أحيانًا لا تُصنع السلطة بالقوة وحدها، بل بالحيلة والصبر الطويل. وفي تاريخ روسيا قصة لقيصر تعلّم القسوة صغيرًا، ثم استخدم الذكاء والسخرية ليعيد هيبة العرش، بعد أن كادت تضيع منه.
في روسيا عام 1538، فَقَدَ الصبي إيفان الرابع أمه هيلينا، ولم يكن قد تجاوز الثامنة من عمره. أصبح يتيمًا في قصر يعجّ بالبكوات الأمراء، وهم الطبقة التي كانت تمسك بزمام الحكم فعليًا. خمس سنوات كاملة عاشها إيفان يراقبهم وهم يرهقون الناس بالظلم، ويتصارعون على النفوذ، ويعاملونه هو نفسه باستهزاء قاسٍ.
كانوا يضعون التاج على رأسه، والصولجان في يديه، ويجلسونه على العرش وساقاه الصغيرتان تتدليان من حافة المقعد، ثم يضحكون. لم يكتفوا بذلك، بل كانوا يتقاذفونه بينهم في الهواء، ليُشعِروا الطفل بأنه صغير، عاجز، بلا قيمة ولا سلطة. كانت تلك الإهانات تُخزَّن في ذاكرته يومًا بعد يوم.
عندما بلغ إيفان الثالثة عشرة، فاجأ الجميع. دبّر بجرأة اغتيال قائد البكوات، وأمسك بالعرش بيده. ومنذ تلك اللحظة، بدأ صراع طويل امتد لعقود، حاول فيه الحدّ من سطوة البكوات وتدخلهم في الحكم. لكنه كان صراعًا مرهقًا؛ فكل خطوة إصلاح كان يقابلها تمرُّد، وكل قرار حرب كان يجرّ شكوى جديدة من الشعب، وكل محاولة تنظيم كانت تصطدم بمعارضة وزرائه.
تراكمت الضغوط حتى بلغ التعب بإيفان مداه. في عام 1564، شعر أن الجميع يستهين به وبالعرش، وأن روسيا تنزف من الحروب الخارجية والصراعات الداخلية. ففعل ما لم يتوقعه أحد: أعلن تخليه المؤقت عن العرش. ترك البلاد في اضطراب، واضطر رعاياه، ومن بينهم البكوات، إلى التوسل إليه كي يعود ويحفظ النظام.
لكن إيفان لم يعد فورًا. بل قرر أن يخطو خطوة أغرب وأعمق أثرًا. عيّن بديلاً له على العرش قائدًا عسكريًا يُدعى سيميون بكبولاتوفيتش، وكان حديث العهد بالمسيحية، تتري الأصل. وكان الروس يحتقرون التتار، ويرونهم أدنى منزلة، فكانت تولية سيميون إهانة مقصودة لرعاياه.
انتقل سيميون إلى قصر الكرملين، بينما خرج إيفان ليعيش في قرية خارج موسكو. وأمر الجميع، بمن فيهم البكوات، بطاعة القيصر الجديد. وكان إيفان يزور القصر أحيانًا، يجلس بين البكوات، وينحني تواضعًا لسيميون، ويطلب منه بهدوء بعض الهبات، كأنه تابع لا سيد.
منذ البداية، كان واضحًا أن سيميون مجرد صورة. ارتدى ثياب القيصر، وتصرّف مثله، لكنه لم يملك سلطة حقيقية. لم يكن أحد يأخذه بجدية. عندها أدرك البكوات المسنون مغزى المشهد: هذا تكرار لما صنعوه هم بإيفان في طفولته. كما جعلوه يومًا ملكًا ألعوبة، ها هو اليوم يجعلهم يشاهدون ملكًا ألعوبة آخر، لكن هذه المرة على حسابهم.
كان سيميون مرآة وضعها إيفان أمام شعبه. مرآة تقول لهم: جعلتم مني قيصرًا بلا سلطة بكثرة شكواكم وعصيانكم، فهاكم قيصرًا بلا سلطة حقًا. سخرتم مني، واليوم أسخر منكم، وأجعل من روسيا موضع هزء العالم.
مرّ عامان ثقيلان. ذاق فيهما الجميع طعم الفوضى والمهانة، وفهموا قيمة القيصر الحقيقي. وفي عام 1577، عاد البكوات مرة أخرى، يستجدون إيفان أن يعود إلى العرش. وافق هذه المرة، لكنه عاد قيصرًا كامل السلطة، لا ألعوبة في أيدي أحد. اختفى سيميون، ومعه اختفت المؤامرات، وتلاشت الشكاوى، وساد الصمت الممزوج بالاحترام.
هكذا علّم إيفان الرابع رعاياه درسًا لم ينسوه. لم يخطب فيهم، ولم يكثر من الوعظ، بل جعلهم يرون أنفسهم في مرآة قاسية، مضحكة، ومؤلمة في آن واحد. وعندما عاد إلى العرش، عاد وقد استعاد هيبته، وبقي قيصرًا حقيقيًا حتى آخر حياته. إنها قصة تذكّرنا بأن بعض الدروس لا تُقال بالكلمات، بل تُصنع بالأفعال.
المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN
فيسبوك: https://www.facebook.com/ali.ramadan.206789
منصة أكس: https://x.com/AliRamadan54
قصة وحكمة: ماري انطوانيت من السّطوة إلى السقوط
قصة وحكمة: فوشيه: الوزير الذي أربك نابليون
قصة وحكمة: شيكو ليانغ انتصر بالحكمة لا بالسيف
قصة للأطفال: ديك في قاعة الامتحان
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق