تسمّر الرجال في أماكنهم حاملين معاول ومجاريف، وهم
على أهبة الاستعداد داخل نفق مضاء بشكل جيد تحت الريف المكسيكي، بإمكانهم سماع
اهتزاز أحدثته سيارة مارة من فوقهم، وهم حذرون بشكل خاص من أن لا يحدثوا أي ضجيج
من شأنه أن يكشف عن وجودهم.. يتوقفون عن العمل لبرهة بينما تمر دورية حراس السجن
من فوقهم.
على عمق 10 أمتار تحت ساحة السجن الأساسية، يكاد خطر
انكشافهم يكون معدومًا، لكن بعد عدة أشهر من أعمال حفر النفق السرية؛ لا يمكنهم
المجازفة أبدًا، خاصة عندما أصبحوا قريبين جدا من تحقيق هدفهم: وهو الوصول إلى
زنزانة أشهر تاجر مخدرات مكسيكي: (خواكين إل تشابو غوزمان).
على
مدى عدة أشهر، قام هؤلاء الرجال بحفر نفق مخترقين صخورا صلبة مستعينين فقط بمعاول
وجواريف، وهم يعملون بأسرع ما تسمح لهم طاقاتهم به، ولكن بحذر شديد في نفس الوقت.
كانت
أعمال الحفر لتتقدم بسرعة أكبر لو كان بإمكانهم استخدام أدوات حفر أكثر عصرية
وآلاتٍ وعتادٍ، لكن ذلك من شأنه خلق ضجيج قد يكشف خطتهم، حيث قد يجذب هذا الأمر
الكثير من الاهتمام لمنطقة أعمالهم التي لا تبعد عن السجن الفدرالي المكسيكي الذي
يقبع فيه (إل تشابو) سوى كيلومتر ونصف.
قبل
البت في عملية حفر النفق، اشترى كارتيل المخدرات المكسيكي الذي يترأسه (إل تشابو)
قطعة أرض صغيرة قريبة من السجن، وهناك شرعوا في بناء منزلين صغيرين كغطاء على
عملية حفر النفق.
لم
تكتمل أبدًا أعمال البناء على المنزلين لأنهما لم يكن مقدرا لهما ذلك منذ البداية،
وكان المراد بهما التغطية على أعمال الحفر أو أي ضجيج قد يصدر عنها.
كان
طاقم الحفر يواجه ضغطا رهيبا يتجلى في نافذة الزمن الضيقة، حيث كانوا دائمًا منشغلين
بإكمال الأعمال بأسرع وقت ممكن، وذلك راجع لتاريخ (إل تشابو) الحافل بعمليات
الفرار من السجون، لذا كانت الحكومة المكسيكية مستعدة في أي لحظة لنقله إلى سجن
آخر من أجل إفشال أي مخطط لمحاولة تهريبه.
كل
يوم كان فيه حفارو النفق يعملون جاهدين للوصول إلى زعيمهم؛ كان يومًا آخر توشك فيه
العملية كلها على الفشل، وكان عندئذ التخطيط لعملية هروب جديدة من سجن آخر أمرًا
لا مهرب منه.
لكن
المخاطر لا تتوقف هنا، حيث بدأ المنزلان غير المكتملان يجذبان اهتمام المسؤولين
المحليين والقرويين الفضوليين الذين يسكنون المنطقة، حيث راح بعض منهم يتساءل عمن
قد يبدأ أعمال بناء منزلين في أرض خاوية ثم يتوقف في منتصف الأشغال.
كان
الوقت ينفذ منهم، وكان الضغط يتزايد. داخل زنزانته؛ كان (إل تشابو) يلعب دور
السجين النموذجي، على الرغم من تاريخه الطويل في ممارسة بعض أكثر أعمال العنف
وحشية في تاريخ المكسيك، فقد حافظ على موقف ودود تجاه حراس السجن وزملائه المساجين.
كان
حريصًا على الحذر في كل كلمة يتفوه بها أثناء محادثاته الهاتفية، لأن إدارة السجن
كانت تتنصت عليه، كما كانت تتفقد بريده الوارد والصادر، غير أنها لم تعثر على أدنى
تلميح عما كان يجري في الخارج من تخطيط لإخراجه. وبحلول هذا الزمن، كان (إل تشابو)
قد تحول إلى محترف حقيقي وشخص صبور جدا، لكن صبره كان ينفذ.
لقد
واجه حفارو النفق مهمة شاقة منذ البداية، وكانوا يعلمون جيدا أنه يجب عليهم التحرك
بسرعة كبيرة. وعلى الرغم من كل ذلك الكم الهائل من الضغط المسلط عليهم، فلم
يتمكنوا فقط من الوصول إلى زعيمهم (إل تشابو) قبل أن تقوم السلطات بنقله إلى سجن
آخر، بل تمكنوا من القيام بذلك في غضون 16 شهرًا فقط من دخوله السجن.
كان
النفق الذي حفروه متطورا جدا، فقد أثار ذهول السلطات التي لاحظت لاحقًا أن نفقا من
هذا الحجم كان لابد أن يستغرق على الأقل بين 18 شهرًا إلى عامين حتى يكتمل بناؤه،
حيث كانت جدرانه تدعّم بدعائم خشبية كلما اقتضت الضرورة ذلك، وكان مزودا بمولد يضخ
الهواء من الخارج عبر نظام تهوية بطول 1.4 كيلومتر للإبقاء على النفق غنيا
بالأكسجين اللازم.
على
الأرضية، وضع حفارو النفق سكة حديدية واستخدموا دراجة نارية معدّلة لجر عربتين
اثنتين عبر السكة، هاتان العربتان اللتان كان يتم ملؤهما بالتراب الناجم عن عملية
الحفر لنقله إلى خارج النفق، كما كان مرادًا من تلك الدراجة أن يركبها (إل تشابو)
بمجرد الوصول إليه خارجا من النفق بأقصى سرعة ممكنة.
كان
يتعين نقل كل تلك الكميات الكبيرة من التراب إلى مكان ما بعيدا عن الأنظار، وبدلا
من إلقائه في الأرجاء في كومات كبيرة، قام الحفارون بدهاء بنثره على الأرض التي
اشتراها الكارتيل وبنا عليها المنزلين السابقين. مع ذلك كان ما زال هناك خطر أن
يلاحظ المسؤولون المحليون أو المارة من السكان المحليين وجود تراب جديد بشكل دائم
في المنطقة.
فجأة،
وفي منتصف ليلة الثاني عشر من يوليو سنة 2015، سمع (إل تشابو) صوتا قادما من حمام
زنزانته. بعد لحظات، أزيل بلاط السيراميك من أرضية الحمام ليطل من الحفرة وجه صديق
يحيي تاجر المخدرات المسجون ويصطحبه إلى داخل النفق.
لم
يكن (إل تشابو) ليضيع ثانية واحدة من وقته الثمين هذا في الفرار، لذا هم بدخول
النفق على عمق عشرة أمتار في حفرة كان عرضها لا يتسع إلا لشخص واحد، لكن أسفل
النفق كان ارتفاعه كافيا ليسير فيه (إل تشابو) منتصب القامة دون الاضطرار للانحناء.
بعد
المشي بضعة أقدام داخل النفق، صعد (إل تشابو) على متن الدراجة النارية التي كانت
تجر عربتي نقل التراب إلى الخارج، فنقلته على السكة الحديدية عبر مسافة كيلومتر
ونصف داخل النفق إلى المخرج الآخر منه تحت أحد المنزلين غير مكتملي البناء.
غير
(إل تشابو) ملابس السجن وارتدى ملابس نظيفة، ثم صعد على متن شاحنة انطلقت بعيدا في
جنح الليل، تاركا خلفه نفقًا سريا بطول كيلومتر ونصف ونظام سجون وحكومة كاملة في
حيرة من أمرهم.
بعد
عدة شهور فقط من هروبه الشهير ذاك، كُشف عن مقر تواجد (تشابو) وعن مخبئه الآمن قبل
أسابيع من وصوله إليه بسبب خطأ ارتكبه أحد أتباعه، حيث رصده السكان المحليون وهو
يقوم بشراء كميات كبيرة من الطعام ليحضّرها للزعيم وأتباعه من القتلة المأجورين.
استجابة
لنداء عن وجود عدد كبير من الرجال مدججين بالأسلحة؛ وضع المسؤولون المكسيكيون
المنزل الآمن الخاص بـ(تشابو) تحت المراقبة، كما تنصتوا على الاتصالات الصادرة منه
والواردة إليه، وهناك سمعوا عبارة: ”الجدة قادمة“، مما يعني أن الأمر يتعلق بشخصية
ذات أهمية كبيرة، أي (إل تشابو).
انتظر
المسؤولون وراحوا يترقبون الفرصة الملائمة ليطبقوا على تاجر المخدرات الشهير، وبعد
شهر من الترقب، أغارت فرقة من القوات الخاصة التابعة للجيش المكسيكي على المنزل
وقتلوا عدة من الحراس الشخصيين لـ(تشابو)، غير أن هذا الأخير تمكن من الفرار عبر
نفق مرة أخرى تحت هذا المنزل برفقة مساعده الأول، فخرج الإثنان على بعد كيلومتر من
المنزل وسط الطريق.
هناك
قاموا بسرقة سيارة بعد تهديد صاحبها بالسلاح، وبعد فرارهما أبلغ صاحب السيارة عما
تعرض له فنشرت الشرطة تعميمًا عن مواصفات السيارة، ولم يمض وقت طويل حتى ألقت
عناصر الشرطة الفدرالية القبض على (تشابو) ومساعده مرة أخرى.
حاول
(تشابو) رشوة عناصر الشرطة الأربعة الذين ألقوا عليه القبض وراح يغريهم بمكافئات
مالية ضخمة، لكنه بعد وقت قصير أدرك أنه بصدد التعامل مع نوع جديد من الشرطة
الفدرالية، نوع غير قابل للشراء.
بعد
أن رفض رجال الشرطة الأربعة كلهم عروض (تشابو)، بدأ هذا الأخير يهددهم بأنهم
سيموتون جميعًا. أرسل رجال الشرطة الأربعة صوراً لـ(تشابو) لرؤسائهم حتى يؤكدوا
هويته، فتم إبلاغهم بأنه الشخص المنشود وبأن 40 رجل عصابات تابع له مدججين بالسلاح
قادمون إليهم لتخليصه منهم.
مع
كون القوات الخاصة ما زالت تنهي مهمتها في المنزل الآمن الذي فرّ منه (تشابو)،
أُمر رجال الشرطة بأن ينقلوه إلى نزل قريب وينتظروا وصول الدعم.
تموقع
رجال الشرطة الأربعة داخل غرفة فارغة مع (تشابو) ومساعده وحصّنوا مواقعهم وجهزوا
أنفسهم لمواجهة دامية مع القتلة المأجورين، كل هذا و(تشابو) يقهقه ساخرًا منهم
قائلا بأنهم سيموتون اليوم، وبعدها سيبيد عائلاتهم عن بكرة أبيها، وفجأة وصلت
قافلة من السيارات إلى النزل، وبعدها بلحظات وصلت عربات الجيش حاملة أفراد القوات
الخاصة الذين قاموا بتأمين الموقع ففر رجال العصابات على الفور.
بعد
دقائق، تم جرّ (تشابو) الذي بدت عليه ملامح الخيبة داخل شاحنة مغلقة مكبلا
بالأغلال وتم الإسراع به إلى مطار قريب.
لن
يستطيع (تشابو) بعدها الهروب من أي سجن في المستقبل، وبعد سنتين من سجنه في
المكسيك، تم نقله إلى الولايات المتحدة ليحاكم هناك، ومنه تقوَّضت جميع آماله في
أن يرى نور الحرية مجدداً في حياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق