القصيدة اليتيمة
في زَمَنٍ سادَ فيهِ الشِّعْرُ، وأصبَحَتِ القَوافِي تُدرَكُ على ألسِنَةِ العَرَبِ كَما يُدرَكُ القَمَرُ في السَّماءِ الصَّافِيَةِ، كانَتْ هُناكَ أَميرَةٌ نَجدِيَّةٌ تُدعى "دَعد"، اشتَهَرَتْ بِجَمالِها الفائِقِ وبلاغَتِها العَظيمَةِ. كانَتْ دَعدُ لا تَقبَلُ بِأَيِّ رَجُلٍ زَوجًا لَها، إلّا إذا فاقَها شِعْرًا وبَيانًا، فَكانَ يُشتَرَطُ على مَنْ يَتَقَدَّمُ لِخِطبَتِها أَنْ يَنظِمَ قَصيدَةً تَفوقُ في جَودَتِها قَصائِدَها، وتُخَلِّدُها عَبرَ الدُّهورِ.
تَنافَسَ
الشُّعَراءُ مِنْ جَميعِ أَرجاءِ الجَزيرَةِ العَرَبِيَّةِ، يَتَوافَدونَ على
قَصرِها، كُلٌّ يَحمِلُ في قَلبِهِ أَمَلَ الفَوْزِ بِقَلبِها، ويَعرِضُ
قَصيدَتَهُ بَينَ يَدَيها، ولكِنَّ دَعدَ، بِنَقْدِها الحاذِقِ وبَصيرَتِها
الثَّاقِبَةِ، كانَتْ تُبدِي ما في قَصائِدِهِمْ مِنْ نَواقِصَ، وتُظهِرُ ما فيها
مِنْ ضَعفٍ. لم يُرضِها أَحَدٌ، ولمْ يَتَجاوَزْ أَيُّ شاعِرٍ اختِبارَها الصَّعبَ.
وذاتَ
يَومٍ، سَمِعَ شاعِرٌ مِنْ تُهامَةَ يُدعى "دوقَلَةَ المَنبَجِيَّ"
بِأَخبارِ دَعدٍ وجَمالِها وشَرطِها، فَخَفَقَ قَلبُهُ شَوقًا إِلَيها، ونَظَمَ
قَصيدَةً غَزَلِيَّةً عَظيمَةً تَفيضُ بِروعَةِ المَعاني وبَلاغَةِ التَّشبيهاتِ.
قَرَّرَ أَنْ يَشُدَّ الرِّحالَ إِلى نَجدٍ لِيَعرِضَ قَصيدَتَهُ على دَعدٍ
بِنَفسِهِ. وفي طَريقِهِ، التَقى بِرَجُلٍ مِنَ الحِجازِ، كانَ هُوَ الآخَرُ
شاعِرًا، ومَضى مَعَهُ الطَّريقَ يَتَجاذَبانِ أَطرافَ الحَديثِ. طَلَبَ
الحِجازِيُّ مِنْ دوقَلَةَ أَنْ يُسمِعَهُ القَصيدَةَ الَّتي نَظَمَها
لِلأَميرَةِ، فَأَسمَعَهُ إِيّاها بِكُلِّ ثِقَةٍ.
تَأَثَّرَ
الحِجازِيُّ بِشِدَّةٍ بِجَمالِ القَصيدَةِ، وعَرَفَ أَنَّ هذِهِ الأَبياتِ هِيَ
مِفتاحُ قَلبِ الأَميرَةِ، فَدَبَّ الحَسَدُ في قَلبِهِ، وقَرَّرَ أَنْ يَستَوليَ
على القَصيدَةِ لِنَفسِهِ. انتَظَرَ حَتّى غَلَبَ النُّعاسُ على دوقَلَةَ، فَقامَ
بِقَتلِهِ غَدرًا، وسَرَقَ القَصيدَةَ، وتابَعَ طَريقَهُ إِلى قَصرِ الأَميرَةِ.
عِندَما
وَصَلَ إِلى دَعدٍ، قَدَّمَ نَفسَهُ على أَنَّهُ الشاعِرُ مِنْ تُهامَةَ، وأَلقى
بَينَ يَدَيها قَصيدَةَ دوقَلَةَ. طَرِبَتِ الأَميرَةُ لِلقَصيدَةِ لِجَمالِها
وبَلاغَتِها، ولَكِنَّها كانَتْ ذَكِيَّةً وفَطِنَةً، فَلَمْ يَخفَ عَلَيها أَنَّ
لَهجَةَ الحِجازِيِّ لا تَتَوافَقُ مَعَ بَعضِ الأَبياتِ، وخاصَّةً البَيتَ الَّذي
يَقولُ:
إِن
تُتْهِمِي فَتُهامَةٌ وَطَنِي أَو
تُنْجِدِي يَكُنِ الهَوَى نَجْدُ
عَرَفَتْ
دَعدٌ أَنَّ هَذا الشاعِرَ لَيسَ مِنْ تُهامَةَ، فَاستَدعَتْ حُرّاسَها
وأَمَرَتهُم بِالقَبْضِ عَلَيهِ. وعِندَما حاوَرَتْهُ حَوْلَ القَصيدَةِ، بَدا
لَهُ التَّلعثُمُ والارتِباكُ، فَعَرَفَتْ أَنَّهُ القاتِلُ الغادِرُ. أَمَرَتْ
بِقَتلِهِ على الفَورِ، وصَرَّحَتْ قائِلَةً: "اقتُلوا قَاتِلَ
زَوْجِي".
وهَكَذا،
لَمْ تَتَزَوَّجْ دَعدٌ أَبَدًا، وخَلَّدَ النّاسُ ذِكرى تِلكَ القَصيدَةِ
اليَتيمَةِ وصاحِبِها الحَقيقيِّ، الَّذي ماتَ في سَبيلِ حُبٍّ لَمْ يَكتَمِلْ،
وجَعَلَتْ مِنْها عِبرَةً لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ بِالقِصَّةِ، بِأَنَّ الشِّعْرَ
لَيسَ فَقَطْ كَلِماتٍ، بَلْ روحٌ تَسْرِي في النُّفوسِ وتَكْشِفُ عَنْ أَعماقِ
القُلوبِ.
وَأَمّا
القَصيدَةُ اليَتيمَةُ للشَّاعَرَ دَوْقَلَة المَنبِجيّ فَيقُولُ فيها:
هل
بالطُّلول لِسائِلٍ رَدُّ؟ أَمْ هل لها
بِتَكَلُّمٍ عَهْـــــــدُ؟
دَرَسَ
الجَديدُ جَديدُ مَعْهَدِها فَكَأنما
هي رَيْطَــــــةٌ جَــرْدُ
مِن
طولِ ما يَبْكي الغَمامُ على عَرَصَاتِها
ويُقَهْقِهُ الرعْـــدُ
وتَلُثُّ
سارِيَةٌ وغادِيَـةٌ ويَكُرُّ نَحْسٌ
بعدهُ سَعْــــــدُ
تَلْقى
شآمِيَةٌ يَمانِيَــةً ولها بِمَوْرِدِ
ثَرِّها سَــــرْدُ
فَكَسَتْ
مَواطِرُها ظَواهِرَها نَوْراً كـأنَّ
زَهاءَها بُــــرْدُ
تَنْدى
فَيَسْري نَسْجُها زَرَداً واهِي
العُـــرى ويَغُرُّه عَقْـدُ
فَوَقَفْتُ
أسألُها وليس بهــا إلاّ المهَا
ونَقانِـــــقٌ رُبْـــــدُ
وَمُكَدَّمٌ
فــي عانَةٍ جـزأت حَتّـى يُهَيِّجَ
شَــأوَها الوِردُ
فَتَناثَرَتْ
دُرَرُ الشؤونِ على خَـــدِّي كما
يَتَناثَرُ الع ِقْـدُ
أَو
نَضحُ عَزلاءِ الشَعيبِ وَقَد راحَ
العَسيف بِملئِها يَعدو
لَهْفي
على دَعْدٍ وما خُلِقَتْ إلاّ لِطولِ
تلَهُّفي دَعْــدُ
بَيْضاءُ
قد لبِسَ الأديــمُ أديْـ ـمَ الحُسْنِ
فَهْــوَ لِجِلْدِها جِلْدُ
وَيَزيِنُ
فَوْدَيْها إذا حَسـرَتْ ضافي
الغَدائرِ فاحمٌ جَعْدُ
فالوَجْهُ
مِثْلُ الصُّبْحِ مُبْيَضٌّ والشَّــــعْرُ
مِثْلُ الليلِ مُسْوَدُّ
ضِدَّانِ
لمّا استَجْمَعا حَسُنــــا والضِّدُّ
يُظْــهِرُ حُسْــــنَهُ الضِّـدُّ
وجبينُها
صَلْتٌ وحاجِبُهــــا شــخْتُ
المَخَـــــطِّ أزَجُّ مُمْـــتَدُ
وكَأنَّها
وَسْنى إذا نَظَــــــرَتْ أوْ
مُدْنَــفٌ لَمَّــا يُفِـــــقْ بَعْـــــدُ
بِفتورِ
عَينٍ ما بِها رَمَــــدٌ وَبِها
تُداوى الأَعيُنُ الرُمــدُ
وَتُريكَ
عِرنيناً بـــه شَمَـــمٌ وتُـريك
خَــــدّاً لَونُـــهُ الوَردُ
وَتُجيلُ
مِسواكَ الأَراكِ عَلــــى رَتـــلٍ
كَـأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
والجِيدُ
منها جيدُ جازئــــةٍ تعطو إذا ما
طالهـــا المَــردُ
وَكَأَنَّما
سُقِيَت تَرائِبُهـــــا وَالنَحرُ
مـــــاءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
وَاِمتَدَّ
مِـــن أَعضادِها قَصَبٌ فَعمٌ
زهتـــهُ مَرافِــــقٌ دُردُ
وَلَها
بَنــــــانٌ لَو أَرَدتَ لَــــه عَقــــداً
بِكَفِّـكَ أَمكَنُ العَقــــدُ
وَالمِعصمان
فَمـــــا يُرى لَهُما مِــــن نَعمَةٍ
وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ
مَطوِيٌّ كَما طُوِيَــــت بيضُ
الرِيـاطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها
هَيَــفٌ يُزَيِّنُــــهُ فَــــإِذا
تَنـــوءُ يَكـــــادُ يَنقَـــدُّ
وَالتَـــــفَّ
فَخذاها وَفَوقَهُـــم كَفَـــلٌ
كدِعصِ الرمـــل مُشــتَدُّ
فَنهوضُها
مَـــثنىً إِذا نَهَـــضتْ مِــن
ثِقلَـــهِ وَقُعودهـــا فَــردُ
وَالســــاقِ
خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَـــةٌ عَبِــلَت
فَطَـــوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعــــبُ
أَدرَمُ لا يَبينُ لَــــه حَجـــمً
وَلَيــسَ لِرَأسِـــهِ حَـــدُّ
وَمَشَت
عَلى قَدمَيــــنِ خُصِّرتـا واُلينَتـــا
فَتَكامَـــــلَ القَـــدُّ
إنْ
لم يَــــكُنْ وَصْــلٌ لَدَيْكِ لنـــا
يَشْفي الصَّبـــابَةَ فَلْيَكُنْ وعْــــدُ
قد
كـــــان أوْرَقَ وصْلُكُم زَمَناً فَذَوى
الوِصالُ وأوْرَقَ الصَّدُّ
للَّهِ
أشْـــواقٌ إذا نَزَحَــتْ دارٌ
بِنـــا، ونَبــا بِكُـــــمْ بُعْـــــدُ
إِن
تُتهِمي فَتَهـــامَةٌ وَطني أَو
تُنجِدي يكنِ الهَـــوى نَجدُ
وَزَعَمتِ
أَنَّكِ تضمُريـــــــنَ لَنـا وُدّاً
فَهَلّا يَنفَـــــعُ الــــــوُدُّ
وَإِذا
المُحِــــبُّ شَكا الصُدودَ فلَــــم يُعطَف
عَلَيـــهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
تَختَصُّها
بِالحُبِّ وُهـــــيَ علـــــى ما لا
نُـــــحِبُّ فَهكَــــذا الوَجدُ
أوَ
ما تَرى طِمــــــرَيَّ بَينَهُمــــا رَجُـلٌ
أَلَـــــحَّ بِهَزلِـــــهِ الجِــــدُّ
فالسَّيفُ
يَقْطَعُ وهْـــــوَ ذو صَدَأٍ والنَّصْلُ
يَفْري الهامَ لا الغِمْدُ
لا
تَنْفَعَـــــنَّ الســــيفَ حِلْيَتُـــهُ
يــــومَ الجِـــــلادِ إذا نَـبا
الحَدُّ
ولقد
عَلِمْـــتِ بأنَّني رَجُـــــلٌ فــــي
الصالحاتِ أروحُ أو أغْـــدوا
بَرْدٌ
على الأدْنى ومَرحَمَــــــــــةٌ وعلـــى
المكـــارِهِ باسِــلٌ جَلْــدُ
مَنَعَ
المطامــــــعَ أن تُثَلِّمَنـــــي أنِّــــي
لِمِعْوَلِــها صَــــفَاً صَــــلْدُ
فأظـــلُّ
حُـــرّاً مــن مَذَلَّتِهـــــا والحُـــرُّ
حيـــن يُطيعُــهـــا عَبْـــــدُ
آلَيْـــــتُ
أمـــدحُ مُقْرِفأً أبـــــــداً يَبْقـــى
المديـــحُ ويَنْفَـــدُ الرِّفْـــدُ
هيهـات
يأبـى ذاك لــي سَــلَفٌ خَمَدوا
ولـــم يَخْمَدْ لـهم مَجْــدُ
فالجَـــدُّ
كِنْــــدَةُ والبَنـــونَ هــــمُ فَزَكـــا
البَــنونَ وأنْجَــــبَ الجَــدُّ
فلَئِـــنْ
قَفَـــــوْتُ جميــــلَ فِعْلِهِــــمُ
بِذَميــــمِ فِعْلــــي إنّنــــي وَغْـــدُ
أجْمِــلْ
إذا حاولــتَ في طَلَـبٍ فالجِــــدُّ
يُغْـــني عنــك لا الجَــدُّ
وإذا
صبَــــرْتَ لِجَهْــــدِ نـــازِلَــــةٍ
فكَأنَّـــما مـــا مَسَّـــكَ الجُهْـــــــدُ
وطَريــــــدِ
لــــيلٍ ســــاقَهُ سَـــغَــبٌ وَهْنــــاً
إلَـــــيَّ وقــــــادَهُ بَـــرْدُ
أوْسَعْـــتُ
جَهْــدَ بَشاشَـــةٍ وقِرىً وعلى
الكريـــمِ لضَيْـــــفِهِ جَهْـــدُ
فَتَصَــــرَّمَ
المشْتى ومَرْبَعُــــــــهُ رحْـــــبٌ
لــــديَّ وعَيْشُــــهُ رَغْــــــدُ
ثـــــمّ
اغتَــــــدى ورداؤهُ نِعَـــــمٌ أسْـــــأرْتُهـــــا
وردائــــــيَ الحَمْـــــدُ
لِيَـــــكُن
لَدَيـــــكَ لِســــائِلٍ فَــــرَجٌ إِن
لِــــم يَكُـــــن فَليَحسُــــن الـــــرَدُّ
ياليــــــتَ
شِـــــــعْري، بعـــــــد ذلكمُ ومَحـــــالُ
كــــلِّ مُعَمَّــــــرٍ لَحْــــدُ
أصَرعَ
كَلْـمٍ أم صَريعَ ضَنىً أرْدى؟
فليــسَ مـــنَ الرّدى بُــدُّ
إقرأ أيضاً:
قصة للأطفال: الأميرة وحبة البازلاء
قصة وعبرة: الإوزة التي تبيض ذهباً
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق