من محظية إلى إمبراطورة.
ومن الفراش إلى العرش. كانت هذه رحلة " تزوهسي" حتى تستولي على واحد من
أكبر عروش الدنيا وتكون شاهدًا على التحولات والعلل التي عانت منها آخر
الإمبراطوريات العظمى.
أخذتها رعشة باردة وهي
تسير في خطوات مضطربة إلى جوار الإمبراطورة الوالدة، لتنتقل من قصر الراحة حيث
عرشها الذي يغلب عليه اللون الأحمر، لتدخل بها إلى قصر الطهارة السماوية حيث مخدع
ولدها إمبراطور الصين، المزخرف بالمباخر والسلاحف البرونزية وطائر الفينيق. وعند
باب قاعة السكن الإمبراطوري أطلت أمامها فإذا الإمبراطور ينحني راكعًا أمام أمه
وهو يستقبلها، قبل أن ينهض ليحدق فيها بنظرات ملؤها الإعجاب. ووجدت نفسها تركع
مسرعة دون أن تجرؤ على أن تفتح عينيها أو ترفعهما، بينما الإمبراطورة الوالدة
تقدمها لولدها، وهي تؤكد له أنها الأجمل بين الفتيات الثماني والعشرين اللاتي
اختارتهن من بين ستين فتاةً، تم ترشيحهن، ليكن محظيات للإمبراطور، تنفيذًا للمرسوم
الذي أصدره بأن تحضر إلى الحريم كل فتاة منشورية بلغت سن الانتخاب.. !
ولم تكن الفتاة "يهونللة" ذات
الأربعة عشر ربيعًا لتحلم أبدًا بأنها يمكن أن تكون إحدى الزوجات الثانويات
للإمبراطور شيان فنج.. وإنها لتدرك أنها ليست من أسرة ملكية، وإن كانت تنتمي لأقدم
قبيلةً في منشوريا. كما أنها تتذكر أن أمها الأرملة لم تكن تسمح لها. شأنها شأن
جميع أبناء كبار الموظفين المنشوريين. بتجاوز باب حديقة الدار حيث كانت الفتاة
تقضي أكثر أوقاتها. وبين جدران البيت وزهور الحديقة، حذقت الفتاة الصغيرة فنون
الأدب والشعر والتاريخ الذي كان له أعظم نصيب من اهتمامها. ولم تكن تدري أن أحد
أحلام، أمها أن تجد ابنتها طريقها يومًا إلى المدينة المحرمة في بكين، حيث قصور
الإمبراطور، لتكون إحدى المحظيات الملكيات.
ظلت الفتاة في ركعتها أمام الإمبراطور،
وهي تنصت إلى الأم الملكية التي راحت تشيد بها وتبدي إعجابها بأخلاقها بعد أن
فحصتها جيدًا بصفتها حماة الزوجات الملكيات.
ومرت بذاكرة " يهونللة " -في
لحظة- هذه الصور المتتابعة التي فتحت عليها عينيها وهي تواجه، مع صويحباتها الستين
في موكبهن من منشوريا إلى بكين، تلك العصبة من برابرة الشمال الذين هاجموهن
لاختطافهن، لولا ضابط الحرس المنشوري الشاب المكلف من الإمبراطور باصطحابهن إلى
المدينة المحرمة. فقد تصدى هو ورجاله بكل جرأة وشجاعة للمهاجمين حتى قضوا عليهم.
وتنبهت الفتاة فجأةً إلى الإمبراطور يناديها
لتقترب منه، ويدعوها للجلوس عند قدميه. وتهز الأم الملكية رأسها في ابتسامة، وهي
تتمنى لولدها أن تستطيع هذه الفتاة الحلوة بجسدها الفائر أن تمنحه ولي العهد الذي
طالما تمناه.
لقد عرفت الفتاة كيف تكتسب رضاءها، خاصة
أن جمالها كان خير عون لها لدى الإمبراطور شيان فنج. لهذا عملت الحماة على ترقية
يهونللة! إلى مقام المحظية الأولى بين حريم الإمبراطور.
والحق، أن يهونللة قد حاولت منذ أصبحت
المحظية الأولى، أن تدفع الإمبراطور الشاب إلى اكتساب قلوب الناس، الذين كانوا
يستشعرون أن إمبراطورهم خامل كسول، حتى لقد توقعوا. لطول ما أصاب البلاد من ضعف
خلال حكمه دون أن ينجب وليا للعهد. أنه سيكون آخر أباطرة أسرة
"المانشو"، وكان هذا الاعتقاد الشعبي قد أدى إلى قيام محاولة انقلابية
عام 1853 للقضاء على الأسرة المالكة، قادها أحد القادة الوطنيين الثائرين. واستولى
الثوار على مدينة نانكنج. وأظهر الإمبراطور الضعف في مقاومة الثائرين مما جعلهم
يستعدون للزحف على العاصمة بكين.. !
وحين استشعرت المحظية الأولى، أن
الإمبراطور يفكر في الهرب، أظهرت معارضتها لموقفه، واستغلت تأثيرها عليه، وأشارت
بأن يتولى الضابط المنشوري لوكنج. الذي شهدت شجاعته بنفسها -قيادة قوات المقاومة
ضد الثائرين- ولم تجد ما يمنعها من العمل على دعوة الشعب لحماية الإمبراطور. وبدأ
الشعب يميل إلى المحظية الأولى لمساندة قائد المقاومة ضد الثائرين. وأفلح القائد
الجديد في إخماد الثورة، مما جعله موضع رضا الإمبراطور.
في ذلك الوقت كانت يهونللة قد أنجبت ولي
العهد. وأعاد ذلك إلى الناس طمأنينتهم إلى وجود وريث، وقبل أن ترحل الإمبراطورة
الوالدة، كانت قد عملت على ترقية أم ولي العهد، إلى مقام "الزوجة
الأولى" ليصبح مسماها "تزوهسي" وهو الاسم الذي عرفت به في التاريخ،
حتى بعد أن توغل بها العمر وأصبح الناس يثقون بحكمتها وقوة إرادتها، وأطلقوا عليها
لقب بوذا العجوز.. !
بعد أن قضت الإمبراطورة الأم لم يعد
لتزوهسي بين نساء البلاط سوى صديقتها ساكوتًا، وكانت هذه الفتاة رفيقة لها منذ
الصبا، جاءت معها من منشوريا ضمن المرشحات الملكيات. وبعد أن رقيت تزوهسي إلى مقام
الزوجة الأولى، استطاعت أن تقنع الإمبراطور بأن تكون صديقتها هي الزوجة الثانية.
ليطلق عليها لقب "تزوآن".
تمكنت تزوهسي بمهارتها من التدخل في شئون
الدولة بعد أن ازدادت ثقة الإمبراطور بها. فجعلها مستشارة البلاط في كل أمور
الحكومة الإمبراطورية.
وازداد نفوذ الزوجة الأولى، وهي لم تتجاوز
الخامسة والعشرين بعد، حين أصيب الإمبراطور فنج بفالج أقعده عن العمل. وبصفتها
والدة وريث العرش، أصبحت تزوهسي صاحبة الأمر والنهي، وارتفع شأنها وعلت كلمتها.
وبعد أن أصبحت تحمل مسئولية تولي أمور شعب الصين بكل ما فيه من تناقضات ومؤامرات
واضطرابات، لم يكن بد من أن تضطر إلى إحكام سيطرتها بالاتجاه إلى القسوة في الطبع
وتشديد الوطأة على القوى المتناحرة..
على الرغم من تمكن تزوهسي من السيطرة على
الموقف الداخلي، فإنها فوجئت بظروف خارجية لم تكن في الحسبان.
فقد عاود الإنجليز والفرنسيون حرب الأفيون
الثانية، طالبين من الصين أن تجعل تجارة الأفيون مشروعة، وأن تسمح لهم بالدخول في
مدن جديدة غير التي كان قد سمح بدخولها في حرب الأفيون الأولى. وحين رفض الصينيون
هذه المطالب استولى البريطانيون والفرنسيون على "كانتون" وأرسلوا حاكمها
مقيدًا بالأغلال إلى الهند وزحفوا على العاصمة بكين. وهرب الناس أفواجًا من
المدينة المحرمة، كما هرب الإمبراطور نفسه فيمن هرب، وإن كان قد ادعى أنه إنما خرج
في رحلة الخريف. وقبل أن يمضي أقام شقيقه الأمير "جونج" حاكمًا مطلقًا
دون أن يستمع إلى نصيحة تزوهسي بالبقاء في العاصمة. وصل الهاربون بمن فيهم
الإمبراطور ومحظياته وأمرائه ووزرائه وجميع ضباط القصر إلى قصر الصيف في
"جيهول". ولم يكد الإمبراطور يمضي يومًا هناك حتى أبلغه الأمير جونج
بتقدم الأجانب نحو العاصمة وهو يسأله ماذا يفعل؟ وكان جواب الإمبراطور إنه لا
يستطيع إصدار أوامر وهو بعيدٌ. وإنه يترك له تصريف الأمور ولم يستطع تزوهسي احتمال
ذلك الضعف من الإمبراطور، وطلبت منه أن ينيبها في جميع حقوقه الرسمية قائلة أنها
قادرةٌ على المواجهة وحماية الشعب. وكان أول شيء فعلته حين عينها نائبة عنه أن
أصدرت مرسومًا إمبراطوريا قالت فيه:
"علمنا أن البرابرة يشددون على
عاصمتنا، وقد طلب إلينا الأمراء والوزراء أن نطلب نجدات من الأقاليم، والكل يعرف
أن أهم ما يجب في الحرب هو أخذ العدو على غرة بالمباغتة المفاجئة في تدبير حكيم.
وإذا كانت قوة الأعداء في أسلحتهم النارية، فإن اجتذابهم إلى التلاحم المباشر
سيبطل عمل مدفعيتهم وسيكون لنا النصر مؤكدًا. إن خيالة منغوليا ومنشوريا لا يغنون
في هذه الحرب فتيلًا. أما رجال هوبي وسشوان فهم أسرع من القردة وأصلح لمفاجأة
الأعداء. فليرسل إلينا نائب الملك في هولوانج ثلاثة آلاف جندي لحماية بكين، وليأت
إلينا مثلهم من سشوان. إن حرج الموقف لا يسمح بالتسويف. والأمل وطيد أن نجمع من
الجنود ما ندرأ به هذه الغمة. ولكل عمل عظيم جزاء عظيم ".
وتمت تلبية مرسوم تزوهسي الصادر باسم
الإمبراطور. وأرسلت تزوهسي أمرًا إلى الأمير جونج ألا يبقي على أحد من الأسرى.
ولكن الأمير لم يستمع إلى أمر تزوهسي، ووافق على دفع تعويض كبير بموجب معاهدة
وقعها مع المعتدين، فتحت لهم بمقتضى شروطها ثغور جديدة، مع السماح لهم بممارسة
نشاط مبشريهم وتجارهم في جميع أنحاء الصين.
أعلنت تزوهسي رفضها لكل ما قام به الأمير
"جونج" فأصدرت مرسومًا باسم الإمبراطور بعزله، ولكن العلة كانت قد اشتدت
بالإمبراطور وظهر اقتراب أجله. وأحاط ثلاثة من الأمراء الطامعين ليستخلصوا قرارًا
لأنفسهم بالوصاية على ولي العهد القاصر. ولم يكن من الممكن أن يبلغ هؤلاء غايتهم
إلا بإبعاد تزوهسي والإيقاع بها. ووجدوا ضالتهم في الضابط الشاب
"لوكونج" الذي كانت زوجة الإمبراطور تناصره وتعتمد عليه. وأثار
المتآمرون الريب في نفس شيان فنج المريض. وادعوا أنها تقرب الضابط الشاب، وفي ذلك
جرم كبير يوجب السخط عليها ونفيها إلى "القصر البارد"، حيث يعتقل
المغضوب عليهن من المحظيات والزوجات الملكيات. وحين أبى عليهم ذلك راحوا يلحون
عليه بالنميمة، ومازالوا به حتى أمر أن يؤخذ منها ولي العهد، ويعهد بتربيته إلى
زوجة الأمير "لي" أحد الأمراء الثلاثة الطامعين.
ولكن.. إذا كان الإمبراطور قد رفض اعتقال
زوجته الأولى، فإنها أحست بسخطه عليها إذ أبى مقابلتها والاستماع إليها. ولكي
تواجه المتآمرين أرسلت تزوهسي إلى الأمير جونج ليعود إلى منصبه، وليرسل إليها
جيشًا في جيهول. وأدرك المتآمرون ما تضمره لهم، فاجتمعوا حول المريض وأثروا عليه،
حتى أصدر مرسومًا بتعيينهم أوصياءٌ على ابنه بعد موته.
توفي الإمبراطور، ونودي بابنه "تونج
شي" إمبراطورًا وأصدر الأوصياء الثلاثة قرارًا بتعيين الزوجتين الملكيتين
تزوهسي وتزو آن في مقام واحد دون تفضيل لإحداهما على الأخرى، وأن يطلق عليهما معًا
لقب الإمبراطورة الكبيرة. وقد اضطروا إلى ذلك لموالاة جيوش منشوريا للإمبراطورة
الكبيرة تزوهسي. لم يعمل المتآمرون للإمبراطور حسابًا. وأخذوا يصدرون المراسيم
الإمبراطورية. ولكنهم لم يدركوا شيئًا مهما.. فقد كان لا بد لصحة المراسيم من أن
تكون مختومةٌ بخاتم المملكة وإلا فقدت قيمتها. وراحوا يبحثون عن الخاتم فلم يجدوه،
إذ كانت تزوهسي قد أخفته عن الجميع.. !
ورأى الناس المراسيم تصدر بغير خاتم
الدولة فثاروا واتهموا الأمراء الثلاثة بالتزوير والخداع، بعد أن استطاع الضابط
صديق تزوهسي ورجاله تأليب الناس على المتآمرين وكشف مساوئهم واستيلائهم على أموال
الشعب. وإذا كان سخط الأهالي قد ازداد فقد رموا الأوصياء بالعبث بشئون الدولة،
وانتشرت الضغينة ضدهم حتى بلغت بكين. وهناك عقد الأعيان جلسة أقاموا فيها
الإمبراطورتين وصيتين على المملكة وعلى الإمبراطور القاصر
بدأ إعداد جنازة الإمبراطور فنج. وحسب
المألوف، أحضر المغتصبون الثلاثة جثة الميت إلى بكين. وقدموا تقريرهم إلى
الإمبراطور الصبي في جلسة رأستها الإمبراطورة تزوهسي. وفوجئ الجميع بالإمبراطورة
تقول في هوادة:
"باسم شريكتي وباسمي نشكر لكم
خدماتكم التي أديتموها. ونعلن إقالتكم. لقد انتهت مهمتكم فانتهت وصايتكم".
احتج الأمير "لي" بأنه الوصي
الشرعي مع زميليه، وبأنهم لا ينزلون عن الوصاية حتى يبلغ الصبي الرشد، وأجابت
الإمبراطورة في هدوء:
وقبض على المتآمرين في الجلسة نفسها.
وأجريت الجنازة في حفاوة وجلال يحرسها جنود " لوكونج ".
ومنذ تلك اللحظة وإلى آخر أيامها، ظلت هي
الحاكمة المطلقة دون شريكتها التي لم تكن سوى صورة وهمية. وأطلق الناس على تزوهسي
لقب " الإمبراطورة التنين " !
كان أول مرسوم تعلنه الإمبراطورة باسم
ولدها القاصر يقول: "إنني أتهم الأوصياء المدعين المختلسين بالاعتداء على
حقوق الإمبراطورية ومحاولة خداعي. ولكنهم لن يخدعوا الأمة. وإذا كان مسلكهم هذا جريمة
ضد الإمبراطور الراحل وضد الشعب. فعليه نأمر بحرمان الثلاثة من مناصبهم مع مصادرة
أملاكهم لكثرة ما اختلسوا ونهبوا وارتشوا. ولما كان قد اتضح من تقرير الأمير جونج
واللجنة الإمبراطورية إجرامهم واستحقاقهم الموت بالتعذيب. فإن الإمبراطورة الكبيرة
تزوهسي لا تمانع من إظهار عطفها ورحمتها. لهذا فإنها تسمح لهم بالانتحار..!
حكمت الإمبراطورة تزوهسي وهي وصيةٌ على
ولدها الإمبراطور "تونج شي" حكمًا صارمًا مجردًا من الرحمة دام جيلًا
كاملًا. لقد بلغت تزوهسي قمة طموحاتها. ولكنها أخذا بعبر التاريخ رأت أن حكومة
المرأة لا ترضي الرجال. فكانت تصدر المراسيم باسم ابنها، ولا تظهر هي إلا في مقام
عفو أو عطف أو منح. وبهذه السياسة اكتسبت رضى الشعب. الذي دعاها بالأم العطوف.
حدث ذات يوم أن أرسلت خصيها لجمع الضرائب.
ولكنه أساء السيرة وأكثر العسف والقسوة حتى ضج الحكام ورفعوا الشكاوى ضده إلى الأمير
جونج. ولم يعرض الأمر على تزوهسي بل اتجه الأمير إلى شريكتها ترون آن وأقنعها بأن
تصدر مرسومًا بقطع رأس الخصي بلا محاكمة. وإذا كانت الشريكة قد رفضت أول الأمر
خشية من غضب زميلتها، إلا أنها وافقت في النهاية على المرسوم.
لم يبلغ الخبر أسماع تزوهسي إلا بعد نفاذ
الحكم. وكان ذلك التصرف فيه الكفاية لمنع شريكتها من التوقيع على أية مراسيم بعد
ذلك كما أدى إلى انتهاز الفرصة فاتهمت الأمير بالتقصير في أداء الخضوع لمقامها،
فأمرت الحرس بالقبض عليه مدعية أنه يدبر خيانةً. وأمرت بنفيه خارج المدينة
المحرمة.
وحين بلغ ولدها الإمبراطور "تونج
شي" السابعة عشرةً لم يكن أمامها إلا أن تعلن بلوغ ابنها سن الرشد وصلاحيته
لتولي الحكم. وانزوت تزوهسي في قصرها تاركة ولدها يمارس شئون الحكم بعد أن اختارت
له زوجة شابة. ولكن الإمبراطور الشاب كان خليعًا مفتونًا. ولم يكن يعنى باحترام
والدته ولا استشارتها. بل كان يتجه إلى شريكتها تزوآن والأخذ برأيها. وتحملت
الإمبراطورة الكبيرة الأمر لمدة ثلاثة أعوام هي التي دامت طوالها مدة حكمه. ولا
يدري أحدٌ هل كانت وفاته في نهاية هذه المدة بسبب الجدري الذي أصيب به، أو أن
شيئًا آخر كان قد حدث وقضى الإمبراطور فرحل في يناير 1875 رحلته الأخيرة.. وتبعته
زوجته الشابة التي لجأت إلى الانتحار حزنا على زوجها!.
لم يكن للإمبراطورة التنين أن تفقد
سيطرتها على الحكم بسهولة. فقبل أن يموت ولدها دون أن ينجب وليا للعهد، كانت قد
زوجت أختها من الأمير شون أحد أبناء أسرة المانشو حيث أنجبت ولدًا ذكرًا. وحين مات
ولدها الإمبراطور دعت إلى عقد جلسة عاجلة. وبمساعدة رجلها قائد الحرس لوكونج
وأنصاره قامت بتعيين ابن الأمير ستون وريثًا للعرش غير عابئة بالسوابق ودون أن
تأبه بالمعارضين، وبذلك حصر إرث العرش في ابن أختها. ولم تكد تصدر القرار حتى أرسلت
قائد حرسها لإحضار الوليد والقوم يلحون عليها بالتمهل لاشتداد البرد في تلك
الليلة، وقبل أن يبدأ أي تحرك مضاد رأى الجميع الوريث الجديد في القصر الإمبراطوري
مع مربياته وخدمه. وتصالحت تزوهسي مع شريكتها تزوآن، وعادت الإمبراطورتان لممارسة
الوصاية على الإمبراطور الصغير "كوانج هسو" وكان في ذلك انتصار عظيم مرة
أخرى لتزوهسي.
منذ تلك اللحظة استبقت تزوهسي مقاليد
الحكم في يدها وحدها. وحافظت هذه الإمبراطورة الجريئة على السلام في بلاد الصين
نحو ثلاثين عامًا جديدة مستعينة برجال من دهاقين السياسة بالإضافة إلى قائدها
الوفي لوكونج، وأرغمت الدول الأجنبية الجشعة على أن تحسب للصين بعض الحساب.
وحدث يومًا أن شكت إليها الإمبراطورة
الثانية من رجلها لوكونج الذي يعاملها بفظاظة ويدعي لنفسه من الألقاب ما تكاد أن
تكون ألقاب الإمبراطور، مؤكدًا أنه لولا وقوفه إلى جانبهما لما استطاعا الاستمرار
في مقامهما الإمبراطوري.. !
وكانت هذه الشكوى سببًا في وقوع شجار عنيف
استفحل أمره بين المرأتين. ولم تمض أيامٌ حتى مرضت تزوآن مرض الموت. وقيل في ذلك
إن الكعك المسكر الذي بعثت به تزوهسي إليها لمصالحتها كان مسمومًا..!
وعادت تزوهسي تستعيد في ذهنها أسباب الخلاف.
وأحست أنه حان الوقت للتخلص من الرجل الذي ساندها طويلًا، بعد أن بدأ يتصور أنه
صاحب الفضل الأول لتوليها مقاليد البلاد.
وكان لا بد أن ينتهي دوره.. بالانتحار.. !
واستمرت تزوهسي تحكم وحدها حتى بلغ
الإمبراطور الجديد العشرين من العمر. وكان عليها أن تسلمه كل الأمور ليصبح
إمبراطورًا بحق.
وبعد أن تسلم الإمبراطور "كوانج
هسو" مهامه، انسحبت هي إلى قصر الصيف وقد بلغت الخامسة والخمسين. وتفرغت
تزوهسي للأنس والراحة وراحت تنفق بغير حساب. ودام هذا الحال عشر سنوات كانت تعاني
خلالها من الفراغ.
فجأةً في عام 1894 وهي تستعد للاحتفال
ببلوغها الستين، انقضت ليابان على الصين، وتوجه اللوم في الحرب اليابانية إلى نائب
الملك، ولكن الإمبراطورة تزوهسي دافعت عنه وأوقعت اللوم كله على الإمبراطور الذي
أقدم على هذه الحرب دون استشارتها ولا موافقتها.
وبعد انتصار اليابان قامت في بكين حركة
قوية تطالب بأن تحذو الصين حذو اليابان التي أخذت بأساليب الدول الغربية، وأن
تحاول الحصول على مقومات الثورة الصناعية التي مولت بها اليابان وأوربا حروبها
الظافرة.
قاومت الإمبراطورة ومستشاروها هذه الحركة
بكل ما لديهم من قوة. ولكن الإمبراطور انضم سرا إلى الحركة. ولم تشعر تزوهسي إلا
والإمبراطور يصدر إلى الشعب الصيني عام 1898 ودون أن يستشيرها عدة مراسيم للسير
بأساليب الغرب ونظمه. هال الإمبراطور، أن يصدر الإمبراطور "كوانج هسو"
هذه المراسيم التي رأت فيها تطرفًا لا تحمد عقباه. وازدادت العلاقات بينهما سوءًا.
ومن سوء حظ الامبراطور أن سعى إلى مؤامرة للقبض على تزوهسي واعتقالها في جزيرة
صغيرة بتهمة الإسراف في أموال الدولة. لكن هذه المؤامرة انقلبت عليه. وألقي القبض
على الإمبراطور ذاته، وسجنته الإمبراطورة في أحد القصور، ونقضت مراسيمه، وعادت
تزوهسي لتلعب دورها الإمبراطوري مرة أخرى، واتخذت رد فعل عنيفًا ومعارضةٌ قويةٌ ضد
الأفكار الغربية اتخذتها عونًا لها على تحقيق أهدافها.
ولم يكد ينقضي عامان حتى كانت قد قامت في
الصين حركة "البوكسرز" أي "الملاكمون" عام 1900 بعد أن كان
الصينيون قد ضاقوا ذرعًا بتدخل الأجانب الذين سمح لهم الإمبراطور قبل ذلك بالتدخل
في شئون الصين. وكان بعض أهداف هذه الحركة القضاء على الأسرة المالكة وخلع
الإمبراطور والإمبراطورة. ولكن تزوهسي أفلحت في إقناع زعماء الحركة بأن يوجهوا
حركتهم لمقاومة الغزاة الأجانب بدل أن يوجهوها لمقاومتها هي. وقبل
"البوكسرز" ونادوا بإخراج جميع الأجانب من بلاد الصين. وكان يمكن لهذه
الحركة التي تدعمها الإمبراطورة أن تنجح لولا أنه حدث. كما يحدث عادةً مع الثورات.
أن خرجت الثورة من أيدي قادتها إلى الغوغاء والمجرمين. وشرع هؤلاء يذبحون الأجانب
بلا تفريق بين الطيب منهم والخبيث، مما دعا الجيوش المتحالفة إلى الزحف مرة أخرى
إلى بكين.
لم يعد في يد تزوهسي أن تفعل شيئًا بعد أن
انهار الموقف، وعجزت عن إيقاف زحف الجيوش المتحالفة، ولم تجد أمامها إلا أن تهرب
وحاشيتها إلى "شيانجو" حتى لا تقع في أيدي الأعداء. وانقضت جيوش إنجلترا
وفرنسا وروسيا وألمانيا واليابان والولايات المتحدة على بكين وأعملت فيها السلب
والحرق، وقتلت كثيرًا من الصينيين. وفرض الحلفاء على عدوهم المغلوب غرامة حربية
مقدارها 330 مليون دولار، يجمعها الأوربيون من المكوس المفروضة على الواردات
الصينية وعلى احتكار الملح.
قضت تزوهسي ليالي هربها في حال سيئة. وحين
سمعت عن انتحار حوالي خمسمائة من نساء الطبقات العليا في الصين مفضلات الانتحار
على الحياة بعدما لاقين من عار ومذلة، قررت أن تنتحر. ولكن المحيطين بها أقنعوها
بالتراجع عن هذه النية حيث لن يكون هناك من يواجه الأعداء، وأن عليها أن توافق على
عقد الصلح حماية للبلاد، وكان الموقف صعبًا.
وعادت الإمبراطورة إلى المدينة المحرمة
وقد أحست بحاجة البلاد إليها لمتابعة مسيرة الإصلاح.
وراحت الإمبراطورة تستشير الإمبراطور في
كل ما يعرض لها من شئون وتطلعه على مراسيمها قبل صدورها. وإذا أحست أنه كان يستشعر
إعياءً كبيرًا بعد أن هده المرض، فقد أعفته من التقاليد في السجود أمامها. وراحت
الإمبراطورة تدخل على الحكومة الصينية كثيرًا من الضروب الإصلاحية التي تهدف إلى
تجديد البلاد وصبغها بالصبغة الغربية الحديثة، فمدت الطرق الحديدة مستعينة برءوس
الأموال الأجنبية وبخبرة الأجانب وإشرافهم.
لكن الأمر كان لا بد أن يكون له نهاية. في
عام 1908 وهي لا تزال على فراش المرض، قامت تزوهسي بتدبير موت الإمبراطور السجين
كوانج، ليحل محله على العرش ابن أخيه الصغير" بوبي "، مما يمهد لها أن
تواصل قيامها بالدور الذي أتقنته دائمًا، وهو أن تكون وصيةٌ على الإمبراطور الصغير
لتظل هي الإمبراطورة الحقيقية التي تضم في يديها مقاليد الأمور.
ولكن.. لم يكد "بوبي" الطفل
يعلن إمبراطورًا تحت وصايتها بعد موت عمه كوانج في سجنه، حتى لقيت في اليوم التالي
مصيرها المحتوم.. دون أن تكشف أمام عينيها حجب الغيب، لتعلم أن الصبي بوبي سيكون
آخر عنقود في أسرة المانشو وآخر إمبراطور يحكم الصين.. بعد أن اضطر إلى التخلي عن
العرش في مواجهة عهد الثورة الجمهورية التي لم يستطع أن يوقفها تيار الإصلاح
الجديد.
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص للأطفال
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق