الاثنين، 11 يناير 2021

• قصة ملهمة: أبي مدرسةٌ ولو بعد موته


سئمتُ من أبي

سئمتُ من صراخ أبي، من نقده، من عتابه، إذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضاءً، أو المروحة تدور، وأنا خارج الغرفة، صرخ في وجهي: لِمَ لا تطفئها؟ ولم كل هذا الهدر في الكهرباء؟

إذا دخل الحمام ووجد الصنبور يقطر ماء صرخ بعلوّ صوته: لِمَ لا تُحكم تسكيره قبل خروجك، ولِمَ كل هذا الهدر في المياه؟

كان دائماً ينتقدني ويتهمني بالسلبية، ويعاتبني على الصغيرة والكبيرة، حتى وهو على فراش المرض!

وجاء يوم الخلاص، الذي طالما انتظرته.

اليوم سأُجري المقابلة الشخصية الأولى في حياتي، للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات الكبرى، وإن تَمَّ قبولي فيها، فسأترك هذا البيت إلى غير رجعة، وسأرتاح من أبي ومن صراخه وتوبيخه الدائمين لي.

استيقظتُ في الصباح الباكر، واستحممتُ ولبستُ أجمل الثياب وتعطرتُ وهممتُ بالخروج، فإذا بيدٍ تُرَبِّتُ على كتفي عند الباب. التفتُّ فوجدتُ أبي متبسماً رغم ذبول عينيه، وظهور أعراض المرض جلية على وجهه. ناولني بعض النقود وقال لي: أريدك أن تكون إيجابياً واثقاً من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال.

تَقَبَّلْتُ النصيحة على مضض، وابتسمتُ وأنا أتأفف من داخلي. حتى في هذه اللحظات، لا يكفّ أبي عن التنظير، وكأنه يتعمد تعكير مزاجي في أسعد لحظات حياتي.

خرجتُ من البيت مسرعاً واستأجرت سيارة أجرة، وتوجهتُ إلى الشركة. وما أن وصلتُ ودخلتُ من بوابة الشركة حتى تعجبتُ كل العجب! لم يكن هناك حراس عند الباب، ولا موظفو استقبال. كان هناك فقط لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة.

وبمجرد أن دخلتُ من الباب الرئيسي، لاحظتُ أن مقبض الباب قد خرج من مكانه، وأصبح عُرضةً للكسر إن اصطدم به أحد. تذكرتُ نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل، بأن أكون إيجابياً، فقمتُ على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه، وأحكمتُه جيداً.

ثم تتبعتُ اللوحات الإرشادية ماراً بحديقة الشركة، فوجدت الممرات غارقة بالمياه الطافية من أحد الأحواض الذي كان ممتلئاً بالماء إلى آخره. بدا لي أن البستاني قد انشغل عنه، فتذكرت تعنيف أبي لي على هدر المياه. فقمتُ بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ، ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة قبل عودة البستاني.

ثم دخلتُ مبنى الشركة متتبعاً اللوحات. وخلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة، ونحن في وضح النهار. قمت لا إرادياً بإطفائها خوفاً من صراخ أبي، الذي كان يصدح في أذني أينما ذهبت.

وصلتُ أخيراً إلى الدور العلوي، ففوجئتُ بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة. قمتُ بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين، وجلست انتظر دوري، وأنا أتمعن في وجوه الحاضرين وملابسهم. جعلني المشهد أشعر بالدونية من ملابسي وهيئتي أمام ما رأيته. وكان البعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية.

لاحظت أن كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة. قلت في نفسي: إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد تم رفضهم، فهل سأُقبل أنا؟

هممت بالانسحاب والخروج من هذه المنافسة الخاسرة بكرامتي، قبل أن يقال لي نعتذر منك. وبالفعل قمتُ من مكاني وهممت بالخروج، فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول. قلت لنفسي: لا مناص سأدخل وأمري إلى الله.

دخلت غرفة المقابلة، وجلست على الكرسي أمام ثلاثة أشخاص نظروا إلي وابتسموا ابتسامة عريضة، ثم قال أحدهم: متى تحب أن تستلم الوظيفة؟

ذُهِلتُ لوهلة، وظننت أنهم يسخرون مني، أو أنه أحد أسئلة المقابلة، ووراء هذا السؤال ما وراءه. تذكرتُ نصيحة أبي لي عند خروجي من المنزل، بألا أهتز وأن أكون واثقاً من نفسي. فأجبتهم بكل ثقة: بعد أن أجتاز الاختبار بنجاح، إن شاء الله.

فقال آخر: لقد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر.

قلت: ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالا واحدا!

فقال الثالث: نحن ندرك جيداً أنه من خلال طرح الأسئلة فقط، لن نستطيع تقييم مهارات أي من المتقدمين. ولذلك قررنا أن يكون تقييمنا للشخص عملياً. فصممنا مجموعة اختبارات عملية، تكشف لنا سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها، ومدى حرصه على مقدرات الشركة. فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمدنا وضعه في طريق كل متقدم. وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات مراقبة وضعت في كل أروقة الشركة.

حينها، اختفت كل الوجوه أمام عيني، ونسيت الوظيفة والمقابلة وكل شيء. ولم أعد أرى إلا صورة أبي. ذلك الباب الكبير الذي ظاهره القسوة، ولكن باطنه الرحمة والمودة والحب والحنان والطمأنينة. شعرتُ برغبة جامحة في العودة إلى البيت والانكفاء لتقبيل يديه وقدميه. اشتقتُ إلى سماع صوته وموسيقى صراخه تطرب أذني. تمنيتُ لو ركبتُ بساط الريح لأعود إلى بيتي وأحتفل معه بفوزي بالوظيفة الجديدة.

تركت لهم ملفاً كاملاً عني يحوي شهادتي، وخرجتُ مسرعاً وخطواتي تسابق بعضها بعضاً، للحاق بقلبي الذي سبقني فرحاً إلى البيت. وما أن وقفت عند أول الشارع حتى رأيت ازدحاماً أمام عمارتنا.

اقتربت بحذر وضربات قلبي تضرب بعضها بعضاً، فتلقاني جاري باكياً، واحتضنني قائلاً: أعظم الله أجرك في أبيك.

تسمرتْ قدماي في الأرض، ولم تعد تقوى على حملي. ضاعت فرحتي واسودت الدنيا في وجهي، وبدأتْ الأرض تدور من حولي. هممتُ بسؤال كل من مر بجانبي: أحقاً مات أبي؟

منقول

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضاً

 قصة مشاهير: الإسكندر يتلقى سهماً في الصدر

قصة سياسية: عشر بصقات على وجه الرئيس

قصة وعبرة: العصفور والدودة والمعلمة والتلميذ

قصة وصيّة: الكلاب تنعم بثروة النفط

نوادر العرب: كريمٌ قليل المال في حضرة المأمون

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق