ اللُّؤْلُؤُ يَتَلَأْلَأُ مِنْ ثَغْرِها. إِنَّها الآنَ في الخامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِها، وَلَكِنَّها تَبْدو وكَأَنَّها في العِشْرينَ. قَوامُها مَمْشوقٌ، وتَرْبِيَتُها حَسَنَةٌ."

كادَ الفَرَحُ أَنْ يَغْلِبَ سَعْدًا، وهو يُحاوِلُ أَنْ يُخْفِيَ ابْتِسامَتَهُ، ولَكِنْ عَيْناهُ كانَتْ تَفْضَحُهُ. في اللَّيْلِ، لَمْ يَسْتَطِعْ النَّوْمَ، وعِنْدَما أَصْبَحَ الصَّباحُ، وَجَدَ أَنَّ يُوسُفَ قَدْ ذَبَحَ النُّوقَ ودَعا أَهْلَ القَرْيَةِ لِلاحْتِفالِ. عَقَدوا قِرانَ سَلْمى على سَعْدٍ، وعاشَ الفارِسُ في سَعادَةٍ وهَناءٍ مَعَ أَميرَتِهِ في قَرْيَتِهِمْ، مُسافِرينَ مَعًا في رِحْلَةِ حَياتِهِمْ الجَديدَةِ.

بِتَصَرُّف عن طارِقٌ اللَّبيبُ

إقرأ أيضاً:

قصة للأطفال: قصة طفلة لم تحفظ السّرّ

قصة للأطفال: طارق والفيل والطيب

قصة للأطفال: سعادة بائعة اللبن

قصة للأطفال: الأميرة التي تصدّق كل شيء

قصة للأطفال: الأسد والفأر

للمزيد             

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق