الصفحات

الأحد، 16 يونيو 2024

• نوادر العرب: مغامرات أبو القاسم: حذاء البؤس والوفاء

"أبو القاسم والحذاء المشؤوم: قصة ثروة وابتلاء"

كانَ أَبُو القاسِمِ، تَاجِرًا عَرَبِيًّا شَهِيرًا، يَعيشُ فِي بَغْدَادَ مُنْذُ مَا يُقَرِّبُ مِنْ أَلْفِ عَامٍ. اشْتَهَرَ بِتِجَارَتِهِ الوَاسِعَةِ وَقَدْ جَمَعَ ثَرْوَةً كَبِيرَةً لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ عَلَى عَدِّهَا. بَلْ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، أَصْبَحَ يَتَجَنَّبُ حِسَابَهَا خَشْيَةَ الحَسَدِ. فَقَدْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ النَّظَرَ المُسْتَمِرَّ إِلَى المَالِ وَعَدَّهُ يُولِّدُ الإِعْجَابَ وَمِنْ ثُمَّ الحَسَدَ، وَحَتَّى أَصْحَابُ المَالِ أَنْفُسُهُمْ يُمْكِنُ أَنْ يَحْسِدُوا مَالَهُمْ.

فِي عَيْنَي أَبِي القاسِمِ، كَانَ المَالُ يُعَادِلُ الرُّوحَ وَالحَيَاةَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَامْتِلاَكُهُ كَانَ يُطِيلُ مِنْ عُمْرِهِ وَيَمْنَحُهُ سَعَادَةً لاَ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهَا بِوَسِيلَةٍ أُخْرَى. كَانَ يَشْعُرُ بِالأَمَانِ المُطْلَقِ، وَحَتَّى المَوْتُ لَمْ يَعُدْ يُرْعِبُهُ لِأَنَّ المَالَ كَانَ فِي نَظَرِهِ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ. لَمْ يَكُنْ يُعْنِيهِ الطَّعَامُ أَوِ الشَّرَابُ، وَلاَ تَغْيِيرُ مَلاَبِسِهِ أَوْ تَجْدِيدُهَا، وَلَمْ يَهْتَمَّ بِبِنَاءِ بَيْتِهِ أَوْ تَجْمِيلِ جُدْرَانِهِ، إِذْ كَانَ يَكْتَفِي بِوُجُودِ المَالِ الَّذِي يُشْعِرُهُ بِالاِكْتِفَاءِ وَالرِّضَا. كَانَ مُقْتَنِعًا بِأَنَّ إِنْفَاقَ أَيِّ دِرْهَمٍ فِي غَيْرِ التِّجَارَةِ وَالرِّبْحِ يُعْتَبَرُ خُسَارَةً، حَتَّى إِنَّهُ امْتَنَعَ عَنِ الزَّوَاجِ خَشْيَةَ التَّكَالِيفِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَبْنَاءِ. كَمَا رَفَضَ شِرَاءَ حِصَانٍ أَوْ جَمَلٍ لِنَقْلِ بَضَائِعِهِ تَجَنُّبًا لِنَفَقَاتِ إِطْعَامِ هَذِهِ الحَيَوَانَاتِ، حَيْثُ رَأَى فِي خُرُوجِ الدِّرْهَمِ مِنْ جَيْبِهِ مُعَادِلاً لِخُرُوجِ رُوحِهِ مِنْ جَسَدِهِ.

كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ ثَرْوَتَهُ الهَائِلَةَ، لَكِنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ ذَلِكَ بِاسْتِمْرَارٍ، قَائِلاً بِدَهْشَةٍ:

لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ مَالًا كَافِيًا، مَا كُنْتُ فِي هَذَا الحَالِ. كَانَ يَرْتَدِي ثِيَابًا قَدِيمَةً بَاهِتَةَ الأَلْوَانِ وَمُمَزَّقَةَ الأَطْرَافِ، وَحِذَاءً بَالِيًا، وَيَتَّكِئُ عَلَى عَصًا كَانَتْ يَوْمًا غُصْنًا هَشًّا. وَرَغْمَ إِيمَانِهِمْ بِمَنْطِقِهِ، كَانُوا يَنْدَهِشُونَ مِنْ حَالِهِ، كَيْفَ يَعْقِدُ صَفَقَاتٍ تِجَارِيَّةٍ عَدِيدَةٍ وَيَكْسِبُ أَمْوَالًا طَائِلَةً، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا أَيْنَ تَذْهَبُ كُلُّ هَذِهِ الأَمْوَالِ.

مَرَّتْ سَنَوَاتٌ دُونَ أَنْ يَجِدَ أَحَدٌ إِجَابَةً لِهَذَا السُّؤَالِ. وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ، عِنْدَمَا كَانَ أَبُو القَاسِمِ عَلَى وَشْكِ إِتْمَامِ صَفْقَةٍ لِبَيْعِ كَمِّيَّةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الزُّجَاجِ سَتُحَقِّقُ لَهُ رِبْحًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ، قَرَّرَ أَنْ يَحْتَفِلَ بِهَذَا الإِنْجَازِ. وَوَعَدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ إِذَا نَجَحَتِ الصَّفْقَةُ، سَيُدْخِلُ عَلَى قَلْبِهِ السَّعَادَةَ. ذَهَبَ إِلَى الحَمَّامِ العُمُومِيِّ لِيَسْتَحِمَّ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ عَامٍ، وَرَغْمَ تَرَدُّدِهِ لِعِدَّةِ أَيَّامٍ بِسَبَبِ تَكْلِفَةِ الحَمَّامِ، قَرَّرَ فِي النِّهَايَةِ الذَّهَابَ.

فِي الحَمَّامِ، تَرَكَ مَلاَبِسَهُ وَحِذَاءَهُ فِي رُكْنِ القَاعَةِ الخَارِجِيَّةِ وَتَوَجَّهَ إِلَى القَاعَةِ الدَّاخِلِيَّةِ. وَبَيْنَمَا كَانَ يَعْبُرُ السِّتَارَةَ المُلَوَّنَةَ، التَقَى بِصَدِيقِهِ عِمَارَةَ الَّذِي حَيَّاهُ وَلَامَهُ عَلَى تَمَسُّكِهِ بِحِذَائِهِ البَالِي الَّذِي لاَ يَتَنَاسَبُ مَعَ مَكَانَتِهِ كَتَاجِرٍ وَلاَ مَعَ سِنِّهِ. إِلاَّ أَنَّ أَبَا القَاسِمِ أَكَّدَ لِصَدِيقِهِ أَنَّ الحِذَاءَ مَا زَالَ صَالِحًا. كَانَ عِمَارَةُ يَنْدَهِشُ لِأَنَّ الحِذَاءَ بَدَا لَهُ فِي غَايَةِ البُؤْسِ، لَكِنَّهُ قَرَّرَ عَدَمَ مُوَاصَلَةِ النُّصْحِ وَتَرَكَهُ وَمَضَى.

بَعْدَ انْتِهَاءِ أَبِي القَاسِمِ مِنْ حَمَّامِهِ، شَعَرَ بِالرَّاحَةِ وَالرِّضَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَجِدْ حِذَاءَهُ. وَبِدَلاً مِنْهُ، وَجَدَ حِذَاءً لاَمِعًا وَجَدِيدًا، فَظَنَّ أَنَّ صَدِيقَهُ عِمَارَةَ قَدْ أَهْدَاهُ إِيَّاهُ. ارْتَدَى الحِذَاءَ وَخَرَجَ، وَعِنْدَمَا انْتَهَى القَاضِي الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَحَمَّ فِي الحَمَّامِ نَفْسِهِ، اكْتَشَفَ أَنَّ حِذَاءَهُ اخْتَفَى وَوَجَدَ بَدَلاً مِنْهُ حِذَاءَ أَبِي القَاسِمِ البَالِيَ. أَمَرَ القَاضِي بِإِحْضَارِ صَاحِبِ الحِذَاءِ إِلَى المَحْكَمَةِ، وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِغَرَامَةٍ بَاهِظَةٍ مِمَّا جَلَبَ لَهُ تَعَاسَةً شَدِيدَةً.

قَرَّرَ أَبُو القَاسِمِ التَّخَلُّصَ مِنْ حِذَائِهِ المَلْعُونِ، فَأَلْقَاهُ فِي نَهْرِ دِجْلَةَ. شَعَرَ بِرَاحَةٍ غَرِيبَةٍ بَعْدَ أَنْ تَخَلَّصَ مِنَ الحِذَاءِ الَّذِي رَافَقَهُ سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ. عَزَمَ عَلَى شِرَاءِ حِذَاءٍ جَدِيدٍ يَلِيقُ بِهِ كَتَاجِرٍ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ الزُّجَاجَ. لَكِنَّ فِي المَسَاءِ، عَثَرَ أَحَدُ الصَّيَّادِينَ عَلَى الحِذَاءِ فِي شَبَكِتِهِ المُمَزَّقَةِ مِنْ مَسَامِيرِهِ البَارِزَةِ، وَأَلْقَاهُ مِنْ نَافِذَةِ أَبِي القَاسِمِ، فَسَقَطَ فَوْقَ الزُّجَاجِ، مُحَطِّمًا كَمِّيَّاتٍ كَبِيرَةٍ مِنْهُ.

اِنْكَسَرَ قَلْبُ أَبِي القَاسِمِ، وَظَلَّ يُفَكِّرُ فِي حَلٍّ لِهَذِهِ المُصِيبَةِ حَتَّى قَرَّرَ أَنْ يَدْفِنَ الحِذَاءَ فِي حَدِيقَةِ بَيْتِهِ. رَآهُ أَحَدُ جِيرَانِهِ وَهُوَ يَحْفِرُ وَيَدْفِنُ كِيسًا، فَظَنَّ أَنَّهُ يَدْفِنُ كَنْزًا وَأَبْلَغَ الخَلِيفَةَ بِذَلِكَ.

بِمُوجِبِ القَوَانِينِ، كَانَ أَيُّ كَنْزٍ يُكْتَشَفُ يُصْبِحُ مِلْكًا لِلْخَلِيفَةِ. وَعِنْدَمَا سُئِلَ أَبُو القَاسِمِ عَنِ الكَنْزِ، أَقْسَمَ أَنَّهُ لَمْ يَدْفِنْ إِلاَّ حِذَاءَهُ البَالِيَ، مِمَّا أَضْحَكَ الحَاشِيَةَ وَالحَاضِرِينَ. غَضِبَ الخَلِيفَةُ وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ إِهَانَةً لَهُ، وَحَكَمَ عَلَى أَبِي القَاسِمِ بِغَرَامَةٍ كَبِيرَةٍ.

بَعْدَ أَنْ فَشِلَ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ الحِذَاءِ بِالمَحَاكِمِ، قَرَّرَ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي البُحَيْرَةِ خَارِجَ المَدِينَةِ. لَكِنَّهُ تَفَاجَأَ فِي اليَوْمِ التَّالِي بِالشُّرْطَةِ يَقْتَادُونَهُ إِلَى الخَلِيفَةِ، حَيْثُ عُرِفَ أَنَّ الحِذَاءَ سَدَّ أَنَابِيبَ المِيَاهِ الرَّئِيسِيَّةِ لِلْمَدِينَةِ مِمَّا تَسَبَّبَ فِي انْقِطَاعِ المِيَاهِ عَنِ النَّاسِ. غَضِبَ الخَلِيفَةُ وَحَكَمَ عَلَى أَبِي القَاسِمِ بِغَرَامَةٍ أُخْرَى.

أَخِيرًا، قَرَّرَ أَبُو القَاسِمِ أَنْ يُحْرِقَ الحِذَاءَ لِيَتَحَوَّلَ إِلَى رَمَادٍ. لَكِنَّهُ فُوجِئَ بِهِ مُبْتَلًا بَعْدَ أَنْ تَشَبَّعَ بِمِيَاهِ البُحَيْرَةِ. وَضَعَهُ فَوْقَ سَطْحِ البَيْتِ حَتَّى يَجِفَّ، لَكِنْ كَلْبُ الجَارِ دَفَعَهُ فَسَقَطَ عَلَى امْرَأَةٍ حَامِلٍ وَأَسْقَطَهَا وَأَفْقَدَهَا حَمْلَهَا. غَضِبَ زَوْجُهَا وَأَبْلَغَ الخَلِيفَةَ الَّذِي قَرَّرَ سَجْنَهُ مَعَ حِذَائِهِ وَاسْتَوْلَى عَلَى مَنْزِلِهِ.

فِي السِّجْنِ، جَلَسَ أَبُو القَاسِمِ يَبْكِي حَظَّهُ العَاثِرَ أَمَامَ حِذَائِهِ البَالِيَ، الَّذِي بَدَا عَلَيْهِ الحُزْنُ وَالنَّدَمُ أَيْضًا، بَيْنَمَا سَمِعَ الحُرَّاسَ يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الوَفَاءِ العَجِيبِ لِهَذَا الحِذَاءِ لِصَاحِبِهِ، قَائِلِينَ:

لَمْ نَشْهَدْ وَفَاءً أَعْظَمَ مِنْ وَفَاءِ حِذَاءِ أَبِي القَاسِمِ.

بتَصَرُّف عن مجلة العربي الصغير

إقرأ أيضاً:

قصة للأطفال: قصة طفلة لم تحفظ السّرّ

قصة للأطفال: طارق والفيل والطيب

قصة للأطفال: سعادة بائعة اللبن

قصة للأطفال: الأميرة التي تصدّق كل شيء

قصة للأطفال: الأسد والفأر

للمزيد             

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق