قصة للقصاص الفرنسي: ليون فرابييه
كانا عجوزين طاعنين في السن، وكانت تملك جميع ملكاتها، اللهم إلا
بعض النقص في قواها الجسدية، يمنعها من العمل في خدمة المنازل أكثر من ساعتين أو
ثلاث ساعات على الأكثر في اليوم الواحد.
أما هو فقد "اختل عقله". وتحتج العجوز بكل لطف. لا، هذا
مجرد فقدان للذاكرة. والدليل على ذلك أن إدارة المعمل الذي قضى فيه أربعين عامًا
من حياته لا تزال تستخدمه "كرقاص" لقاء عشرين قرشًا يوميًا، وكانت هذه
المهمة تقصر على تحريك قضيب من الحديد جيئة وذهابًا، حركة متصلة تنتقل إلى آليات
معقدة مختلفة.
هكذا كانوا يجلسونه على دكة خشبية في غرفة سيئة الإنارة، ويضعون
ذراعه موضع الحركة. وكان في جمجمته قدر هائل من عادة العمل المتراكمة خلال السنين،
وشيء كثير من الطواعية المكتسبة، بحيث لا تمسه الحاجة إلى مساعدة الفكر مطلقًا.
وحين يتوقف عن تحريك ذراعه، فإن بضع دفعات متعاقبة كانت تكفي لإعادته إلى الحركة
من جديد.
كان إذا لم تأت زوجته لاصطحابه في المساء، يمشي ويمشي، على غير
هدى، ويضيع في الطرقات المتداخلة. وكان عنوانه مخاطاً فوق حافة قبعته، مثل عنوان
منزل هو قيد الاستخدام فيه، وكان بعض الناس يقودونه أخيرًا إلى البيت، في هزيع
الليل الطويل.
ولقد كان هذان الزوجان "أسرة عمالية محترمة"، قبل أن
تتقدم بهما السن. يملكان أثاثاً كاملاً ابتاعاه قطعة قطعة، ودفعا ثمنه قسطاً بعد
قسط، كل خمسة عشر يومًا على سنوات عديدة. أواه! ما أكثر ما تكبداه في الحصول على
تلك الأشياء الكثيرة التي تؤلف بالبيت، تلك الأشياء التي تلف الحياة وتدعمها
وتزينها، ولقد بذلت المرأة بصورة خاصة في بناء هذه الملكية، المحمولة قطعة قطعة،
كل ما في حوزتها من المواهب الثمينة: الأناة، والحكمة، والإخلاص. شبابها كله ذهب
فيها، إذ بذلت في الحصول على هذا الأثاث كل حقها في السعادة، وبذلت فيه كل ما تملك
من القوة والعافية والفرح، ومن المفروغ منه أن زوجها بذل هنالك، هو الآخر، حصيلة
السنوات العديدة من الكد والتعب.
لكن هذه المأساة من السخرية الرهيبة تستمر منذ تجاوزا عتبة
الشيخوخة. "فهم" ينتزعون منهما، قطعة قطعة، كل ما جمعاه في ثلاثين سنة
من الصبر والأناة! "هم" أي؛ العوز والبؤس والمرض....، "هم"،
أي صاحب البيت والخباز والصيدلي، "هم"، أي؛ العالم والحياة...
انتزعوا منهما الخزانة ذات المرآة، والمقاعد، والسجادة، والستائر
المزدوجة، والشمعدانات، وساعة الحائط، ودولاب الطعام، والمائدة.
أجل هذه الأشياء النافعة، لقد حسبا أنهما قد امتلكاها. يا لسخرية
الأقدار، لقد حسبا أنهما كسبا بجهودهما المتواصلة هذه الأشياء المعقولة العادية.
ولم يكن ذلك إلا وهما خالصا، إذ ما كادا يعنيان بها، ويرعيانها لبرهة حلم جميل،
حتى جاءوا يطالبونهما بها بكل قسوة: هيا ردا هذه الأشياء جميعا!
ولقد ردا تلك الأشياء الغالية الواحد تلو الآخر. ففي هذه السن حيث
يبذل المرء كل ما في وسعه كي يتعلق بذكرياته وبتحفه المنزلية، في هذه السن حيث
يتشبث المرء بالأشياء، ويسعى كي يتشدد ويدوم في ملكية الأشياء، في هذه السن التي
يجب أن تكون سن الأمن والاطمئنان والاستقرار النهائي، في هذه السن تفاجئهما تلك
المهزلة الرهيبة، فتنتزع الضرورة منهما كل شيء، تجردهما من كل شيء وتحيلهما إلى
الإِملاق التام.
واليوم، إذا استثنينا قطع الأثاث الأربع التي لا يمكن الاستيلاء
عليها. وهي السرير والمقعدان وطاولة الطعام، فإن شيئاً لم يتبق من حصيلة ذلك
الأثاث سوى تلك المرآة التي تنتصب فوق مدفأة غرفتهما البائسة الحقيرة.
كانت هذه المرآة الزينة الأغلى فقد فضلت العجوز أن تستغني عن جميع
الأشياء الأخرى دون أن تنفصل عنها، تأملوا بربكم، فهي قد ابتاعت هذه المرآة في
غابر الزمان خفية، بالمال الذي اقتصدته شخصيًا. وقد تم توفير هذا المال على حساب
الغسيل والغذاء والزينة. ولشد ما كانت مفاجأة لطيفة له في يوم عيد ميلاده، كان ذلك
الحدث الأشد روعة في السنوات العشر الأولى من زواجهما.
ولذا فقد دافعت عنها، مرآتها التي لم يتعرض إطارها المذهب لأدنى
خدش على الإطلاق! لقد ضحت بكل شيء، صنعت المستحيل، وذاقت أقصى الحرمان، لكنها لم
تضحِّ بها.
بيد أن تاجر الخردوات سيحضر في ذلك الأحد، كي يأخذ الحطام الأخير،
والعجوز يقضي عطلته في البيت.
وكانت العجوز تجتر أفكارها في ترقب متوتر. إن فكرة واحدة ترسل في
قلبها بعض العزاء. فالعجوز لا يملك قواه العقلية، ومن المؤكد أنه لن يلاحظ اختطاف
المرآة. ذلك أنه لم "يشعر" باختفاء ساعة الحائط قبل ستة أشهر، على الرغم
من أن ضعفه أقل منه حاليًا.
أما هي، فقد كانت تحس انتزاع الأشياء من أماكنها كما تنتزع قطع
اللحم من جسدها. كانت تحس، عند هذه الكوارث، انعدامًا لكل رحمة اجتماعية، وتلاشيا
لكل رجاء، وفقدانًا لجميع إمكانيات الحياة.
لكنها كانت تفكر من جهة أخرى بأنه مازال يعرف - بكل غموض - هذه
الغرفة التي قضيا العمر فيها، والفضل في احتفاظه بهذا الشعور يعود إلى المرآة.
كانت كل نظرة من الغريزة الخفية، من الذكرى الكامنة، تستيقظ كل مرة بفعل الانطباع
النّير. وحين كانت تعود به من العمل، متهالكاً منهارًا، كان يجلس من تلقاء نفسه
قبالة المرآة، ويهز رأسه كإنسان يجد ذاته. مما لا ريب أن فيه وميضًا ذهنيًا،
الوميض الأخير، يتحامل عنده على ذاته بعد، من جراء ما ترسله تلك القطعة الزجاجية
من إضاءة مألوفة.
فما عسى أن يفعل العجوز الآن؟.
أتراه يصيح مثل طفل صغير ويبكي ويرتمي على المرآة؟
وجاء تاجر الخردوات.
انكمشت العجوز في زاوية الغرفة مرتعشة الأوصال، وقد فغرت فمها
الخالي من الأسنان، تنتفض أعضاؤها بعنف، وهي تترقب ما سوف يجري في نفس العجوز
القاعد هناك قبالة المدفأة.
كان العجوز يبدو كالمستغرق في حلم عميق، لا يتحرك فيه سوى خديه الأجوفين وشاربه الأبيض، وهو يمضغ لعابه ببطء كثير. وتطلع إلى التاجر وهو يمرّ به، ثم ارتدَّ إلى أحلامه، شارد العينين.
كان العجوز يبدو كالمستغرق في حلم عميق، لا يتحرك فيه سوى خديه الأجوفين وشاربه الأبيض، وهو يمضغ لعابه ببطء كثير. وتطلع إلى التاجر وهو يمرّ به، ثم ارتدَّ إلى أحلامه، شارد العينين.
حسنًا، وأحست العجوز ارتياحا كئيبا.
لكنه لم يكن بدّ من فك أربطة المرآة الحديدية بالمطرقة، فإذا
الضوضاء تثير اهتمام العجوز، فيرفع رأسه ويحتفظ به مرفوعًا.
وتلاحقت أنفاس العجوز من جديد. تستعيد ذكرى ذلك اليوم المشمس الذي
جلبا المرآة فيه ساعة الغداء، في أحد أيام حزيران المشرقة، وكان هناك بعض التوت
على المائدة، لشد ما كانت هناءته عظيمة! وما أكثر الحماقات اللطيفة التي نطق بها!.
ولما كان يرسل شعره الكستنائي طويلاً، فقد راح يتسلى، أمام المرآة، بتسريحات
جنونية عجيبة. عندئذ، وعلى حين غرّة، تمنت من صميم قلبها أن يتأثر العجوز بعض
التأثر على الرغم من كل شيء أجل! أجل! فليصرخ، فليغضب لانتزاع المرآة، فذلك يثبت
على الأقل أن ثمة رجاء بعد، وأن الأمل الأخير لم يفقد كله.
وكان قلبها يخفق برغبة أليمة.
وفكت أربطة المرآة، والعجوز ينظر وهو لا يبرح، يمضغ في سكينة
مطلقة، ها هي المرآة قد أنزلت على الأرض، وها هو الرجل يحملها ويهم بالرحيل،
والعجوز يمضغ لعابه دون انقطاع.
وكانت تريد أن تترجى بعد، فهي تقوم بحركات غير واعية، ويأسها ينمو
بصورة تتجاوز كل الحدود: يا إلهي، من المحال أن يكون كل شيء قد انتهى، من المحال
أن يضيع الماضي كله فلا يخلف أثراً على الإطلاق.
واجتاز تاجر الخردوات عتبة الباب.
كان ألم العجوز رهيباً جدًا فأفلتت منها، مرغمة، صيحة حادة.
وحرك العجوز رأسه عند هذا النداء، واستدارت عيناه الضائعتان يمنة
ويسرة، كأنهما في الحقيقة لم تعودا تعرفان المكان الحالي بعدما غاب عنه آخر مرشد
لهما.
وزمجرت العجوز مرة أخرى وقد فقدت كل سيطرة على أعصابها.
-البير! مرآتك الجميلة!
وراحت تهز كتفه:
-أواه! ويلك! ويلك!
عندئذ رفع العجوز ذراعه، وقد وضعه موضع الحركة، وأطبق على الفراغ،
وشرع يقوم بعمل "الرقاص".
ريم أيوب
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال وحكايات معبّرة
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق