الصفحات

الجمعة، 20 مارس 2020

• قصة نفسية: لو ظل حلماً كان أفضل

أذكر، كنت طالباً في المرحلة الإعدادية حين لَمَحتُه للمرة الأولى، كان سواده جليلاً، تُوَشِّيه خيوطٌ ذهبية لامعة، وتستطيل على غطائه حمالةٌ نحيلةٌ من الفضة، أفرده البائعُ دون غيره من الأقلام- وسط مساحة من الساتان الأبيض ليزيد في إظهار بهائه وتَفَرُّدِه!

ومنذ تلك النظرة فاضت فِيَّ شهوةُ امتلاكه، وصار المحل- المجاور لمدرستي- مَحَجَّاً لي في الذهاب والإياب، أتوقف لحظاتٍ أمام الواجهة لكي أتأمَّلُه، وأَتَمَلَّى في تفاصيله، غارقاً بعدها في متعة امتلاكه، وضَمِّه بين أصابعي، أحكي له ما في داخلي، فينقله بانسيابٍ على الورق ومن تلقائه!!
ولإحساسي بأنني صاحبُه المؤجَّل، كنت أعرضه على أصدقائي، طالباً رأيهم فيه، فيشهقون في دهشتهم وإعجابهم، لكنهم لا ينسون أن يلاحظوا ارتفاع ثمنه فوق طاقة أيٍّ منا.
وثمنه كان مرتفعاً فعلاً بل إنه أبهظ من قدرتي على إقناع والدي باقتنائه لي. بَيْدَ أنني لهوسي به "وقد تحول إعجابي إلى هوس" رُحتُ أرجو والدي وأتوسل إليه كي يشتريه. وحين خابت رجاءاتي لجأت إلى "مساومة" قَدَّرْتُ نجاحَها، وهي أن يَعِدَني بالحصول عليه إذا ما تقوقت فى امتحاناتي فَقَبِل، وانكببتُ على الدراسة، وتفوقت!
وَبَرَّ والدي بوعده، فأخذني إلى المكتبة، وطلبه من البائع الذي رحّبَ بنا، ثم- تناول علبة من الرف خلفه وأخرج منهـا قلماً وقدَّمه لكنني بُغِتتُ به تماماً، لم يكن كقلم الواجهة !
وبرغم تطمينات أبي، بعد معاودة النظر ومقارنته، وتأكيدات البائع بأنه من العلبة ذاتها، فإن إحساساً باختلافه ظل ينتابني كا دفعني لرجاء البائع أن يعطيني قلم الواجهة نفسه .
وامتثلَ صاحبُ المكتبة على مضض، فمدَّ يدَه إلى الواجهة، بعد أن تبادلَ مع والدي نظرات استغراب، وسألني "أهذا ما تريد"؟ قلت لهوفاً "بلى... بلى"، فأخرجه، بعد جهد، وقدّمه قائلاً: "مبروك" فضممتُه بشدة، بين مُصَدِّقٍ ومُكَذِّب، وخرجنا لا تَسَعُني الدنيا من الفرح .
ولا أدري كيف حدث ما حدث بعد ذلك !
فما لم أصدقه أبداً، ولا جرأتُ على البوح به لوالدي، وما ظل يسكنني إلى يومنا هذا- بعد أن رحل والدي وكبرتُ، وصرت أباً يشتري لأبنائه الأقلام والدفاتر وغيرهما- هو ذلك الشعور الممض بأن القلم الذي حصلت عليه، وبات ملكي أخيراً، لم يكن ذاك الذي لمحته في الواجهة يوماً، وتعلقت به، وكان هاجسي الأجمل!
في إحساسي لم يكن هو بالمرة. شيء ما تغير فيه. خبا بريقه ربما، أو ربما حال لونه، أو تقلص. لا أدري ما شعرت به، بُعيد امتلاكي له، إنه لم يكن هو عينه بالذات الذي قضيت أياماً وشهوراً أتأمل فيه، وأتملاه، وأحلم بضمه كلما ذهبت إلى المدرسة وأُبْتُ منهـا !!
إبراهيم صموئيل
إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق