تضحية
كان ذكَرُ البجع يُحَلِّقُ في الأفق. يغدو ويروح بقلق. وهو يرقب أنثاه في عشّها بين الحيرة والانتظار. كمن يتقلّب على نار. وبعد لحظات تشقّقت أولى البيضات وأطلّ الفرخ منها مبهوراً بأنوار الحياة ليملأ الدّنيا زقزقة وبهجة. ويرمق أمّه بنظرات تسرّ العين والمُهجة.
عندها
فَرِحَ ذَكَرُ البجع بالخبر السّعيد. ونزل بسرعة البرق ليهنّئ أنثاه بالمولود
الجديد. ويُمَنّي النّفس بمقدم البقيّة حتّى تكتمل الفرحة العائليّة. كان الفرخ
صيّاحاً ملحاحاً. فقد ملأ الدّنيا صياحاً وكانت أمّه تنظر إليه باسمة ثمّ تقول
لزوجها: نحن هكذا معشر البجع نملأ الدّنيا بالصّياح في صِغرنا ثمّ نميل إلى الصّمت
في كبرنا.
لأنّنا
ندرك وقتها يا عزيزتي أنّ طلب القُوتِ والطّعام خَيْرٌ من قلّة الحركة وكثرة
الكلام، ثمّ نظر إلى الشّمس قائلاً: يجب أن أرحل إلى البحيرة الزّرقاء فالصّغير في
حاجة إلى غذاء، عندها ودّعته أنثاه بابتسامة. وهمست له: صَحِبَتْكَ السّلامة.
وانطلق
البجع كالسّهم في رحلته المعتادة. مصارعاً قوّة الرّيح وعناده. ليعود بعد طول
المسافة بألذّ السّمك وأجود أصنافه، وهكذا يتحمّل لوحده المشقّة والخطر حتّى تَسْلَمَ
عائلته فلا يمسّها الضرّ.
وفي
ساعة الظّهيرة حَطَّ البجعُ على البحيرة ودَقَقَّ النّظر في الماء باحثاً عن
الغذاء، ولم يلمح كومةَ القصب التي كانت قي كلّ مرّة تقترب. وفجأة اندفع من وراء
التّبن شابٌ أسمر اللّون، وانقضَّ على البجع وأمسك بعنقه وشَدَّ عليه بيده لخنقه،
فحاول المسكين التَّمَلُّصَ منه، وانتفض بشدّة وقاومه بكلّ حدّة، ولكنّ الشابّ
القويّ شدّ وثاقه وضيّق عليه خناقه وانتهت المعركة بوضع ذكر البجع في القارب
وانقياده لسيّده انقياد المغلوب إلى الغالب.
وعاد
الشّاب إلى قريته التي على ضفاف البحيرة ليبشّر أباه ويريه الطّير. وقد كانت هذه
القرية غريبة التّقاليد. فَصَيْدُ بجعةٍ على كلّ عائلة أمر أكيد. ولأنّها في
معتقدهم طالع خير وأرزاق تساق بغزارة، وفي عُرْفِهم دليلٌ على الحذق والمهارة.
فإنّ العائلة التي لا تمتلكه لا حقّ لها في رمي الشّبك والصّيد في الأماكن الوفيرة
السّمك إلاّ بموافقة زعيم الصيّادين وإلاّ كانت من الغارمين «الذين يلتزمون
ماتكفلوا به». ولهذا فرح الأب بالصّيد الذي لا يضاهى واندفع يفاخر به ويتباهى،
وجاره يرقبه من وراء الغيضة يكاد ينفجر غيظاً، فقد قَرُبَ يوم الميعاد، ولم يحصل
على الطّير كالمعتاد، فكان يتساءل ما العمل؟ وفي كلّ يوم كانت تذوي في نفسه شعلة
الأمل.
أمّا
البجعُ المسكين فقد قضى ليالٍ في القرية مُكَمَّمَ الفم، حزيناً، على عائلة تركها
بلا قوت، وعلى فَرْخٍ قُدِّرَ له أن يولد ليموت. ولم يكن يخفّف عنه وطء«هم» هذه
الملمّة «المصيبة» غير اعتقاده بأنّ أنثاه ستخلفه في هذه المهمّة. وكثيراً ما كان
يتخيّل فرخه يحلّق معه في السّماء مهاجرين إلى حيث الشّمس والدّفء والنّماء. فلا
يقدر على أن يحبس من عينيه دمعة تنهمر وتتلألأ تحت ضوء القمر في ليلة موحشة بلا
رفيق إلاّ من أسى وحزن عميق.
وفي
الغد انتبه البجعُ على الأهازيج والأغاني. وأبصر جار سيّده يتقبّل التّهاني، فقد تمكّن ابنه أخيراً
من صيد بجعة بيضاء. أزالت عن قلبه هموم الانتظار والشّقاء.
وجاء
يوم الميعاد، فكان مجلس الزّعيم قِبْلَةَ كلّ صيّاد، واقْتِيدَ ذكرُ البجع مُنكّس
الرّأس لِما لاقاه من ذلّ الأَسْرِ والقَنْصِ خائراً بلا قوّة ولا حول. غير مكترث
«مهتم» بما يدور حوله. ولكن ما إن رفع رأسه حتّى صرخ: يا ويلتاه. إذ لم يكن البجع
الذي اصطاده جار سيّده سوى أنثاه وَرَمَقَ زوجته البجعة بنظرات فزعة. وانتبهتْ له
فقالت والحزن يمزّقها:
أي
عزيزي. لقد أتيتُ لأحملَ القُوتَ لِعيالي فانظر إلى حالك وحالي.
فتنهّد
قائلاً: وازوجتاه... إنّي فَوَّضْتُ أمري وأمرك إلى اللّه.
كان
الزّوجان يتهامسان، وفجأةً خَطَرَتْ للذّكر حيلة فتريَّثَ قليلاً ثمّ خاطب أنثاه:
لقد سمعتُ أنّ الصيّادين لا يحتفظون إلاّ بالذّكر ولربّما نجوتِ أنت من الأسر.
ثمّ
اقترب من أنثاه وحرّك جناحيه لتراه وجعل يتودّد لها خاطباً ودّها ويستميلها لترضى
عنه وتسرّه. كأنّهما يلتقيان لأوّل مرّة فانتبه إليهما أحد الصيّادين وصاح: إنّهما
ذكر وأنثى وليسا ذكرين فتشابكت الأيدي وتنازعوا حول الصّيد وكادوا يتقاتلون كأنّ
بهم مسّاً من الجنون فتدخّل الزّعيم قائلاً:
ذكر
البجع من كان وزنه أثقل ومنقاره أطول ومن كانت له هاتان الصّفتان فهو الذّكر بلا
جدال. فكفّوا الآن عن النّزاع والقتال. عندها نكص الجار رأسه وقد انقبضت نفسه ثمّ
كال الشتم والتّوبيخ لابنه ساخطاً على غبائه وجبنه. وأطلق سراح الأنثى التي طارت
بلا رجوع وقد اغرورقت عيناها بالدّموع.
أمّا
الذّكر فقال في نفسه: لن أبالي بما جرى لي فحياتي فداء لعيالي. وَشَيَّعَ أنثاه
بنظرات حزينة وهي تُحَلِّقُ في السّماء وتمتم «عَجَّلَ في الكلام» أرجو أن أراهم
وأراها يوما ما.
بواسطة
عماد الجلاصي
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
نوادر العرب: أبو العيناء ورئيس الشرطة
قصة وحكمة: الحكيم ورجل يسبح في النهر
قصة وصيّة: الجَشِعُ والقائد على مأدبة الطعام
قصة مخيبة: طفيلي يتشارك الطعام مع رفاقه
قصة للأطفال: صديقي الديناصور تي ريكس
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق