الصفحات

الثلاثاء، 20 أغسطس 2024

• نوادر العرب: مكر الملك وحكمة المرأة العفيفة زوجة فيروز

خِيانَةٌ

يُحْكَى أَنَّهُ فِي سَالِفِ الزَّمَانِ، فِي أَرْضٍ بَعِيدَةٍ، كَانَ هُنَاكَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الزَّمَانِ، قَدْ طَلَعَ يَوْمًا إِلَى أَعْلَى قَصْرِهِ لِيَتَأَمَّلَ الْأُفُقَ وَيَسْتَمْتِعَ بِجَمَالِ الْمَكَانِ. فَإِذَا بِهِ يُبْصِرُ امْرَأَةً بَدِيعَةَ الْحُسْنِ، تَتَلَأْلَأُ جَمَالًا وَبَهَاءً كَالْقَمَرِ فِي تَمَامِهِ، وَاقِفَةً عَلَى سَطْحِ دَارٍ تُجَاوِرُ قَصْرَهُ الْعَالِي. فَمَالَ قَلْبُهُ إِلَيْهَا وَشَغَفَ بِجَمَالِهَا أَيَّمَا شَغَفٍ.

اِلْتَفَتَ الْمَلِكُ إِلَى جَارِيَتِهِ وَقَالَ: "لِمَنْ تَكُونُ هَذِهِ الْحَسْنَاءُ، يَا جَارِيَةُ؟" فَقَالَتْ: "يَا مَوْلَايَ، إِنَّهَا زَوْجَةُ غُلَامِكَ فِيرُوزُ." هُنَا دَخَلَهُ مِنَ الْوَجْدِ مَا دَخَلَهُ، وَاِشْتَعَلَتْ نَارُ الْهَوَى فِي قَلْبِهِ.

نَزَلَ الْمَلِكُ وَهُوَ مَغْمُورٌ بِالْحُبِّ وَالْفِتْنَةِ، وَاِسْتَدْعَى فِيرُوزَ، وَقَالَ لَهُ: "يَا فِيرُوزُ!" قَالَ فِيرُوزُ: "لَبَّيْكَ يَا مَوْلَايَ." قَالَ الْمَلِكُ: "خُذْ هَذَا الْكِتَابَ وَامْضِ بِهِ إِلَى الْبِلَادِ الْفُلَانِيَّةِ، وَآتِنِي بِالْجَوَابِ."

تَوَجَّهَ فِيرُوزُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَضَعَ الْكِتَابَ تَحْتَ رَأْسِهِ، وَجَهَّزَ أَمْرَهُ، ثُمَّ بَاتَ لَيْلَتَهُ هَادِئَ الْبَالِ. وَعِنْدَ الْفَجْرِ، وَدَّعَ أَهْلَهُ وَسَارَ قَاصِدًا قَضَاءَ حَاجَةِ الْمَلِكِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا دَبَّرَ لَهُ الْمَلِكُ مِنْ مَكِيدَةٍ.

أَمَّا الْمَلِكُ، فَمَا أَنْ غَادَرَ فِيرُوزُ الْقَصْرَ، حَتَّى تَسَلَّلَ إِلَى دَارِ فِيرُوزَ مُتَخَفِّيًا، وَطَرَقَ الْبَابَ طَرْقًا خَفِيفًا. قَالَتْ زَوْجَةُ فِيرُوزَ مِنْ خَلْفِ الْبَابِ: "مَنْ الطَّارِقُ؟" قَالَ: "أَنَا الْمَلِكُ، سَيِّدُ زَوْجِكِ."

فَتَحَتِ الْبَابَ وَدَعَتْهُ إِلَى الدَّاخِلِ، فَجَاءَ الْمَلِكُ وَجَلَسَ، فَقَالَتْ: "أَرَى مَوْلَايَ الْيَوْمَ ضَيْفًا لَدَيْنَا." قَالَ: "نَعَمْ، زَائِرٌ أَتَيْتُ." فَقَالَتْ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَارَةِ، فَمَا أَظُنُّ فِيهَا خَيْرًا." فَقَالَ: "وَيْحَكِ، أَلَا تَعْرِفِينَ مَنْ أَنَا؟ أَنَا الْمَلِكُ، سَيِّدُ زَوْجِكِ!"

أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ بِحِكْمَةٍ وَثَبَاتٍ: "بَلْ عَرَفْتُكَ يَا مَوْلَايَ، وَعَلِمْتُ أَنَّكَ الْمَلِكُ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ الْحُكَمَاءُ فِي السَّابِقِ:

سَأَتْرُكُ مَاءَكُمْ مِنْ غَيْرِ وِرْدٍ     وَذَاكَ لِكَثْرَةِ الْوُرَّادِ فِيهِ

إِذَا سَقَطَ الذُّبَابُ عَلَى طَعَامٍ     رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي تَشْتَهِيهِ

وَتَجْتَنِبُ الْأُسُودُ وِرْدَ مَاءٍ     إِذَا كَانَ الْكِلَابُ وَلَغْنَ فِيهِ

وَيَرْتَجِعُ الْكَرِيمُ خَمِيصَ بَطْنٍ     وَلَا يَرْضَى مُسَاهَمَةَ السَّفِيهِ

وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ، فَمَا أَحْسَنَهُ:

قُلْ لِلَّذِي شَفَّهُ الْغَرَامُ بِنَا     وَصَاحِبَ الْغَدْرِ غَيْرُ مَصْحُوبِ

وَاللهِ لَا قَالَ قَائِلٌ أَبَدًا     قَدْ أَكَلَ اللَّيْثُ فَضْلَةَ الذِّئْبِ

ثُمَّ أَضَافَتْ قَائِلَةً: "يَا مَوْلَايَ، أَتَأْتِي إِلَى مَوْضِعِ شُرْبِ كَلْبِكَ وَتَشْرَبُ مِنْهُ؟"

اِسْتَحْيَا الْمَلِكُ مِنْ كَلَامِهَا الْبَلِيغِ، فَخَرَجَ مُسْرِعًا تَارِكًا نَعْلَهُ خَلْفَهُ، نَاسِيًا مَا جَاءَ مِنْ أَجْلِهِ.

وَفِي هَذِهِ الْأَثْنَاءِ، تَفَقَّدَ فِيرُوزُ الْكِتَابَ الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ الْمَلِكُ، فَلَمْ يَجِدْهُ مَعَهُ، فَتَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَهُ تَحْتَ فِرَاشِهِ. عَادَ مُسْرِعًا إِلَى دَارِهِ، فَوَجَدَ نَعْلَ الْمَلِكِ فِيهَا. هُنَا اِهْتَزَّ قَلْبُهُ وَفَهِمَ مَا دَبَّرَهُ الْمَلِكُ. لَكِنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا.

أَخَذَ الْكِتَابَ وَسَارَ فِي طَرِيقِهِ، فَقَضَى حَاجَةَ الْمَلِكِ وَعَادَ إِلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ الْمَلِكُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.

عَادَ فِيرُوزُ إِلَى السُّوقِ، وَاشْتَرَى هَدَايَا ثَمِينَةً لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: "يَا زَوْجَتِي الْعَزِيزَةَ، قُومِي نَذْهَبْ إِلَى أَهْلِكِ، فَقَدْ أَنْعَمَ الْمَلِكُ عَلَيْنَا، وَأُرِيدُكِ أَنْ تُظْهِرِي لَهُمْ كَرَمَ الْمَلِكِ." فَقَالَتْ: "حُبًّا وَكَرَامَةً."

ذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِ أَهْلِهَا وَقَضَتْ عِنْدَهُمْ شَهْرًا كَامِلًا، بَيْنَمَا زَوْجُهَا لَمْ يَذْكُرْهَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا.

فَأَتَى أَخُوهَا إِلَى فِيرُوزَ وَقَالَ لَهُ: "يَا فِيرُوزُ، إِمَّا أَنْ تُخْبِرَنَا بِسَبَبِ غَضَبِكَ، وَإِمَّا أَنْ نُحَاكِمَكَ إِلَى الْمَلِكِ."

فَأَجَابَ فِيرُوزُ: "إِنْ شِئْتُمْ فَافْعَلُوا، فَمَا تَرَكْتُ لَهَا حَقًّا عَلَيَّ."

ذَهَبُوا إِلَى الْقَاضِي، وَكَانَ يَجْلِسُ بِجَانِبِ الْمَلِكِ. فَقَالَ أَخُو الزَّوْجَةِ: "أَيُّهَا الْقَاضِي، إِنِّي أَجَّرْتُ هَذَا الْغُلَامَ بُسْتَانًا، لَكِنَّهُ أَكَلَ ثِمَارَهُ وَخَرَّبَ بِئْرَهُ وَهَدَمَ حِيطَانَهُ."

اِلْتَفَتَ الْقَاضِي إِلَى فِيرُوزَ وَقَالَ: "مَا قَوْلُكَ يَا غُلَامُ؟"

أَجَابَ فِيرُوزُ: "أَيُّهَا الْقَاضِي، لَقَدْ سَلَّمْتُ الْبُسْتَانَ كَمَا تَسَلَّمْتُهُ، بَلْ وَأَفْضَلَ."

فَقَالَ الْقَاضِي لِأَخِ الزَّوْجَةِ: "هَلْ سَلَّمَ إِلَيْكَ الْبُسْتَانَ كَمَا كَانَ؟"

أَجَابَ أَخُو الزَّوْجَةِ: "نَعَمْ، وَلَكِنَّهُ يَرْفُضُ إِرْجَاعَهُ."

قَالَ الْقَاضِي: "وَمَا قَوْلُكَ يَا فِيرُوزُ؟"

أَجَابَ فِيرُوزُ: "يَا مَوْلَايَ، لَمْ أُرْجِعِ الْبُسْتَانَ كَرَاهِيَةً فِيهِ، وَلَكِنَّنِي وَجَدْتُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ أَثَرَ الْأَسَدِ فِي الْبُسْتَانِ، فَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي، فَقَرَّرْتُ أَلَّا أَدْخُلَهُ إِكْرَامًا لِلْأَسَدِ."

حِينَئِذٍ اِسْتَوَى الْمَلِكُ جَالِسًا وَقَالَ: "اِرْجِعْ يَا فِيرُوزُ إِلَى بُسْتَانِكَ مُطْمَئِنًّا، فَالْأَسَدُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ أَثَرًا، وَلَا اِلْتَمَسَ مِنْهُ شَيْئًا، وَخَرَجَ دُونَ أَنْ يُسَبِّبَ أَيَّ ضَرَرٍ."

عَادَ فِيرُوزُ إِلَى دَارِهِ، وَرَدَّ زَوْجَتَهُ، وَأَبْقَى الْأَمْرَ سِرًّا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ، لَا الْقَاضِي وَلَا غَيْرُهُ.

 إقرأ أيضاً:

نوادر العرب: خالد بن عبدالله القسري مع الشاب السارق

نوادر العرب: قصة عقد اللؤلؤ، أبو بكر الأنصار

قصة وحكمة: الرجل والثعبان

قصة وحكمة: الأرانب والضفادع

قصة وحكمة: الأيل عند النهر

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق