السِّرُّ يموت
ها هو عيد الفطر يوشك على الاقتراب، وها هي الجدّة رُقَيَّة تنفرد بنفسها كالعادة، لِتُعِدَّ سرًا وصفة كعكها الأشهى... تضع المكوّنات بمقادير محسوبة، ولا تنسى أن تضيف مكوّنات رائحة كعكها النفّاذة، وتُخرِجُ للنسوة الكعكَ عجينًا لِيَشْرَعنَ في تشكيله وإنضاجه على النار.
ذات
مرّة سمعتُ جدّي يقول لها: حتى لا يموت سرّ وصفة كعككِ الشهيّ ورائحته الجذّابة
يجب أن تلقّنيه لإحدى حفيداتك.
حينها
سألتُ جدّي، وقد شدّ كلامه انتباهي: أيموت سِرُّ وصفات الكعك كما مات عصفوري
الصغير؟
أجاب
الجدّ: كل ما لدينا من معارف وخبرات تموت إن لم نهتم بتدوينها ونقلها إلى الأجيال
القادمة، مثل وصفة كعك حافظة!
باهتمام
سألته: وما وصفة كعك حافظة تلك؟
أجاب
الجدّ: وراء وصفة كعك حافظة حكاية حدثت في مصر، وتحديدًا أواخر عصر الدولة
الفاطمية.
وأنا
أنصت وجدّتي باهتمام، أخذ الجدّ يروي الحكاية:
في
هذا العصر نال الكعك عناية كبيرة من قِبَل خلفاء الدولة وأمرائها، لإهدائه إلى
الرعيّة في الأعياد من أجل كسب ودِّهم؛ لذا أوقفوا له ميزانية كبيرة، وأنشؤوا له
إدارة حكومية عُرفت بـ«دار الفطرة»، عُنِيَت بإنتاج كميات كبيرة منه، حيث تبدأ
صناعته من منتصف شهر رجب إلى ما قبل نهاية رمضان، وبعد صلاة العيد مباشرة يقوم
الخليفة والأمراء بتوزيع هذا الكعك على العامّة بأنفسهم.
ولِإكرام
الضيوف بأصناف كعك لا مثيل لها إلا لديهم، عمد الأمراء والأثرياء إلى توظيف أمهر صُنَّاعه
في مطابخهم، وبأجور مرتفعة، للاستئثار بمذاق كعكهم الشهي، وكان من أشهر هؤلاء
«حافظة» التي أحبّت صناعة الكعك من أمّها، ورأت بعينيها كيف يتهافت الناس على صُنّاعِه
المَهَرَة؛ ليتذوّقوا كعكهم الأشهى طعمًا والأطيب رائحة، خاصة عِلْيَة القوم،
بدءًا من الخليفة ثم الأمراء والأثرياء. ولأنها تمنّت أن تكون أفضل من يصنع الكعك؛
قرّرت أن تجتهد؛ لتصل إلى وصْفَةٍ تجعل كعكها ينفرد بمذاق لا مثيل له؛ لتنال بذلك
الشهرة والمال.
وبعد
محاولات عديدة من الإخفاقات نجحت فيما تريد، ورويدًا رويدًا ذاع صِيتُ كعكها فائق
المذاق، وأخذ الزبائن يتزاحمون عليها لتذوُّقِه، ولكنها لم تكتفِ بهذا، بل نقشت
عليه عبارات - تعدّ اليوم بمثابة علامة تجارية تميّزه - مثل: «تِسلم يداك يا
حافظة»، «وبالشكر تدوم النعم»... حتى صارت الأشهر في صُنْعِه؛ فوقف على بابها
الأمراء والأثرياء يطلبون من كعكها المزيد؛ لذا قيل وقتها إن كعكها للصفوة فقط،
أما من يتذوَّقه من العامّة فمحظوظ!
وبعد
أن وصل صيتها إلى الخليفة، قرّر إلحاقها بالعمل في مطبخه بأجر مرتفع؛ لِيُقَدِّم
كعكها إلى صفوة ضيوفه؛ وخوفًا على سرّ وصفتها من الانكشاف، وفقدان مكانتها في قصر
الخليفة، عمدت إلى التواري عن الأعين كلما أعدّت عجين كعكها، وهكذا صار دأبها، حتى
إنها بعد أن ذهب عن مصر الفاطميون وخلفهم الأيوبيون، استمرت حافظة تصنعه في أحد
بيوت أمرائهم إلى أن تقدّمت في العمر، فأصابها مع الضعف داء النسيان، ولم تعد تتذكّر
كيف كانت تصنع كعكها! ومع مرور السنين نسيها الناس، ونسوا طعم كعكها الشهي، ولا
يذكرها التاريخ إلا عندما يحلّ العيد، ويسترجع الناس تاريخ الكعك وأشهر صنّاعه،
وذلك في جُمَلٍ قلائل، مفادها أن ثمة كعكًا شهيّا صُنِع للصفوة خاصة، يُسمّى كعك
حافظة، نسبة إلى حافظة أشهر صانعة للكعك آنذاك.
ثم
أضاف الجدّ وهو ينظر إلى جدّتي: ولو أنها ائتمنت أحدًا على سرِّها لبقيت وصفتها
إلى الآن في صورة كعك شهيّ يحمل اسمها.
وبعد
أن فرغ جدّي أخذتني الجدّة رقيّة لِتُلَقِّنَني سرّ وصفتها، إذ يبدو أنها لا تريد
لوصفتها أن تموت مثل وصفة كعك حافظة!
المصدر: 1
إقرأ أيضاً:
قصة حرب: احذر القويّ إذا أهنته
قصة للأطفال: أغنية عصفور الثلج
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق