الأربعاء، 13 سبتمبر 2023

• قصة وحكمة: فاسكو دي بالبوا لا يُجيد التخطيط


لا تشغل نفسك أبدا بالأحلام المشوشة بل خطط مسبقاً لما يتطلبه تحقيق ما تريد من البدء حتى الختام

في عام 1510 أَبحرَت سفينةٌ مُتجهةٌ من هسبانيولا (هايتي وجمهورية الدومينيك حالياً) إلى فنزويلا لِتُنقِذَ مستعمرةً إسبانية محاصرة، وحين أصبحت على بعد أميال من ميناء الوصول تَسَلَّلَ راكبٌ كان يختبيء في خزينة المؤن: كان ذلك الراكب هو فاسكو نانييز دي بالبوا، وكان نبيلاً أسبانياً أتى إلى العالم الجديد بحثاً عن الذهب، ولكن أغرقته الديون، وكان يختبيء داخل السفينة هرباً من دائنيه.

كان بالبوا واحداً ممن سيطرَ عليهم حلمُ البحث عن الذهب في مملكة إلدرادو المبهرة التي انتشرت عنها الحكايات بعد عودة كولومبوس من العالم الجديد، ولم يكن أحدٌ قد اكتشفها بعد، وذَهَبَ مع أول أفواج المغامرين إلى تلك الأراضي البعيدة، وعزم من البداية أن يتحقق له بالجرأة والإصرار السَّبقُ في اكتشاف هذه الكنوز، ورأى بعد أن فَرَّ من دائنيه أنه لن يمنعه شيء عن تحقيق هدفه.

لِسوء حَظِّهِ كان صاحبُ السفينة فرانسيسکو فرنانديز دي إنسيسو قاضِياً ثَرِيّاً؛ وأَغضبَه كثيراً أن يعرف بأمر الراكب المُتَسَلِّل، وأمرَ طاقمه أن يتركوا بالبوا في أول جزيرة يمرون بها، ولكن قبل أن يصلوا إليها وصلتهم أنباءٌ عن تَحَرُّر المستعمرة التي كانوا متجهين إليها. رأى بالبوا في ذلك فرصته، وحكى للبحّارة عن رحلته السابقة إلى بنما، وعن الشائعات التي تَصِفُ كم ما في تلك المناطق من الذَّهَب. تَوَجَّهَ البحارة المتحمسون إلى إنسيسو وأقنعوه بالعفو عن بالبوا وبتأسيس مستعمرة في بنما، وتَحَقَّقَ لهم ذلك وأطلقوا على المستعمرة الجديدة الاسم «دارين».

تَوَلّى إنسيسو منصبَ أول حاكم لدارين، لكن لم يكن بالبوا من النوع الذي يتَخلّى عن طموحاته لشخص آخر، فَأَلَّبَ البَحّارة ضد إسيسو، وأجبروه على الفرار إلى إسبانيا خوفاً على حياته. بعد شهورٍ وَصَلَ مبعوثُ التاج الإسباني لِيُعلِنَ نفسَه حاکماً جديداً على دارين، ولكن رَفَضَته الجموعُ وغَرِقت به السفينة أثناء عودته إلى إسبانيا، وكان ذلك حسب القانون الإسباني يعني إدانة بالبوا بقتل الحاكم واغتصاب منصبه.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يقع فيها بالبوا في مأزق بسبب تَهَوُّرِهِ، لكن هذه المرة بدا وكأن كلَّ أحلامه في الثروة والمجد قد تَحَطَّمَتْ، فقد كان عليه کي يُؤَکِّدَ حَقَّهُ في اكتشاف مملكة إلدرادو أن ينال رضا الملك، وهو ما أصبح شبه مستحيل بعد أن أصبح مُداناً وخارجاً على القانون. لم يعد أمامه سوى حَلٌّ واحد: كان يعرف من هنود بنما أن في الناحية الأخرى من البرزخ الموجود في أمريكا الوسطي محيطاً هائلاً، وأنه بالتوجه جنوباً على الشاطئ الغربي يمكنه أن يصل إلى أرض تملك من الثروات ما لا يصدقه العقل سمعهم ينطقون اسمها «بيرو»، قَرَّرَ بالبوا أن يَعبُرَ غابات بنما الخطرة، وعَزَمَ على أن يُصبح أولَّ أوروبي يغسل قدميه في هذا المحيط الجديد، ومن هناك يواصل الزَّحفَ إلى إلدرادو، ورأى أنه بتحقيق هذا الإنجاز باسم إسبانيا سيفوز برضا الملك وامتنانه ويُنقذ نفسه من مِحنته. لكن كان عليه أن يتحرَّك فوراً قبل أن تأتي السلطات الأسبانية وتعتقله.

أَبحَرَ بالبوا عام 1513 مع 190 بحاراً، ولكن عند منتصف الطريق عَبْرَ البرزخ لم يبقَ معه سوى سبعين منهم، ومات الباقون بسبب الظروف الصعبة للرحلة من الحشرات الماصَّة للدماء والأمطار الغزيرة والحُمّى. أخيراً ومن فوق جبلٍ استطاع بالبوا بالفعل أن يصبح أول أوروبي تقع عيناه على المحيط الهاديء، وبعدها بأيامٍ واصلَ الإبحارَ مع قواته المدرعة رافعين راية الكاستيل، وأعلنَ ضَمَّ كل الأراضي والبِحار المكتشفة إلى وصاية العرش الإسباني.

استقبلَ هنودُ المنطقة بالبوا بهدايا من الذهب والأحجار الكريمة التي لم يرَ مثلها من قبل، وحين سألَ من أين تأتي هذه الأشياء أجابه الهنود أنها آتيةٌ من مملكة الإنكا في الجنوب. لكن لم يكن قد تَبَقَّى مع بالبوا إلا القليل من الجنود، وكان عليه أن يعود الى دارين، ورأى أن يُرسِلَ الذهب والجواهر إلى إسبانيا عربوناً على حُسنِ نِيَّتِهِ، ويطلب منهم جيشاً كبيراً لمساعدته في الاستيلاء على إلدرادو.

حين وَصَلت الأنباءُ إلى إسبانيا عن عبور بالبوا الجرئ للبرزخ، واكتشافه للمحيط الغربي، وتَجَهُّزه للاستيلاء على إلدرادو تَحَوَّل في نَظَر الجميع من مجرمٍ مُدانٍ إلى بطلٍ قوميّ، وقَوَّى ذلك من عزمه الذي لا يلين في أن يصبح حاكماً على الأرض الجديدة. قبل أن تصل الأخبارُ إلى الملك والملكة عن اكتشافات بالبوا كانا قد أرسلا لاعتقاله عشرات السفن بقيادة رجل اسمه بدرو آرياس دافيلا "بدرارياس"، ولكن عَرفَ بدرارياس بِمُجَرَّد وصوله إلى بنما بقرار العفو عن بالبوا، وعن القرار الملكي بتقاسمه للسلطة مع هذا المُدان السابق.

بعدها عادَ إلى بالبوا شعوره السابق بعدم الرضا، فلم يكن يُرضيه سوى الذهب وحكم إلدرادو، وهو الحلمُ الذي كاد يُفقِده حياته مرات عديدة، ولم يكن يحتمل أن يشاركه هذا الوافد الجديد في الثروة والمجد، وبسرعةٍ عرف أن بدرارياس رجلٌ غيور وحاقد، ولم يكن يرضيه هذا الوضع أيضاً. رأى بالبوا أن حَلَّه الوحيد هو أن يطلبَ المغادرة مع جيشٍ كبير ومعداتٍ لصناعة السفن لعبور الغابات من جديد، وأن يُؤَسِّسَ عند وصوله قاعدةً عسكرية يمكنه من خلالها أن يستولي على الإنكا.

الغريب أن بدرارياس وافق على الخطة مباشرة ظناً منه أنها لن تنجح، وبالفعل مات المئات أثناء هذه الرحلة الثانية عبر الغابات وتَعَفَّنَت مؤونتهم بفعل الأمطار الغزيرة، لكن ذلك كعادة بالبوا لم يُنهِهِ عن سَعيه، فلم يكن أي شيء في العالم يُحبطه عن طموحه. حين وصل إلى المحيط الهادئ بدأ في قطع الأشجار لِشَنِّ حملته الجديدة، لكن ما تَبَقَّى معه من الرجال كانوا قليلين ومُنهَكين لا يقدرون على الغزو، وكان عليه أن يعودَ مرةً أخرى إلى دارين.

كان بدرارياس قد أرسلَ إلى بالبوا طالباً منه العودة لمناقشة خططه الجديدة، وحين وصلَ قابله فرانسيسكو بيزارو صديقه القديم الذي كان معه في عبوره الأول عبر البرزخ، ولكن ذلك كان فَخّاً: فكان تحت إِمرَةِ بيزارو مائة جندي أحاطوا ببالبوا واعتقلوه وعادوا به إلى بدرارياس والذي حاکَمَهُ بتُهمة التَّمَرُّدِ، وبعدها بأيامٍ كانت رأسُ بالبوا تَرقدُ مع رؤوس أتباعه المخلصين في سَلّة المقصلة. بعدها بسنوات كان بيزارو هو من تحقق له الاستيلاء على بنما ونَسِيَ الناس بطولات بالبوا.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

  إقرأ أيضاً:

قصة سياسية: مُفَوَّض الحزب اعتقلني ثلاث مرات

قصة وحكمة: المشعوذ الدجّال طبيب الجبال

قصة وحكمة: الدجّال مسمر رائد المغناطيسية

قصة للأطفال: سعد يضيء المدينة

قصة مثل: كنّا بواحد صرنا بثنين

للمزيد              

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق