التَّزْوِيرُ الَّذِي أَثْمَرَ كَرَامَةً
في زمنٍ كانت فيه الكلمةُ سلطةً والخطُّ ثروةً، وُلدت حكايةٌ غريبةٌ عن رجلٍ احتال على اليأس نفسه، فحوَّلَ تزويرَ كتابٍ إلى بابٍ من أبواب الرزقِ والكرامة.
كان هناك رجلٌ طالَ عُطلُه، وضاقت به السُّبل، فلم يجدْ بُدًّا من أن يخترعَ لنفسه وسيلةً للعيش. فانتحلَ كتابًا يُنسَبُ إلى الوزيرِ القويِّ عليِّ بن محمَّد بن الفُرات، وجعلَه مُوجَّهًا إلى عامِلِ مصرَ أبي زنبور. وحملَهُ الرجلُ معه إلى مصرَ، لِيُظهِرَ فيه مكانتَه عند الوزيرِ، وليطلبَ حظَّه عند العامِل.
فلما قابَلَ أبا زنبورَ ودفعَ إليه الكتابَ، أنكرَه العامِلُ في سِرِّه. فقد بالغَ الكِتابُ في تأكيدِ مكانةِ الرجلِ ودَعائه له، بما لا يتناسَبُ ومقامَه، وخَطُّه أثارَ ريبتَه. لكنَّ أبا زنبورَ أخفى ذلك، وأمرَ له بجرايةٍ يسيرةٍ وقال: "خُذْها إلى أن أنظرَ في أمرك".
ثمَّ عمدَ العامِلُ إلى كتبِ الوزيرِ الخاصة، فأرسلَ إليه ذلك الكتابَ المزوَّرَ، وشرحَ له حكايةَ صاحبِه، مُلمِّحًا أنَّ للرجلِ —رغم شكِّه— حرمةً وقدمَ خدمةٍ عند ابن الفُرات.
ولمَّا وصَلَ الكتابُ إلى الوزيرِ، وكان جالسًا وحوله أعوانُه، قرأه وأطلعَهم على قصَّته. فتعجَّبوا وسألوه: "فما الرأيُ في أمرِ هذا الرجل؟"
فاندفعَ كلُّ واحدٍ بعقوبةٍ قاسية: "تُقطَعُ يده!" قال أحدهم. "بل يُقطَعُ إبهامه!" قال آخر. "يُضرَبُ ويُسجَن!" قال ثالث. ورأى رابعٌ أن يُكشَفَ أمرُه ويُطرَد خائبًا.
فالتفتَ إليهم ابن الفُراتُ —وقد امتلأ قلبهُ رحمةً وحكمةً— وقال: "ما أبعدَ طباعَكم عن الجميل، وأنفرَها من المروءة! رجلٌ توسَّل بنا، وتحملَ مشقَّةَ السفر إلى مصر، وجعلنا سببًا لأمله في الرزق. لعلَّه لو جاءنا لما استطاعَ الوصولَ إلينا، ولا كانت له عندنا حرمةٌ يحملُ كتابًا بها. فخفَّفَ عنا، فكتبَ لنفسه ما ظنَّ أنَّه يصلحُ به حاله، وجعلنا سببه. فأحسنُ أحواله عند أجملكم أن يرجعَ خائبًا؟!"
ثمَّ مدَّ يده إلى الدواة، وقلبَ ظهرَ ذلك الكتابِ المزوَّر، وكتَبَ في أسفله بخطِّه العالي:
"هذا كتابي، ولا أدري لأيِّ سببٍ أنكرتَه، واستربتَ به! كأنَّك تعرفُ جميعَ من خدَمنا في النكبةِ وأوقاتِ الاستتارِ وقديمِ الأيام، فأحطتَ بهم علمًا، فأنكرتَ أبا فلان —أعزَّه الله— من بينهم! وحرمتُه عندي أوكدُ مما في كتابي هذا، وسببه أقوى مما تظنُّ. فأجزلْ عطيَّته، وواصِلْ برَّه، ووفِّرْ حظَّه من التصرُّفِ فيما يصلحُ له، وافعلْ به ما تراهُ حسنًا."
وأُصدرَ الكتابُ في الحال.
ومضَتْ أيامٌ طوال، ثم دخلَ على الوزيرِ رجلٌ عليه بهاءُ النعمة، حسنُ الهيئة، تُحيطُ به غلمانُه. أخذَ يدعو له ويشكرُه، ويقبِّلُ الأرض بين يديه —وابن الفُرات لا يعرفه—
فقال له الوزير —وكانت كلمته—: "بارك الله فيك، من أنت؟"
فأجابَه: "أنا صاحبُ الكتابِ المزوَّرِ إلى أبي زنبور، الذي حقَّقْتَه بفضلك، ففعلَ اللهُ بك كلَّ خير!"
فضحك ابن الفرات وقال: "فبكم وصل إليك؟"
قال الرجل: "بما وصلني من مال العامِل، وتقسيطٍ قسَّطه لي، وتصرُّفٍ صرَّفني فيه، بلغَ عشرين ألفَ دينار."
فقال الوزيرُ الحكيم: "الحمد لله. الزمنا، فإننا ننفعك بأضعافها."
فلم يزل الرجلُ ملازمًا له، حتى اختبره فوجده كاتبًا بارعًا، فاستخدمه، وأكسبه مالًا عظيمًا، وصار ذلك التزويرُ —بفضلِ سعةِ الصدرِ وحسنِ التصرُّف— سببًا في كرامتِه وحرمتِه.
فيسبوك: https://www.facebook.com/ali.ramadan.206789
منصة أكس: https://x.com/AliRamadan54
قصة وعبرة: حين يخبئ القدر وجهه الآخر
قصة ملهمة: متسوّل على رصيف المحطة
قصة وحكمة: الديك الأحمر والثعلب
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق