كانت السعادة تشق طريقها نحو وجه ذاك الرجل الذي أوشك
أن يتم الستين، وهو يعبرُ بوابة المطار وصولاً لأرض الوطن، سنوات عديدة في الغربة
لم يعد يحصاها، غربة نهشت ربيع سنواته، وحصدت أجمل أيام شبابه...
كان يزور أسرته شهراً كل عام، يغرقهم هدايا ورحلات، ثم
يعاود لطاحونة العمل، لا يكلّ ولا يملّ، يرسل حصيلة عمله لأسرته، فهو يعلم كم هي
قاسية الحياة، فاخطبوط الغلاء قد افترس الأخضر واليابس، ولداه في كليات مرموقة بإحدى
الجامعات الخاصة، وكان لزاماًعليه أن يضاعف ساعات عمله دون كلل.
ويبدو
أن رحلة مسئولياته قد أوشكت على الانتهاء، وأخيراً سينعم ببعض الراحة مع زوجته وأولاده،
لقد جهّز كل شئ، وأنهى كل أوراقه للاستقرار الدائم مع أسرته، فالروح باتت مرهقة،
والوجه قد تسللت إليه تجاعيد الشيخوخة، فليحاول في اقتناص فرصة للحياة حتى وإن
جاءت متأخرة.
دفع
بعربة الحقائب أمامه وأخرج هاتفه المحمول، فهو لم يُبلِغ زوجته بخبر عودته، أراد أن
تكون مفاجأة سارة لها، ولكن لا بأس في إخبارهم الآن. "حبيبتي أنا هنا، عدت إليك، لقد أنهيت كل شيءهناك، ساعات
قليلة وسأكون بينكم، اشتقت اليكم كثيرا".
صمت
رهيب احتوى المكالمة وحروف ثقيلة مبعثرة نطقتها زوجته: "عدت.. كيف ذلك؟ هل طُردت من العمل أم قدّمت استقالتك، كيف تتخد
أمراً مصيرياً كهذا دون الرجوع إليّ...
قاطعها
بحدة: "ظننت أن هذا الخبر سيعجبك، وأنه آن الأوان لجمع شملنا واستعادة حياتنا
الضائعة و"....
ردّت
عليه بعصبية: "أي حياة تلك التى تتحدث عنها؟! حياة الشهر من كل عام؟! هل تعلم
كم ضحيت بشبابي وانوثتي من أجل تربية الابناء؟ هل تعلم كم عانيت في غيابك؟! وأنا
أمارس دور الأب والأم معاً، هل تعلم شيئاً عن ابنائك؟! ماذا يحبون ماذا يكرهون..؟!
عد يا عزيزي واستعطف صاحب العمل لتعود، أبناؤك على وشك الارتباط والزواج، وإنت
تعلم كم هي مكلفة الحياة".
تمتم
الرجل وهو يحاول استعادة الحوار لصالحه: "لا تشغلي بالك فهناك أموال في البنك
وأرض البلد وعمارتين في..."
قاطعته
بحدة: "وجودك بيننا لن يمطرنا أموالاً، واذا كنت تحلم بإعادة رفات حياتك
المنتهية، فأنت مخطئ، لقد اعتدنا الحياة بدونك، عد لعملك ولا تفكر بالعودة مطلقاً
إلا بعد أن تنهي كل مسؤلياتك كاملة، وقتها ربما نفكر سوياً في إحياء جثث حياتنا معاً".
دارت
الأرض من تحت قدميه، وكاد أن يسقط لولا أن تمالك نفسه، وأسرع يجر ساقيه نحو أقرب
مقعد، وشريط من الذكريات قفز أمامه سريعاً، "خمسة وعشرون عاماً خارج البلاد، يدّخر
الأموال من أجل أسرته، فهل تكون تلك مكافأته؟! نكران للجميل وخذلان لسنوات طويلة من
الحرمان. هل كنت فعلاً مخطئا؟!
حينما تناسيت أموري وانخرطت في دوامة العمل غير مكترث للأمراض التى استوطنت جسدي، والأوجاع
التى حلت بروحي، لقد تسربت سنوات شبابي وتساقطت أوراق رجولتي، وأنا أشق الطريق وأقاوم
الظروف من أجل توفير مستوى حياة لائق لأسرتي، وتناسيت إني إنسان لي احتياجات
ومشاعر. "
فك
أزرار قميصه محاولاً أن يلتقط أنفاسه المتقطعة لعله يزيح تلك الصخرة التى ألقتها
زوجته في تلك المكالمة، ولكن إحساس الحسرة قد تملّكه ودموعه انهالت، وضيق التنفس
قد اشتد حول رقبته، كلما حاول أن يفك طوقه اشتد عليه أكثر، وحاول أن يستنجد بأي
أحد، ولكن الكلمات حُبست بحلقه، والعبارات قد تحجرت، حاول أن يتفوه ولو بكلمة، ولكن
كل الكلمات ضاعت في محاولات فاشلة منه، يبدو أن شموع عمره سوف تنطفأ اليوم، وأن
رحلة حياته أصابها الفناء.
وهوى
ذاك الجسد للأبد، واستقبل حياة السكينة التى حلم بها، ولكن في العالم الآخر.
هبة
حامد
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال وحكايات معبّرة
إقرأ أيضاً
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق