الصفحات

الجمعة، 26 يونيو 2020

• قصة حاكم: مروّضة الوحوش على عرش قسطنطين


لم يكن دورها في السيرك أكثر من مشاركة أبيها وهو يروّض الوحوش ويداعبها ويضع الصغيرة على ظهورها أثناء ممارسة ألعابه مع الحيوانات، وإذ لم يكن من الممكن أن تحل محل أبيها بعد أن سقط صريع ضربة قاصمة من دُبٍّ جبّار أراد أن ينفرد بالطفلة، فأنقذها من بين مخالبه، ولكن بعد أن سقط هو نفسه صريعاً.

ولم يجد أصحاب السيرك إلا أن يستغنوا عن الطفلة تيودورا وأمها وشقيقتيها دون أن يحصلن على ما يقيم أودهن، فقد تفرّقن جميعاً بحثاً عن لقمة العيش، ووجدت هي نفسها على قارعة الطريق تمد يدها لأي إنسان يعطف عليها حتى التقطها صاحب سيرك متنقل في القسطنطينية لتقوم ببعض الأعمال التافهة لقاء أجر زهيد. ولكن الأجر القليل الذي كانت تحصل عليه الصغيرة تيودورا لم يكن ليسد الرمق، فهربت من السيرك لتجد نفسها في طريق العذاب على شواطئ البوسفور، حيث كانت تلقي بجسدها المرهق على أي أريكة لتنام. وفجأة وجدت نفسها بين براثن عدد من أثرياء الشباب الذين انقضّوا عليها. ورغم صرخات الاستنجاد لم يهتم أحد من أبناء الشعب بالاقتراب لإنقاذها، بل كانوا يتلذذون بالمشهد دون أي اهتمام وهو ما أفقدها بعد ذلك بسنين أي عطف على الجميع.
وفي الشوارع الخلفية للمدينة الكبيرة، حاولت أن تجد عملاً في مسرح صغير راحت تقوم فيه بتمثيليات تافهة لم تستطع أن تستدر من ورائها تصفيق المشاهدين مما أفقدها مرة أخرى العمل في المسرح. واعتمدت رأسها بين كفيها وراحت تفكر في المصير، فلم تجد أمامها سوى طريق واحد من اثنين: إما الانتحار أو الدير.
فأما الطريق الأول فلم تجد في أعماقها جرأة عليه. وأما الثاني؟!
دخلت تيودورا الدير وبدت كأنها في عفاف عذراء، ولكنها لم تطق الأمر طويلاً، فانطلقت هاربة إلى المدينة حيث لم تجد أمامها سوى بانديتا الراقصة العجوز التي كانت في شبابها من محظيات جستنيان ولي عهد الإمبراطورية، ولرفقة الزمالة في المسرح، استطاعت أن تحصل منها على خطاب توصية إليه ليساعدها على العمل في المسرح، ووضعت الفتاة الخطاب في صدرها والتمست الطريق إلى القصر لتلتقي بجستنيان.
وكان مساء وولي العهد جالس على مكتبه منكبّاً على شئون الدولة، إذ أحس بحركة خلفه، قطَّب لها جبينه وتساءَل في ضيق عمّن هناك، ولما لم يجبه أحد أدار رأسه في هدوء ولمحها وهي تفتح صدرها لتخرج خطاب التوصية. وأحسّ في أعماقه بما يشبه انقضاض الصاعقة، فقد كانت في كامل أنوثتها تطل إليه بوجهها المليح وعينيها اللتين تبعثان الإغراء. وهمس ولي العهد متسائلاً: كيف استطاعت الدخول إلى مكتبه، وسمعها تجيب أنها جاءت من النافذة المطلة على الحديقة. وعاد يهمس من جديد وقد أخذ يسألها عمّا تريد. وأجابته: تشفّع لي يا مولاي لأعود إلى المسرح لأعيش، ولو أني أكره ذلك الجو البغيض، والتقت عيونهما في صمت، ثم عاد جستنيان يقترب منها وهي تبدو كأنها خجلى، فطوّقها بذراعيه وهو يهمس: لن تعودي إلى هناك، بل ستظلين هنا معي..!
واستمرت تيودورا تعيش إلى جانب ولي العهد دون أن تعبأ بنظرات الاحتقار داخل القصر، وإن كان جستنيان يقسم لها دائماً بأنه سيرفع عنها هذا الظلم والاحتقار متى استقرت الإمبراطورة العاتية زوجة العم في قبرها. ولم يبق الوقت طويلاً، فقد ماتت الإمبراطورة وخلا القلب لولي العهد الذي عشق المرأة، واستطاع أن يقنع عمه الإمبراطور بتنقيح قوانين الزواج التي حرّمت من قبل قيام رابطة الزواج بين حياة الخاصة والعامة. وخرج القانون الجديد وصلب مواده لتحقيق رغبات خليلة ولي العهد.
وفي الحق لقد خرس الشعب الذي طالما هتف بسقوط "مندورا" أو لعبة الشيطان، التي لم تكن في نظره تستحق أن يطلق عليها اسم "تيودورا" ومعناها هبة الرحمن. ولم يسكت الشعب بكل طوائفه عن السخرية من الزوجين بعد أن صارا بين يوم وليلة إمبراطورين على دولة الروم البيزنطية.
والواقع أن تيودورا قد عرفت كيف تكون صاحبة قدرة وجبروت، تفرض نفسها وتجمع بين يديها كل سلطات الإمبراطورية، وغدا الملك لاشيء على الإطلاق سوى اللقب. فهي تتدخل في شئون الملك كلها وتدس بأنفها في مهام الأمور وخطيرها، وتعدّل القوانين على الطريقة التي يحلو لها أن تسير فيها، كل ذلك باسم جستنيان الذي عرفه الشعب على أنه الإمبراطور، ثم عرفه على أنه زوج الإمبراطورة..!
وكان حكم الإمبراطورة سلاسل متتابعة للانتقام من هؤلاء الذين أفعموها زراية واحتقاراً وأذاقوها العذاب والحرمان. فما كانت تيودورا لتنسى أنها كانت تحصل على القوت من خلال اللعنات والعذاب. وهي تذكر جيداً هذه اللعنات الصاخبة التي طالما سمعتها من أفواه ذلك الشعب قبل أن يبني بها الإمبراطور.
وهي لم تنس قط تلك الليلة التي اجتمع فيها عليها عند شاطئ البوسفور الشباب الأثرياء يعتدون عليها وتضيع استغاثاتها بين ضحكات أبناء الشعب الذين استنجدت بهم دون أن يحاولوا إنقاذها أو إبعاد السفهاء عنها، إنه إذن المجتمع كله، رموها بالعار واستهانوا بها ولعنوها حتى بعد أن أصبحت إمبراطورة. وإذا كانوا كلهم قد لطّخوها، فهي أيضاً ستلقي بهم من حالق.
وكان أشراف ذلك الزمان على القمة من قائمة تيودورا السوداء، وبدأت تدفع بهم أولاً نحو الفقر، فهي تسطو على أملاكهم وتجرّدهم من قصورهم، وتستولي على ما ورثوه من نفائس وثروات. وعندما يتم ذلك كله تبدو وكأنها تعطف عليهم وتألم لما انحدروا إليه، وتشفق عليهم أن يستمروا في الحياة يقاسون البؤس بعد العز، فلا تجد من سبيل إلا بالقضاء على حياتهم سراعاً إنقاذاً لهم من موت بطيء يحل بهم لو استمروا يعيشون!!
واستمرت تيودورا تعيش وتنتقم وتبدع في إخراج المآسي والمسرحيات، وإذا كان كل ذلك قد انصبّ أول الأمر على الأغنياء والأشراف، فقد جاء الدور بعد ذلك على الشعب الذي أبغضها كما لم يبغض ملكاً من قبل. وبدأت تيودورا تلعب دورها الجديد بإتقان، ووجد الشعب نفسه مثقلاً تحت أعباء هائلة ضخمة من الضرائب لا تكاد تُحصى. وبدأ الهمس يعلو، ثم راح الهمس يتطور ليصير هديراً على أتم استعداد ليحطم كل ما أمامه من عقبات إذا هو وجد أول فرصة للانفجار، على أن هذه الفرصة ما أسرع ما جاءت. وطلع صباح ذات يوم بأن الإمبراطورة قد أصدرت أمراً بتخفيض ما يصرف من القمح للشعب إلى الثلث، وثارت الجماهير، وسارت في الطريق إلى القصر تهتف بسقوط الإمبراطورة وإعدام العاهرة، وسمع جستنيان الهتافات، فأسرع ليختفي في إحدى غرف القصر، أما هي، فقد أنهضها الضجيج من الفراش الذي ألزمها به داء السرطان، وفوجئ الشعب بالإمبراطورة تظهر لهم في شرفة القصر مستندة إلى وصيفتها، واستمعت إلى الجماهير وهي تهتف مطالبة بالخبز.
وابتسمت وهي تعدهم بالخبز وما هو أكثر من الخبز، وعرض كبير يقام لهم في الميدان، وفي اليوم التالي، أقيم الحفل، وخلال العرض عادت الجماهير تشرئب بالأعناق، واستمر الجنود يتشكلون في أقواس تحيط بالميدان، وبدأ العرض.
وقبل نهايته، انهالت السهام القاتلة على الشعب الأعزل المبهوت، ولم يهرب من الميدان أحد، وجرت الدماء أنهاراً في طرقات المدينة التي شهدت في ليلة واحدة مصرع ثلاثين ألفاً من السكان. أما في القصر، فقد جلست تيودورا على سرير مرضها تبتسم بعد أن عرفت كيف تنتقم من الشعب، وأغلق فم الشعب وانهارت يده. ولكن كانت هناك يد الله، الخالدة أبداً.
وظلت تيودورا تعيش وفوق صدرها كابوس، كابوس هائل ضخم، كابوس المرض الثقيل الذي لم تعمل له حساباً قط يوم أن كانت الدنيا مغامرة رحبة، أما اليوم، فلا شيء غير العذاب الدائم من السرطان الذي راح يسري في دم الطاغية، فلا تستطيع له صدّاً... إلا بالموت.

إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق