قصة وحكاية: • قصة نجاح: الأسيرُ الذي أصبحَ ملكًا

الاثنين، 28 أغسطس 2017

• قصة نجاح: الأسيرُ الذي أصبحَ ملكًا

القدرُ يصنعُ الملوكَ أحيانًا

لطالما حملتِ البحارُ في طياتِها قصصًا أغربَ منَ الخيالِ، حيثُ تبتلعُ السفنُ وتُلفظُ الناجينَ إلى مصائرَ لم تخطرْ لهم على بالٍ. هذهِ قصةُ رجلٍ أُلقيَ بهِ بينَ أكلةِ لحومِ البشرِ، لكنهُ لم يُواجهِ الموتَ، بل اعتلى العرشَ! إنها حكايةُ البحّارِ السويديِّ كارلُ إيميلُ بيتيرسونَ، الذي لم يكنْ يَدري أنَّ غرقَ سفينتِهِ سيكونُ بدايةً لحياةٍ ملكيةٍ غيرِ متوقعةٍ في إحدى جُزرِ المحيطِ الهادئِ.

وُلدَ كارلُ إيميلُ بيتيرسونَ في السويدِ عامَ 1875، وكانَ بحارًا متمرِّسًا، مغامرًا بطبعِهِ، يجوبُ المحيطاتِ بحثًا عن الرزقِ والمغامرةِ. في يومِ عيدِ الميلادِ من عامِ 1904، وبينما كانَ في رحلةٍ بحريةٍ، ضربتْ عاصفةٌ هوجاءُ سفينتَهُ "هرمانَ"، فألقتها أمواجُ المحيطِ الهادئِ متحطمةً على شواطئِ جزيرةٍ نائيةٍ تُعرفُ اليومَ بجُزرِ تروبرياندَ، التابعةِ لـ بابوا غينيا الجديدةَ.

تقاذفتهُ الأمواجُ حتى ألقتهُ، شبهَ فاقدٍ للوعيِ، على شجيراتٍ كثيفةٍ. لم يكدْ يفتحُ عينيهِ حتى وجدَ نفسَهُ محاطًا برجالٍ أشداءَ، يرمقونهُ بنظراتٍ متوجسةٍ. كانوا منْ سكانِ الجزيرةِ الأصليينَ، محاربينَ أشداءَ ينتمونَ إلى قبائلِ الكيريوانا، وهي قبائلُ لم تكنْ تمارسُ أكلَ لحومِ البشرِ كما كانَ يُشاعُ، لكنها لم تكنْ ترحبُ بالدخلاءِ.

اقتيدَ كارلُ إلى زعيمِ القبيلةِ، الملكِ لامي، الذي راحَ يتفحصُ هذا الرجلَ الأبيضَ الغريبَ، بملابسِهِ الممزقةِ وجسدِهِ المكدومِ. كانَ كارلُ يتوقعُ الأسوأَ، لكنهُ تفاجأَ بأنَّ الملكَ لم يأمرْ بقتلِهِ، بل استقبلَهُ بحذرٍ، وربما بفضولٍ.

من بينِ الحاضرينَ، كانتْ ابنةُ الملكِ، سينغدو، تراقبُ الرجلَ الغريبَ بتمعنٍ. كانتْ فتاةً ذكيةً ذاتَ روحٍ حرةٍ، لم يسبقْ لها أنْ رأتْ رجلًا أوروبيًا عنْ قربٍ. معَ مرورِ الوقتِ، نشأتْ بينهما علاقةٌ قائمةٌ على الفضولِ والاحترامِ، ثم تحولتْ إلى حبٍّ عميقٍ. وبعدَ سنواتٍ قليلةٍ، تزوجَ كارلُ منْ سينغدو عامَ 1907، ليصبحَ واحدًا منْ أبناءِ القبيلةِ.

استغلَّ كارلُ معرفتَهُ التجاريةَ ليخوضَ في تجارةِ جوزِ الهندِ، مستغلًا موقعَ الجزيرةِ وثرواتِها الطبيعيةِ، فحققَ نجاحًا كبيرًا وجمعَ ثروةً طائلةً. وعندما توفيَ الملكُ لامي، رأتِ القبيلةُ أنَّ كارلَ، الذي أصبحَ جزءًا منْ مجتمعِهم، هو الأجدرُ بقيادتِهم، فتمَّ تنصيبُهُ ملكًا عليهمْ.

حكمَ كارلُ الجزيرةَ بحكمةٍ وعدلٍ، مستفيدًا منْ معرفتِهِ الغربيةِ وقدرتِهِ على التكيفِ معَ تقاليدِ الجزيرةِ. عاشَ بينَ أهلِها كواحدٍ منهمْ، وتركَ بصمةً لا تُنسى في تاريخِهمْ. بقيَ ملكًا حتى وفاتِهِ عامَ 1937، تاركًا خلفَهُ إرثًا استثنائيًا لرجلٍ بدأَ حياتَهُ بحارًا وانتهى ملكًا على جزيرةٍ لم يكنْ يعرفُ بوجودِها منْ قبلِ.

هكذا شاءتِ الأقدارُ أنْ يتحولَ الغريبُ المنبوذُ إلى قائدٍ محبوبٍ، وأنْ يصنعَ القدرُ لرجلٍ ألقتْ بهِ الأمواجُ إلى المجهولِ عرشًا لم يكنْ في الحسبانِ. في أعماقِ المحيطِ، وبينَ شعابِ الجزرِ البعيدةِ، تنسجُ الحياةُ قصصًا تعجزُ عنْ تخيلِها أعظمُ الرواياتِ. وبينما نقرأُ عنْ كارلِ إيميلِ بيتيرسونَ، نُدركُ أنَّ المغامرةَ الحقيقيةَ ليستْ في السفرِ عبرَ المحيطاتِ فقطْ، بل في القدرةِ على التأقلمِ، والنجاحِ في أحلكِ الظروفِ، بل وربما… اعتلاءِ العرشِ!