الخميس، 25 يناير 2024

• قصة وعبرة: السِّكِّير والقِدِّيس


رَجْفَةُ قَلْبٍ

عَاشَ "باولو" حياته كُلها وحيداً حتى عندما كانت الحياة تمتلئ صَخَباً حوله، رَجُلٌ مُسِنٌّ قضى حياته كلها عاملاً بمحطة قطارات كنج كروس King’s Cross بوسط لندن، أدمَنْ الرجُل شعورَ الوحدة كما أدمَنَ تَناوُلَ الخمر في حانة توماس التي لا تبتعد كثيراً عن غُرفة مَعيشته.

لم يتزوج "باولو"، وإن كَان ذات يوم أخبرتهُ امرأة رافَقَها بضعة أَشهرٍ بأنها حاملٌ منه، لكنها إختفت ولم يَعُد لها أثرٌ، ولا يدري ما إذا كانت تلك المرأة صادقةً أم كانت تحتالُ عليه من أجل حفنةٍ من النقود.

المُهم أن الرجلَّ بَقِيَ وحيداً إلا من زُجاجةِ الخمرِ التي كانت تُرافِقُهُ دائماً.

كان يَقطنُ حُجرةً صغيرةً لا تُرهقه قيمةُ إيجارها الذي يتناسبُ مع قيمة المعاش الذي يتقاضاه من عَمَلِهُ السابق.

كان جارُه القِسِّيسُ فرانسيس رجلاً غامضاً بعضَ الشيء، صَمتُهُ أكثر من كلماته، حادُّ العينين لا ترى منه رِقَّةً إلا نادراً، وكانت مفارقة كبرى أن يكون الرَّجُلُ الذي يصعدُ بالناس إلى السماءِ بمثل هذه الصفات. ورغمَ أن باولو غالباً ما كان يَتَجَنَّبُ الحديثَ معه، إلا أن فرانسيين دائماً ما كان يَحتَقِرُه، فهو ليس في نظره سوى السِّكِّيرِ المُلحدِ الذي لم تطأ قدماه الكنسيةَ منذ أحدَ عشرَ عاماً.

كان بَاولو يعلمُ عن فرانسيس ما لا يعلمه غيرُه من جيرانه، فقد رآه مُجرَّدَ خادمٍ بالكنيسة، لا يقوم سوى ببعض الأعمال اليدوية، ثم جاءت الحربُ، وأصبحت تلك الكنسيةُ الصغيرة مجردَ منزلٍ لإيواء الجرحى والمُهاجرين من بيوتهم التى دمرتها طائراتُ الألمان، لكنه بعد إنتهاء الحربِ أصبح قِسِّيساً يلقي العظاتِ، ويعترفُ الناسُ له بكل خَطاياهم من وراء ستارٍ قاتم اللون ويتلقى التبرعات!

ومن هنا يأتي سِرُّ الكراهية المتبادلة بين رجلٍ أصبحَ في غَفلةٍ من الزمن قِسِّيساً، وبين سِكِّيرٍ مُلحدٍ بَحَثَ عن الله كثيراً ولم يجده!

والحقيقةُ أن "باولو" كان رجلاً طَيِّبَ القلبِ مُسالِماً إلى أبعد درجةٍ، فقد شوهد كثيراً وهو يُطعمُ الكلابَ الضالّةَ من طعامه، بل شوهد وهو يأوي كلباً ضالاً في حُجرته عِدَّةَ أيامٍ من برد الشتاء وقسوة الثلوج والمطر، والحقيقةُ أيضاً أنه بَحَثَ عن الله عدة سنوات بين جدران كنيسة سانت نيقولا، وبين عِظات القساوسة، وبين حكمة الرهبان وزُهدهم لكنه لم يستطع.. كانت عِظات القساوسة تُبعده أكثر عن الطريق الذي يُقَرِّبُه إلى الله، لكنه كان يشعر بأن مُعجزةً ذات يوم ستضعه على الطريق بعيداً عن احتقار فرنسيس له، ونَعْتِهِ دائماً بالسِّكِّير المُلحد.

وذات ليلةٍ بينما كان عائداً من الْحانَةِ وهو بِنصفِ وَعيٍ قابل ابنَةَ جاره "توما" المريض بالرَّبو، كانت الفتاة تبكي، فقد امتنعَ مالكُ الصيدلية "راؤول" عن إعطائها الدواء الذي يأخذه أباها قبل أن تدفعَ الثمنَ المؤجل، وعند ذاك اصطحبها "باولو" إلى الصيدلاني، وكان يحملُ معه زجاجةَ نبيذٍ مُعَتَّق، كان قد إشتراها لِتَوِّهِ لليلة الميلاد التى قَرُبَ موعدها، وعَرَضَ على "راؤول" أن يقايضه بها، وأن يعطي للفتاة دواءً يكفي والدَها شهراً كاملاً، وهنا وافق الصيدلاني على الفور، فقد كانت زجاجة النبيذ تعود إلى عام 1930 أي أنها قدّ عُتِّقَتْ لمدة عشرين عاماً كاملاً.

وعاد "باولو" إلى غُرفته دون زجاجة النبيذ المعتقة، لكنه عاد بشيء أثمنَ بكثيرٍ كان يبحثُ عنه طويلاً، لقد عادَ بِرَجفَةِ قلبٍ لم يشعر بها بين جدران الكنيسة، أو من عِظات الكُهّان، أو من شفاعة القديسين والرهبان.

كانت رَجفَةُ القلبِ هذه من السماء، ويا لها من معجزة!

لم يشرب الخمر بعدها، وعندما ماتَ وجدوا أسفل وِسادته خطاباً بسيطاً يقول فيه: "إبحثوا عن الله في إسعاد البشر".. لقد مات مُؤمناً دون وعظةٍ من قسيس، أو شفاعة من راهبٍ...

لقد ماتَ مُؤمناً من رَجفَةِ قلبٍ!

المصدر: مجموعة قصص قصيرة، "رَجفة قَلب"

اقرأ أيضاً:

قصة للأطفال: ذكريات جدتي دافئة جداً

قصة للأطفال: حلم السيد موهوب

قصة للأطفال: القطار الكسلان

قصة مُخَيِّبَة: دجاجة العيد

قصة للأطفال: رسالة من الحيوانات إلى الإنسان

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق