دفعها الطموح إلى العرش.
وانزلق بها الجمال إلى الخطيئة. لم يكفيها أنها عمدت نفسها بحمام من دم. ولكنها
حاولت أن تحرق بالنار كل الذين يناصبونها العداء فامتد الشر ليحرق قلبها.
كان كل ما فيها يبهر
الفتيان الحالمين الباحثين عن الحب والمغارة والجنون. برغم أنها كانت تعد إحدى
نبيلات روما، إلا أنها لم تجد ما يمنعها أبدا أن تستغل ما حبتها به الطبيعة من
السحر والجمال، فتجعل كل همها أن تجمع المال من أي طريق، لتعيش حياة البذخ والترف
والمغامرة والحب. ولكن كل ذلك كان مقتصرا على الأصدقاء من الإشراف وحدهم. وكان من
بين هؤلاء واحد فقط، استرعى انتباهها، ورجحت كفته ليكون زوجا لها. وكان لا بد أن
ترجح لديها كفة "أوتو" الذي أوتي كل الجاه وكل السلطان وكل الخبرة وكل
المال، بل وأكثر من ذلك أيضا فقد كان الصديق الحميم لنيرون الإمبراطور.
كان "أوتو" واحدا من أقرب
الرجال الذين يلازمون صاحب العرش الشاب الذي لم يعبأ قط بأن يسميه الناس همسا
"زعيم اللصوص والصعاليك ". والواقع أن نيرون لم يكن يتورع عن أن يتسلل
من قصره تحت جنح الظلام متنكراً في زي عبد أو خادم، يحيط به أصدقاؤه الذين جمعهم
من الصعاليك بكل ما فيهم من جرأة وضجيج، ليخوضوا غمرات حياة ليلية من السلب
والنهب، يعبثون بالحياة والموت، ويملأون الليل صخبا ورعبا. وتروح تلك المجموعة
النافرة تنتقل بين البؤر والحانات، يضجون ويصخبون ويعربدون، ويستمعون خلال ذلك إلى
غناء نيرون الذي كان يجد نفسه أكثر عبقرية في فن الغناء من كل من عرف ذلك الفن،
وكان الجميع ينطلقون في خضم ما بقي من ليل روما الزاخر بالأسرار والخطايا والعار
وهم ينشرون الأغاني للصعاليك واللصوص ويشهرون السيف في وجه كل من يحاول مقاومتهم.
وما كانت روما كل يوم إلا وفي ناحية من نواحيها أشلاء قتلى وجرحى راحوا ضحية في
معركة مع هؤلاء العربيدين المخمورين.
لم تكن "بوبيا" تدري أول الأمر
شيئا من كل ذلك الذي يجري. وكانت الحيرة تملؤها كل ليلة وهي تجلس وحيدة تنتظر
زوجها "أوتو" الذي كان يقضي نهاره كله وكثيرا من الليل في صحبة مولاه
نيرون. ولكنها حين عرفت الكثير من قصص فجور الإمبراطور الذي ما تورع يوما عن أن
ينال كل من تعجبه من نساء روما- ولو كن زوجات أعز أصدقائه، أدركت أنها يمكن ذات
يوم أن تكون من خلال زوجها واحدة من عشيقات نيرون. ولكنها يوم ملأت رأسها تلك
الفكرة، كانت قد صممت على ألا تكون للإمبراطور مجرد عشيقة فحسب..!
وبدأت "بوبيا" تسير في حياتها
في طريق غير الذي سارت فيه من قبل. وبهر الجميع ذلك الانقلاب الذي صارت إليه بعد
أن انزوت في قصر زوجها لا تغادره أبدا إلا وعلى وجهها قناع كثيف يخفي محاسنها عن
الأنظار، ولا يتيح لأحد أيا كان أن يطلع عليها.
ومضت الأيام والناس يتساءلون عن لغز
السيدة الغامضة المقنعة أبدا. وكان ذلك الغموض الذي عمدت إليه "بوبيا"
أول خطوة في سبيل الوصول إلى الإمبراطور. فقد عرفت من خلال أحاديث زوجها أشياء
كثيرة عن حياة الإمبراطور في قصره ومؤامرات المحيطين به من رجال البلاط لكي يزيحوا
أمه القوية "آجريبين" التي أبعدت زوجته اوكتافيا وسيطرت عليه وشغلته
عنها بالانغماس في الحب والنزوات لتنفرد بأمور الدولة. وعرفت بوبيا أن رجال البلاط
يبحثون عن السبيل إلى إبعاد "آجريبين" عن "نيرون" من خلال
البحث عن امرأة ذات فتنة مغرية، تستطيع بوجودها في القصر والسيطرة على صاحبه أن
تهزم الإمبراطورة الأم وتبعد يدها المتسلطة على الأمور.
وملأت رأس بوبيا الرغبة في أن تكون هي
نفسها تلك المرأة التي تستطيع أن تهزم أم الإمبراطور..!
لم يكن أوتو زوج بوبيا بالفتى الحريص على
الإطلاق. فقد كان برغم كل ما يعرفه عن خلق نيرون يطلق لسانه وهو في نشوة الخمر،
فيمتدح جمال بوبيا وفتنتها وعقلها الكبير، وينساق مع حبه إياها في قصة طويلة
متحدثا عن ذلك اللغز الكبير الذي تضمه جدران بيته.
وكان نيرون مولعا بحل الألغاز. وعرف رجال
نيرون - وهم يتآمرون على إلقائه في أحضان امرأة جديدة- كيف ينتهزون الفرصة ويثيرون
في نفسه الرغبة في حل اللغز الكبير. وكان لا بد من بعد أن يقرر الإمبراطور زيارة
بوبيا.
زار نيرون بوبيا في صحبة زوجها أول مرة،
فقابلته بأكمامها الطويلة وقناعها المنسدل إلا عن عينيها البراقتين ولم يكن المنظر
عاديا بالنسبة لطاغية مثل نيرون شهد مفاتن كل امرأة أرادها منذ أول لقاء، فاشتعلت
فيه رغبة في كشف الستر عن ذلك المحجوب حتى يعرف ما تخفيه بتلك الثياب وما تخبئ من
ألوان البدع تحت القناع.
وعرفت قدما نيرون الطريق طويلا إلى بيت
بوبيا في غيبه زوجها. وفي كل مرة كان شغفه يتزايد كما يزداد اللغز أمامه غموضا.
فقد عرفت هي كيف تذكي أوار ذلك الشغف وتدل عليه وتتمنع وتقول له في اللحظة الحاسمة
إنها تتمنى أن تعطيه كل شيء لولا خشيتها من حائل ضخم يقوم دونهما هو وفاؤها لزوجها
أوتو. وعرف نيرون أنه للوصول إليها لا بد من تحطيم كل ما يقف حائلا دون رغبته
الطاغية.
ووقف أوتو ذات يوم لينصت إلى صديقه
الإمبراطور وهو يأمره بأن يقطع شرايين يده ليتخلص من الحياة. ولم يكن الفتى الذاهل
يستطيع أن يرفض أمر الطاغية. وفي لحظة كانت حياته قد انتهت.
عندما انطلق نيرون إلى بيت بوبيا، وجدها
لاتزال تقف دون رغبته، وفي هذه المرة أطلقت سببا جديدا: إنها لاتزال تخشى أم
الإمبراطور التي تسيطر على القصر وتقوي من سند زوجته الإمبراطورة أوكتافيا..!
وإذن.. فليضرب نيرون ضربته الثانية..
ولتكن أمه هي الضحية هذه المرة.
وذهب نيرون برفقة أمه التي استجابت له وهو
يعرض عليها الاحتفال معه بعيد "منيرفا" على جزيرة جميلة بعيدا عن
الشاطئ. ولم ينس بعد انتهاء الاحتفال أن يوصي قائد سفينته التي ستقل الإمبراطورة
للعودة إلى قصرها القائم عند بحيرة لوكرين.
ووقفت "آجريبين" تلوح لابنها حتى
ابتعدت السفينة عن الشاطئ. وآوت إلى مخدعها حلم. وفجأة أحست بالسفينة تسعى إلى
عرضت البحر. وانتبهت واستدعت القائد تسأله فقال لها إن الرياح تعجزه عن ضبط قياد
السفينة. ثم تركها ليدعو رجاله أن ينزلوا الزوارق إلى الماء.
وأحست آجريبين أن هناك مؤامرة ضدها فقفزت من
مضجعها مغضبة، ولكنها فوجئت بسقف الحجرة ينهار وبالسفينة تزلزل تحت قدميها. فألقت
بنفسها إلى البحر. وبرز رأس فتاة من تحت الماء تصيح: "النجدة.. أنا آجريبين..
أنا أم القيصر". ورفع أحد المجدفين في أحد قوارب النجاة مجدافه فهوى به على
الرأس حتى أرسله إلى القاع دون أن يدري أن الفتاة جارية ادعت أنها آجريبين
لينقذوها. وتصور الجميع أن أم الإمبراطور قد غرقت. إلا أنها في الحقيقة كانت قد
سبحت حتى استطاعت أن تصل إلى الشاطئ سالمة.
فوجئ الإمبراطور ذلك المساء برسول من قصر
أمه تنبئه بنجاتها وتدعوه إليها. غير أنه لم يستسلم للمفاجأة طويلا فقد كان قد
أقسم لبوبيا أن ينتهي من أمه تلك الليلة بالذات. وفي لحظة ألقى نيرون سيفه في حركة
خاطفة بين قدمي الرسول وهو يطلق صراخه طالبا النجدة. وانطلق حرس القصر يلقون القبض
على رسول أم الإمبراطور، لتنطلق الألسنة بعد ذلك تشيع أن آجريبين دبرت مكيدة لقتل
ابنها عن طريق رسولها الذي انتهز فرصة انفراده به فأوشك أن يقتله. وفوجئت آجريبين
بثلة من الجنود يقودها ضابط جرد سيفه من غمده وهو يسير نحوها. وأدركت أن الضابط
كان قادما بأمر الإمبراطور فهتفت فيه: "إن كنت تبغي شرا فعجل به، ولتمزق
أحشائي التي حملت ابني العاق ذات يوم".
ونشر نيرون النبأ بأن أمه حاولت قتله
لتسيطر على العرش فلما انفضحت مؤامرتها آثرت أن تنتحر.
وأعلن الحداد. وتظاهر نيرون أمام الشعب
بالأسى واللوعة. ولكنه بدا في أقصى فرحته وهو ينطلق ليرتمي في أحضان بوبيا بعد أن
قتل أمه في سبيل إرضائها.
ولم يعد هناك سوى "أوكتافيا"
زوجة نيرون التي فقدت سندها بوفاة أمه. وراحت بوبيا توغر صدر نيرون على الزوجة
المسكينة حتى نبذها وأقصاها عن القصر بحجة عقمها، وأقام حاشيتها عليها رقباء يحصون
حركاتها وسكناتها. عندئذ فقط خلا الجو لبوبيا، ولم تكد تمضي أيام حتى أقيمت حفلات الزواج
الملكي، وأصبحت "بوبيا سابينا".. إمبراطورة روما.
كانت الأحداث في روما تنذر بالنهاية.
وكانت دنيا الوثنية تترنح كثمل فقد وعيه. وكان نيرون يزداد إسرافا في بذخه ومجونه،
ويتمادى في البطش وسفك الدماء..
غير أن هذه الفضائح المخزية أغضبت أهل
روما الذين كانوا يشفقون على أوكتافيا مما تلقاه من عنت وبأساء. واحتشدت جموع
الشعب تحطم تماثيل بوبيا وتطوق تماثيل أوكتافيا بأكاليل الزهور.. وأنذر الهياج بشر
مستطير أكره نيرون على استدعاء زوجته السابقة من منفاها. فلما أقبلت تلقاها الشعب
بالهتاف والترحيب والأناشيد.
وجن جنون بوبيا. فقد عملت كل ما تستطيع
لكي تنفرد بنيرون، وها هو يتراجع ويعيد ضرتها إليه وما كانت بوبيا لتقنع إلا بأن
تكون المقربة من نيرون وحسب فكان لا بد أن تفكر في التخلص منها إلى الأبد.
واستسلم نيرون لما راحت بوبيا توسوس به
إليه. ولم يقدر نيرون أن المرأة قد عقدت العزم على أن تستأثر به وملكه مهما كلفها
ذلك من ثمن. فسرعان ما دبرت مظاهرة زائفة سيرت فيها أعوانا مرتشين راحوا يهتفون
مطالبين برأسها محطمين تماثيلها. وأخمد الحراس المظاهرة المدبرة، بينما هرعت هي
إلى نابولي تطلب إلى الإمبراطور أن يحميها ممن زعمت أن أوكتافيا قد أرسلتهم
لقتلها.
وهاجت ثائرة الإمبراطور المأفون وهو يستمع
إلى المؤامرة، بل هو يستمع إلى ما راحت بوبيا تسوقه إليه من أن زعيم المؤامرة كان
أحد عشاق أوكتافيا التي راحت تخون زوجها، وتستشهد باعترافات خادماتها اللاتي اتهمن
سيدتهن تحت وطأة التعذيب الشديد.
وجلس الإمبراطور وإلى جواره بوبيا، وأرسل
يدعو أوكتافيا إليه. ووقفت أوكتافيا برأس شامخ وهي تستمع إلى زوجها يأمرها أن
تختار ميتة تنفذها بنفسها في نفسها. وراحت المسكينة تتوسل إليه وتستعطفه. ولكن
صبره كان قد نفد.. فأمر بها من فصل رأسها عن جسدها.
واستمرت الحياة في روما تسير!
عاشت بوبيا في القصر حياة جديدة يحيط بها
جلال الملك وأبهته، بعد أن زالت من طريقها كل العقبات.
وظل نيرون يعشق زوجته الجديدة، وعجب الناس
أن يخلص الإمبراطور لامرأة واحدة شهورا، فما فعل مثل ذلك من قبل قط. وحملت بوبيا
منه في الوقت الذي عاد هو فيه إلى الانغماس في ملذات من نوع جديد، إذ راح. ينظم
المسابقات ويقيم المباريات والحفلات التي يشترك فيها بنفسه بما لا يتفق وجلال
إمبراطور روما العظيمة. وغالى نيرون في انغماسه في المباريات وبدأ ينشغل عن زوجته
وإن ظل يحبها.
وأحست بوبيا أن زمام نيرون قد أوشك أن
يفلت منها بعد عودته إلى العبث والمجون. سوى أنها لم تجد آخر الأمر بدا من أن تقبل
الأمر الواقع لتعيش، وإن لم يمنعها ذلك من أن تقضي أوقاتها في القصر مع عدد من
النبلاء وعلى رأسهم القائد "ماركوس" الذي كسب عدة مواقع في فتوحات الشرق
وغرق في عشق فتاة من أسى الليجيين كانت تأتي معه في كل الحفلات.
وذات يوم استلقت بوبيا على أريكتها وتركت
لأفكارها العنان. وكان جمالها الباهر يخفي كل نوازع الشر الكامنة في نفسها. وراحت
تتذكر ذلك القائد ماركوس الذي استقبلته روما عند عودته استقبال الفاتحين. في ذلك
اليوم أرسلت بوبيا إلى ماركوس تستدعيه إليها وقد علمت أن ثمة خلافا وقع بينه وبين
فتاته الليجية فبكته ومضت. ودخل القائد الشاب في قامته المديدة وانحنى أمامها،
فأشارت له بالجلوس إلى جوارها على الأريكة، وهي تشير إلى أحد العبيد أن يملأ كأسه.
وأطل الفتى حوله وقال:
- هلا يغضب الإمبراطور يا سيدتي إذا علم
بذلك؟
وهزت الإمبراطورة كتفيها وهي تقول:
- إن نيرون لم يعد يملأ قلبي يا ماركوس
وكفاه مني أن أرضي كبرياءه وأتملقه وأن أدعه في مباذله الخاصة. أما أنت أيها
القائد المنتصر فكم أحب أن أهزمك.!
وابتسم ماركوس وهو يقول:
- وتفعلين معي كالعنكبوت الذي تأكل أنثاه
الذكر عندما لا يعود لوجوده ضرورة؟
ونظرت إليه نظرة ذات مغزى وهي تقربه إليها
وتقول:
- ستصبح ذا ضرورة لدي دائما يا ماركوس.
أما إذا سحرتك فتاتك الليجية مرة أخرى وشغلتك عني فسأعرف كيف أنتقم منك ومنها..!
كانت روما في ذلك الوقت ترقص على برميل من
البارود. وكان الكثير من أهلها قد بدأوا يتحولون سرا إلى ذلك الدين الجديد الذي
جاء به من يسمونه بالمسيح. وأصبحت مقبرة روما القديمة وكهوفها المهجورة ملاجئ
لأولئك الذين اعتنقوا الدين الجديد. وانطلقت سلطات روما تطاردهم وتسومهم الخسف
والحرق والاضطهاد بأمر الإمبراطور.
والواقع أن نيرون لم يكن يفهم شيئا مما
يدعو إليه المسيحيون. ولكن كان يكفيه سببا لتعذيبهم وإحراقهم أنهم لم يعودوا
يعبدونه كما كان يفعل باقي الرومانيين، بل كانوا يعبدون إلها جديدا ينافسه. وكان
كل المحيطين به يقوون هذه الفكرة لديه، وخاصة زوجته بوبيا التي كانت قد علمت عن
طريق عيونها وجواسيسها أن الجارية التي يفضلها ماركوس عليها قد اعتنقت المسيحية
سرا وأنها قد صارت بذلك واحدة من الطغمة التي يناهضها نيرون، وراحت بوبيا تنفخ في
الأتون الملتهب من قلب نيرون ليقضي على المسيحيين جميعا وينكل بهم، وكأنها تنتقم
بذلك من الفتاة التي استولت على قلب القائد الذي تمنته لنفسها.
وتزايد اللهب في قلب نيرون الذي قر في
ذهنه أن يحطم روما التي كرهها وكره من فيها من المسيحيين ليصوغ روما جديدة تليق
بألوهيته التي تمتاز على سابقيه.
وقرر نيرون أن يحرق روما القديمة لتشرق
شمس روما الجديدة التي وضع هو نموذجها.
وذات يوم من العام الرابع والستين بعد
الميلاد وقف نيرون والى جواره بوبيا يطلان على روما من شرفة قصره الباذخ ويستمتع
بمرأى النيران الهائلة مندلعة في المدينة لا يقف في وجهها شيء.
واستمرت النار مستقرة أياما سبعة حتى أتت
عليها وتركتها قاعا صفصفا. وكان نيرون كلما زادت النار توهجا زاد حماسه في لهوه
وغنائه وشرابه، وعندما خمدت النار واندثرت روما أطل عليها نيرون وقهقهته تجلجل في
الفضاء، ثم اندفع ينشد أغنية معربدة ويملأ جوفه بأقداح الشراب.
اختفت روما القديمة من الوجود وأحست بوبيا
أن كابوسا ثقيلا قد انزاح عن كاهلها بعد أن أدركت أن الجارية المسيحية التي أحبها
ماركوس قد ذهبت في جحيم المدينة. غير أن فرحتها لم تدم طويلا حين علمت أن ماركوس
نفسه قد ترك القصر، وترك الجيش، وانطلق مع من بقي من المسيحيين بعد أن أنقذ فتاته
من النيران وملأت الكراهية البشعة للمسيحيين جميعا رأس بوبيا. وراحت الإمبراطورة تطل
بعيدا وقد ملأت رأسها ألوان عديدة من الأفكار. ولم تنته إلا وقد قطع الصمت عاصفة
من الهتافات تهتف كلها ضد الإمبراطور وتطالب بالانتقام ممن أحرق روما.
والحق، لقد كانت جماهير الشعب لا تصدق سوى
أن نيرون هو الذي أحرق روما برغم كل الادعاءات التي راح يسوقها إلى الشعب أصدقاء
الإمبراطور.
وبلغت الثورة مداها. ولم يستطع حرس القصر
صد الجماهير، في الوقت الذي كان نيرون قد تملكه الرعب الصاخب المجنون.
واجتمع في قاعة القصر نيرون وبوبيا وكبار
رجال البلاط وبينهم قائد الحرس الذي كان أول من أشعل النار في روما. وراح الكل
يتشاورون في رعب.. كيف يقنعون الشعب بأنهم ليسوا هم الذين أحرقوا مدينتهم
المحبوبة.
ولمعت في رأس بوبيا فكرة طارئة. وأنصت
نيرون في لهفة إليها وهي تقول: قد وجدتها..
- يا جلالة الإمبراطور إن هذه الجماهير
تطلب الانتقام ممن أحرق روما. وإنك تعرف أن المسيحيين وجرائمهم الخسيسة وحفلاتهم
وتنبؤاتهم بأن النار سوف تجلب معها نهاية العالم جعلت الشعب كله يكرههم ويشك في
أمرهم. وهم من أجل ذلك أعداء روما وأعداؤك الذين يتهامسون ضدك ليوهموا الناس أنك
أحرقت روما مع أنهم هم الذين أحرقوها. إن الناس يطلبون الانتقام. فلتتحول ريبتهم
في اتجاه آخر. وليكن لهم ما يريدون.
وفتح نيرون عينيه في دهشة ومن حوله الرجال
مبهوتون وفجأة هتفوا جميعا:
- إن المسيحيين هم أعداء الإنسانية
وأعداؤك فلتنفذ العدل.. وتعاقب المجرمين.
وخفض الإمبراطور رأسه على صدره كما لو كان
مأخوذا بخسة المسيحيين ثم قال:
- أجل.. سأنزل بهم عقابا سيذكره شعبي
المسكين مدى الحياة..!
ومنذ ذلك اليوم بدأ نيرون ينزل بالمسيحيين
ألوانا هائلة من التعذيب والإحراق لم يعرف لها التاريخ مثيلا. وبدأت ساحات
المصارعة تشهد كل يوم الإمبراطور وزوجته وحاشيتهما يجلسون في صدر المدرج الكبير.
ثم يسوق الجلادون مئات المسيحيين إلى الساحة يصارعون السباع والنمور والكلاب
الجائعة، ثم ينهال الجلادون على من بقي منهم حيا بالسياط، ويجعلون وجوههم إلى خشب
الصلبان التي كانوا يحملونها ويهوون عليهم يسمرون أطرافهم في الخشب بلا رحمة ولا
إشفاق وتقرع الطبول بأمر الإمبراطور فيسرع الجلادون يشعلون النار في الصلبان
الخشبية ومن عليها.
ظل هذا المشهد الرهيب يطل على روما مع
بزوغ كل يوم جديد، والناس مع ذلك لا يكاد يقتنع منهم إلا القليل ببراءة نيرون من
تهمة حرق روما.
وعادت الثورة تتحرك من جديد بين الجماهير
وبين رجال الجيش والحرس نفسه ضد الرجل الذي أحرق مدينتهم، وأرسل عليها الجباة
الغلاظ ينهبونهم ويثقلون كواهلهم بالضرائب الفادحة بدعوى تخطيط وإعادة بناء روما
الجديدة.
وانطلقت الجماهير تهاجم القصر، والحرس لا
يحاول صدها على الإطلاق. وأخذ الطاغية يجري في جنون من قاعة إلى أخرى. ودخل غرفة
نومه وأراد أن يغلق بابها، فإذا به يلمح بوبيا في أثره. وزاد هيجانه وصاح فيها:
- ألا تزالين تتبعيني أيتها الشيطانة..
أين أمي العزيزة.. أين أوكتافيا زوجتي.. أين عرشي وعاصمتي؟ كلهم ماتوا.. ماتوا
بسببك أنت يا بوبيا وأنت وحدك الباقية.. أنت التي حرضتني أن أقتل المسيحيين وأتخلص
منهم.. أنت التي جلبت كل هذه المصائب والويلات.
وظل يتقدم نحوها هائجا ثائرا حتى أمسك
رقبتها وانهال عليها ركلا وضربا وصفعا في قسوة رهيبة لم تحتملها لا هي ولا الجنين
الذي في بطنها، فسقطت جثة هامدة.
واستمر نيرون يجري في القصر زائغ البصر
يتبعه المطاردون من رجال الشعب ومن حرس القصي أيضا. وعندما دخل هؤلاء القاعة لم
يمكثوا بها طويلا، بل عادوا يسرعون الخطى خلف الإمبراطور وهم يدوسون بأقدامهم جثة
امبراطورة لم يحترموها قط.. وهم يعلمون أنها كانت أسوأ النساء في العالم على
الإطلاق.
إقرأ أيضاً
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق