الأربعاء، 10 يناير 2024

• قصة وحكمة: خاطب في الناس آمالهم لا واقعهم


يُصبحُ من السهل عليك أن تَخدع َالناس إذا أصبحوا هم من يخدعون أنفسهم

ازدَهَرت المدينةُ الدولةُ في البندقية لسنواتٍ طويلة، وجعلهم ذلك يظنون أن يَدَ الله تؤيد جمهوريتَهم الصغيرة وتحميها من صروف الدهر، فقد جَعَلَهم الاحتكارُ شبه التام لتجارة الشرق في العصور الوسطى وبدايات النهضة من أغنى المدن في أوروبا.

وكانت حكومتهم الرشيدة تُوَفِّرُ لهم حرياتٍ لم يَتَمَتَّع بها أيُّ مواطنٍ في إيطاليا طوال تاريخها. لكن تَغَيَّرَت أقدارُهم فجأةً في القرن السادس عشر، فقد أَدّى اكتشافُ الأمريكتين إلى نَقلِ مركز السَّطوةِ إلى الجانب الغربي من أوروبا، بدايةً إلى إسبانيا والبرتغال، ولاحقاً إلى هولندا وانجلترا، ولم تَستطِع البندقيةُ الاستمرارَ في المنافسة الاقتصادية، وانهارت إمبراطوريتهم، وأَتَت الضَّربةُ التي قَضَت عليهم عام 1570 مع استيلاء الأتراكِ على جزيرة قبرص وكانت أهم ممتلكاتهم في البحر المتوسط.

أَفلَسَت أَعرَقُ الأُسَر في البندقية وانهارت مصارفُها، واجتاحَ الناسَ الركودُ والكسادُ. كانت حَداثةُ زوال ماضيهم الذهبي الذي عاشَه البعضُ وسَمِعَه الأخرون من أبائهم يجعلهم يشعرون بنوع من العار والإهانة، وظنوا أن الأقدار تتلاعب بهم، وأَنَّ أَمجادَهم ستعودُ قريباً، لكن كان ما يزعجهم هو السؤال: كيف يُدَبِّرون أُمورَهم إلى أن تعودَ أَمجادُهم؟.

انتشرت الشائعاتُ في عام 1589 بأنحاء البندقية عن وصول رجلٍ بالقرب منهم يُدعى «إل براجادينو» يُتقن السيمياء، وحَقَّقَ ثروةً هائلة من قدرته -کما ظنوا- من تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهبٍ باستخدام مادةٍ سِرِّية. كان من أسباب الانتشار السريع للشائعات أن أحدَ نبلاء البندقية سَمِعَ أثناءَ زيارته لبولندا نبوءةً من متنبي شهير بأن البندقيةَ سوف تستعيدُ مجدها وسطوتها إن وجدت رجلاً يتقن سيمياء صناعة الذهب، ولذلك وحين سمع أهالي البندقية عن مهارات براجادينو وأن هسيس الذهب يسمع دائماً بين يديه، وأنه يملأ أركان قصره بالمقتنيات الذهبية. بدأَ الناسُ في الحلم بأن البندقية سوفَ تَنتَعِشُ على يدي هذا الرجل.

تَحَرَّكَ وفدٌ من العائلات العريقة بالمدينة إلى مَقَرّ براجادينو في بريشيا، وتجولوا في قصره وانبهروا حين رأوه يَعرِضُ عليهم قدراته في صناعة الذهب، حيث أخذ حفنةً من المعادن الرخيصة وحَوَّلها إلى عدة أوقيات من تراب الذهب. كان نُوّاب المدينة في مجلسهم يناقشون عرض مشروع للموافقة على دعوة براجادينو للانتقال إلى البندقية والإقامة على نفقة المدينة، حين أتتهم أنباءٌ أن دوق مانتوا ينافسهم في شراء خدماته، وسمعوا أن براجادينو أَعَدَّ حفلاً لاستقبال الدوق في قصره مرتدياً رداءً ذهبياً بأزرارٍ من الذهب، وكانت ساعة يده وأطباق الطعام وغيرها من الأدوات كلها من الذهب. خوفاً من أن تخسرَ البندقية خدمات الرجل وافق المجلس بالإجماع تقريباً على دعوته إلى البندقية ووعدوا بإعطائه تلال المال التي كان يطلبها للاستمرار في الحياة المترفة التي كان يعيشها بشرط أن ينتقل إلى المدينة في أقرب فرصة.

في أواخر ذلك العام وصلَ براجادينو الغامض إلى البندقية، كان مظهره حازماً ومؤثراً بعينيه الثاقبتين وحاجبيه الكثيفين وكلبي الحراسة الكبيرين الذين كانا يصحبانه إلى كل مكان، واستقرَّ في قصرٍ فخمٍ بجزيرة جوديکا. كانت الجمهورية تُنفِقُ على مآدبه و ملابسه وعلى كل نزواته المُسرفة، واجتاح الناسَ الهوسُ بالسيمياء؛ ففي الشوارع والأركان كان الباعة المتجولون يعرضون بضاعتهم من الفحم وأجهزة التقطير ومنافخ الكير والكتب التي تشرح طرق التحضير، وأصبح الجميع يمارس السيمياء - ما عدا براجادينو.

لم يَبْدُ على السيميائي أنه متعجلٌ لتصنيع الذهب الذي سينقذ البندقية من خرابها، لكن الغريب أن تباطؤه لم يُقَلِّل من شعبيته، بل زاد من اتباع الناس له. تدفق المعجبون من كل أنحاء أوروبا بل ومن آسيا لملاقاة هذا الرجل النابغة، وطوال شهورٍ كانت الهدايا تنهال عليه من كل صوب، لكن دون أن تظهر أي بادرة للمعجزة التي كان سكان البندقية واثقين أنه سيفعلها، ولكن في النهاية مَلَّ المواطنون وتساءلوا إن كان انتظارهم سيطول إلى الأبد. في البداية كان النواب يطلبون منهم الصبر والتَّمَهُّلَ لأن براجادينو شيطانٌ حاذق يحب من يتملقه، ولكن بعدها ضَجِرَ النبلاء أيضاً وأصبح على النواب أن يُظهروا لسكان المدينة مقابلاً فعلياً لاستثماراتهم المتفاقمة.

كان براجادينو يتعامل مع المُتَشَكِّكين باحتقار، لكنه أجابهم هذه المرة بأنه قد حَضَّرَ بالفعل المادة الغامضة في مصنع المدينة ويمكنه أن يستخدمها كلها مرة واحدة فيحصلون حينها على ضعف ما لديهم من الذهب، لكن الانتظار يجعل المادة تعطي نتيجة أفضل، ولو تركوا المادة داخل صندوق لسبع سنوات يمكنها أن تضاعف الذهب في المصنع إلى ثلاثين ضعفا. وافق معظم قادة المدينة على الانتظار حتى يَخْتَمِرَ منجمُ الذهب، لكن الآخرين غضبوا من أن يواصل هذا الرجل حياته الملكية لسبع سنوات أخرى على حساب إفقار المواطنين، وأَكَّدَ المواطنون هذا الغضب. وأخيراً طَلَبَ الخصومُ من السيميائي أن يُثبِتَ مهارتَه ويُحَضِّرَ في أقربِ وقتٍ کماً كبيراً من الذهب.

رَدَّ براجادينو كمن يثق بعلمه أن البندقية بِتَعَجُّلِها أهانتْ كبرياءَه، وتَستَحِّقُ أن يحرمَها من مواهبه، وهَجَرَ المدينةَ واستقرَّ بدايةً في مدينة بادوا القريبة ثم انتقل في عام 1590 إلى ميونخ بدعوةٍ من دوق بافاريا الذي كان حاله مثل البندقية؛ فقد خَبِرَ الثراءَ في بدايات حياته، ثم أفلسه مجونُه، وكان يأملُ أن يستعيد له السيميائي الشهير ما أضاعه، هكذا عاد براجادينو إلى الحياة المترفة التي عرفها في البندقية وتَكَرَّرَ ما كان يفعله مع قادتها ومواطنيها.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

اقرأ أيضاً:

قصة مخيبة: مرح وجدول الضرب

قصة وحكمة: تحكّم بأوراق اللعب

قصة وعبرة: الأسد والنمر والفهد والذئب فريق واحد

قصة للأطفال: الصياد الذي اختفى

قصة للاطفال: كنز الحياة

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق