دورة الحياة
صار عمره خمس سنوات، صار يركب الدراجة بلا مساعدة من أحد. أراقبه، يداه على المقبض، قدماه على الدواستين.. يحاول السير ببطء، يسرع بحذر وينطلق ملوحًا لي.. (مع السلامة).
لقد
أتقن ركوب الدراجة حديثًا.. كفرخ صغير يطير لأول مرة.. غَطَّتْ يديه خدوشٌ ورضوضٌ كثيرة
أثارت إشفاقي حين غسلته مساء، لكنها كانت بالنسبة إليه وسامًا تَلَقّاه في رحلته نحو
قيادة الدراجة الزرقاء التي أهدته إياها عَمَّتُه سلمى في عيده الخامس.
في
اليوم الأول راحت قدماه تديران الدواستين بقوة فيما يداه الصغيرتان تضغطان على المقود
بقبضة حديدية، سقط أكثر من مرة وهو يحاول بعنادٍ أن يركب دراجته الزرقاء مَزْهُوًّا..
بكى أحيانًا كثيرة وضحكنا معًا أحيانًا أخرى.. أكثر من مرة كان يحاول أن يكبح جماح
هذه الدراجة وكانت أحيانًا كثيرة تهزمه وترميه أرضاً، لكنه كان ينهض أَشَدّ عزمًا وشوقًا
إلى محاولة جديدة.
وعندما
جاء المساء رَكَنَ دراجته في زاوية الحديقة على أمل متابعة معركته في صباح غدٍ آت.
في
اليوم التالي.. تَعَلَّمَ الركوب والانطلاق دون حاجة إلى مساعدتي له بإمساكي بالمقود،
وتَعَلَّمَ إيقاف الدراجة حيث أراد الانطلاق مجددًا.
ها
هو ينهض باكرًا إلى دراجته، يُلَمِّعُ مقودها بقطعة قماش صغيرة ويمضي مع رفاقه في أزقة
القرية الصغيرة، من زقاق إلى آخر، يسبق رفيقه حسان بخطوات قليلة فيزهو بدراجته ويُحَلِّقُ
عاليًا.
أَفرَحُ
في سِرِّي إذا ما انطلق ودراجته وأحضر لي حاجة أطلبها من سوق القرية القريب وأَنكَمِشُ
خوفًا عليه من وقعة لم تكن في الحسبان.
ابني
اليوم في الخامسة، أراقبه خِلسةً بين الحين والآخر، لقد قضينا هذه السنوات الخمس معًا
لحظة بلحظة. لحظات حميمة جدًا خاصة بنا وحدنا، لكل الآباء والأمهات ذكرياتهم ولحظاتهم
معًا، ولكن الأم أو الأب الذي لا يذكر متى نطق ولده أول كلمة، متى خطا أول خطوة، أول
سن ظهرت له، متى قاد دراجته بمفرده دون أن يقع فاته الكثير من اللحظات التي لا تنسى.
وقفت
في الشارع أراقبه وقفة جميع الأمهات والآباء السابقين واللاحقين، أعرف أن أمي وأبي
قد وقفا الوقفة نفسها، في مكان ما وزمن ما، وأعرف أن أمي زهت قبلي أكثر من مرة في سرها
وعلنها، عندما قدت دراجتي للمرة الأولى كذلك فعلت وتفعل العديد من الأمهات قبلها وبعدها.
أُغمِضُ
عينيَّ في هواء الربيع المنعش، فأعودُ إلى طفولتي إلى أمي، وأرى يديها تزهو لفرحتي
حين قُدتُ دراجتي للمرة الأولى، حين دخلتُ المدرسة، حين تخرجتُ من الثانوية، والجامعة،
حين تَسَلَّمتُ وظيفتي الأولى، وتزوجتُ، وصرت أمًا، وأنجبتُ أراها معي، معنا.
يقرب
ذو السنوات الخمس منا يطوقنا معًا بذراعيه وينسيني ما حولي.
تُرى،
لماذا نحن الأمهات لا ندرك مدى حب أمهاتنا لنا وآبائنا إلا عندما نصير أمهات وآباء؟!
ابني اليوم صار عمره سنوات خمساً، يقود دراجته وحده، لا تسرع يا حبيبي مازال الطريق أمامك طويلاً.
إقرأ أيضاً:
قصة للأطفال: أشياء الجدة سعيدة
قصة للأطفال: من أين تأتي الأحلام
قصة للأطفال: خطة النجمة الصغيرة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق