قصة وحكاية: • قصة أسطورة: أسطورة هاديس وبرسيفوني

الجمعة، 18 يوليو 2025

• قصة أسطورة: أسطورة هاديس وبرسيفوني

حين تُغيِّر مشاعرُ الآلهة مصيرَ البشر

في زوايا الأسطورة الإغريقية، حيث تمتزج الحقيقة بالخيال، وتتشابك أقدار الآلهة مع مصائر البشر، تولد حكايات خلّدها الزمن. من بين تلك الحكايات يبرز اسم "هاديس"، سيد العالم السفلي، الحاكم الصارم لمملكة الأموات، الأخ الأكبر لزيوس، والابن الغامض لكرونوس وريا.

ورغم سطوة هاديس وجلال سلطانه، فقد ظلّت قصته مخفية في الظلال، محاطة بالغموض، لا يعرفها إلا القليلون. ولكن خلف ذلك الهدوء المظلم، كانت هناك قصة حب وخطف، ومأساة أم، وغضب آلهة، وتهديد بفناء البشر. إنها قصة برسيفوني، والشتاء الأبدي الذي كاد يطبق على الأرض.

هاديس، ابن كرونوس وريا، وأخ زيوس الأكبر، لم يكن مجرد إله عابر في أساطير الإغريق، بل كان حاكمًا لمملكة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها: مملكة الموتى. ورغم مكانته، لم تُقدَّم له طقوس مهيبة كما لبقية الآلهة، وظل ذكره في الأساطير نادرًا، وكأنّ صمته كان أبلغ من أي طقس أو احتفال.

كانت مملكة هاديس، كما تخيلها الإغريق، تمتدّ في أعماق الأرض، منطقة محايدة تسكنها أرواح من لم يُكتب لهم ثواب ولا عقاب. لا نعيم هناك ولا عذاب، بل سكون أبدي مُمِلّ. أما من عاشوا حياةً فاضلة، فكان مصيرهم إلى الجنة الأسطورية، حيث الراحة الأبدية، في حين أن الأرواح الآثمة تُساق إلى تارتاروس، عالم سفلي موحش، حيث تتلقى أشد صنوف العذاب على أيدي الآلهة الثلاثة الغاضبة: الإيرينيات.

تحيط بمملكة هاديس خمسة أنهار أسطورية، تُشكِّل حدودًا خفِيّة بين عالم الأحياء والموتى: أخيرون، كوكيتوس، ليثي، فليجيثون، وستيكس. وكان نهر ستيكس الأشهر، إذ لا يمكن لأي روح أن تعبره دون مساعدة شارون، الملاح الذي لا ينقل أحدًا مجانًا، فكان الإغريق يضعون عمْلَةً معدنية في فم الميت لتسديد الأجرة. وعلى ضفاف ستيكس، كان قصر هاديس قائمًا، يحرسه سيربيروس، الكلب ذو الرؤوس الثلاثة، الذي لا يرحم أي دخيل.

بعد عبور النهر، يُعرض مصير كل روح على ثلاثة قضاة: أيكوس، مينوس، ورادامنث، ليقرّروا مآلها الأبدي. أما الأرواح الآثمة، فتنال نصيبها من الانتقام على يد الآلهة الغاضبة.

لكن أشهر ما يُروى عن هاديس ليس قصره ولا مملكته، بل قصة اختطافه لبرسيفوني، ابنة الإلهة ديمتر، إلهة الزراعة والخصب. فقد لمحها ذات يوم بين الزهور، تتنقّل كالفراشة في بستان الحياة، ففُتِن بجمالها، ونصب لها فخًا بوردة عجيبة تسحر العين، وما إن اقتربت منها، حتى انشقّت الأرض، وظهر هاديس على مركبته السوداء، واختطفها إلى عالمه السفلي، بمعونة الإله هرمس.

حين اختفت برسيفوني، جنّ جنون أمها ديمتر. جابت الأرض بحثًا عنها، تسأل البشر والآلهة، لكن أحدًا لم يجرؤ على البوح بالحقيقة؛ من يتجرأ على معارضة ملك الموت؟ حتى سكان الأولمب آثروا الصمت خوفًا.

ومع احتراق قلبها، هجرت ديمتر عملها، فأصاب الأرض الجفاف، وتوقفت الحقول عن الإنبات، وتحوّلت الأراضي الخصبة إلى صحارى قاحلة. حلّ الجوع وساد الهلاك، وارتفعت صرخات البشر من كل مكان. فأدرك سكان الأولمب أن البشرية على وشك الانقراض، ولم يكن لهم من ملجأ إلا في إرضاء ديمتر.

حاولت مربيتها الحكيمة "بابو" أن تعيد البهجة إلى قلبها. حدثتها عن الأمجاد، وسردت عليها قصص الأبطال، وغنّت لها أعذب الألحان، لكن قلب ديمتر ظلّ حزينًا، عابسًا لا يعرف الفرح. وأخيرًا، أقدمت بابو على ما لم يكن بالحسبان؛ رقصت وغنّت، وأطلقت نكاتًا، بعضها فاضح، حتى ارتسمت الابتسامة على شفتي ديمتر، ثم انفجر ضحكها أخيرًا. عندها فقط، أشرقت الحقيقة، وأخبرتها الشمس بمصير ابنتها.

غضبت ديمتر، ورفعت شكواها إلى أولمب، فاجتمع الآلهة، وأصدروا حكمًا يُرضي الجميع: تعود برسيفوني إلى أمها نصف العام، وتقضي النصف الآخر في عالم هاديس. وهكذا، حين تعود برسيفوني، تحتفل ديمتر، وتزدهر الأرض، وتتفجّر الينابيع، وتُنبت الحقول زرعها. وعندما تغيب برسيفوني مجددًا، تذبل الأرض، وتعود الكآبة، ويحلّ الشتاء.

ومنذ ذلك اليوم، أقام الناس المعابد تكريمًا لديمتر، وقدّسوا أسرارها، وخلّدوا أسطورتها، لأنها لم تكن فقط أسطورة حبٍ واختطاف، بل حكاية حياة وموت، خصب وجفاف، حزنٍ وأمل، تصنع الفصول وتُجدد دورة الحياة.

وهكذا، يظل اسم هاديس محفورًا في ذاكرة الأساطير لا كرمز للرعب فقط، بل كمحور لصراع أبدي بين الحياة والموت، وبين الفقدان والاستعادة. وقصة برسيفوني ليست مجرد أسطورة خرافية، بل مرآة لما يعيشه الإنسان من مشاعر الحزن والفرح، الغياب واللقاء، الشتاء والربيع. إنها قصيدة الزمن التي تتكرر كل عام، وتخبرنا أن حتى في أعتم اللحظات، هناك دائمًا وعدٌ بالعودة، وربيعٌ في الأفق.

فيسبوك: https://www.facebook.com/ali.ramadan.206789

منصة أكس: https://x.com/AliRamadan54

جديدنا كتاب:

100 قصة حب من كل زمان ومكان

إقرأ أيضاً:

قصة وعبرة: فرصة نادرة

قصة وعبرة: حين يخبئ القدر وجهه الآخر

قصة ملهمة: متسوّل على رصيف المحطة

قصة وحكمة: الديك الأحمر والثعلب

قصة وحكمة: الأسد والضفدع

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال