الصفحات

الأحد، 27 يوليو 2025

• قصة وعبرة: مكيدة في أرض الحرمين


الحق يعلو ولا يُقهَر

في زمنٍ ليس بالبعيد، وفي أرض السودان الطيبة، عاش شابٌ يُدعى عبد الله، طيب القلب، حسن الخلق، تقيّ في سرّه وعلانيته، ما ظلم أحدًا ولا جار على قريبٍ أو غريب. بلغ الثلاثين، وقد مضى على زواجه خمس سنوات لم يُرزق فيها بولد، حتى تبيّن أن العقم من نصيبه. فطلبت منه زوجته الطلاق، وما كان له إلا أن سلّم الأمر لله، وودّعها بحزن الرجال الصابرين.

ضاقت به الدنيا، لا بيت، ولا ولد، ولا زوجة، فقرّر أن يُسافر إلى أطهر بقاع الأرض، إلى مكة المكرمة، يُعانق الكعبة ويغسل قلبه من الهموم.

فلما دخل الحرم، شعر وكأنّ صدره انفرج بعد ضيق، وأخلص وجهه لله بكل جوارحه، لا يخرج من الحرم إلا ليعود إليه، وكان يقضي ليله ونهاره بين الصلاة والدعاء، فأنِس بالوحدة، واطمأنّ بالعبادة.

وذات مساءٍ من تلك الليالي المباركة، جلس بجواره رجل سعودي خمسيني يُدعى أبو خالد، فتبادلا الحديث، وسرعان ما توثقت بينهما صداقة، فالرجل أحب عبد الله لصدقه، وعبد الله وجد في أبي خالد لُطفًا واهتمامًا.

وحين عرف أبو خالد أن عبد الله راعٍ للإبل والماشية، صاحب خبرة طويلة، عرض عليه العمل في المملكة، وقال له: "عدْ إلى بلادك، وسأرسل لك فيزا، تعمل معي إن أردت، وأنا أتكفّل بالباقي."

وفعلًا، عاد عبد الله، ولم تمضِ إلا أشهر قليلة، حتى وصلته التأشيرة، وسافر إلى السعودية. وهناك بدأت رحلته الجديدة، حيث استلم مسؤولية الإبل، وأظهر براعة قلّ نظيرها، فبارك الله في جهده، وزاد رزقه، وامتلأ الحلال، وصار الرجل يُنتج، ويبيع، ويكسب، حتى قال الناس: "من يعمل مع عبد الله لا يعرف الخسارة."

لكنه، على طيبته وصدقه، كان يُسَلِّم راتبه لأبي خالد، ويقول له: "أنت بمقام أخي، احتفظ لي به، وسآخذه حين أعود إلى بلادي."

ومضت السنوات، حتى بلغت تسعًا كاملة، لم يطالب خلالها بماله، ثم قرّر أخيرًا أن يعود إلى السودان، يبني بيتًا، ويتزوج، ويبدأ من جديد. فطلب من أبي خالد مستحقاته، ولكن... هنا ظهرت خيانة النفوس، فقد أكل الطمع قلب الرجل، ووجد في نفسه ضيقًا من هذا الطلب.

وبدل أن يرد الأمانة، دبّر مكيدة شيطانية. في ليلةٍ ظلماء، إذا برجال الشرطة يطرقون باب عبد الله، ويأخذونه بتهمة شنيعة: التحرّش بزوجة كفيله!

حاول عبد الله أن يدافع عن نفسه، لكن الكفيل وزوجته قد تواطآ، ولفّقا التهمة بحبكة شيطانية.

فدخل عبد الله السجن، مهمومًا مكسورًا، يبكي لياليه الطويلة، ولا يدري كيف يُثبت براءته.

وفي السجن، حيث الظلمة والحسرة، تعرّف على نزيل قديم يُدعى أبو محمود، رجل يعرف دهاليز المحاكم والسجون، فقال له ذات مساء:
"
إن كنت تريد النجاة، فافعل ما سأقول، ولا تسألني كيف أو لماذا... الخطة في الكلام، والضربة في التوقيت."

وتردد عبد الله، لكنه حين جاء موعد الجلسة، وقف أمام القاضي، والجمع حاضر، وزوجة أبي خالد متزيّنة بالكذب، وأبو خالد يبتسم بخبث.

وهنا، نفّذ عبد الله الخطة، وقال للقاضي بثبات:
"
نعم، تحرّشت بها، بل كانت بيننا علاقة، برضاها، وبدعوةٍ منها، وكنت أدخل البيت في غياب زوجها، وما كانت تُمانع، بل تُرحب..."

وما إن أتمّ حديثه، حتى ضجّت القاعة!، وصرخت زوجة الكفيل:
"
كذب! كذبٌ كلّه! أنا من لفّق هذه التهمة، وزوجي وعدني بمالٍ إن شهدت زورًا، لقد ظلمنا عبد الله، أراد حقه، فخُنّاه واتهمناه، والله يشهد أنه بريء!"

حينها، ساد الصمت، وارتجفت الوجوه، ونظر القاضي في الأوراق، وقال:
"
أعيدوا للرجل حقه، وأعطوه تعويضًا على ما لقيه من ظلمٍ وسجن، وسفّروه إلى بلاده مُكرَّمًا، فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملًا."

فرجع عبد الله إلى السودان، ومعه المال والكرامة، فاشترى بيتًا، وتزوج امرأة صالحة، فوهبه الله الذرية الصالحة، وتبيّن له أن العيب لم يكن فيه، بل في طليقته التي لم تُرزق بولد حتى بعد زواجها الثاني.

أما أبو خالد الخائن، فقد حكموا عليه بالسجن، ثم أُطلق بعد أن دفع التعويض كاملاً، لكن ما بقي في قلبه من الخزي، كان أشد من السجن ألف مرة.

وهكذا، تمضي الحياة بما تحمل من ابتلاءات ومفاجآت، وتظل الحقيقة كالجمر تحت الرماد، لا تلبث أن تنكشف مهما طال خفاؤها. في هذه القصة، تتجلّى حكمة الله في تدبيره، وعدله في نصر المظلوم، ولو بعد حين. تتشابك الخيوط بين الطمع والخيانة، لكن الصدق والصبر يصنعان الطريق إلى النجاة.

ما بين أرضٍ ظلم فيها العبد، وسجنٍ ضاق عليه بما رحُب، وأرضٍ نُصر فيها، وحقٍ عاد لأهله، تُروى الحكاية للعبرة لا للتسلية، وللتأمل لا للمرور العابر.

فمن ظُلِم فليثبت، ومن خانه الناس فليتوكّل، فإن الله لا ينسى، وإن طال الليل، فالفجر آتٍ لا محالة.

فيسبوك: https://www.facebook.com/ali.ramadan.206789

منصة أكس: https://x.com/AliRamadan54

جديدنا كتاب:

 100 قصة حب من كل زمان ومكان

  إقرأ أيضاً:

قصة وعبرة: فرصة نادرة

قصة وعبرة: حين يخبئ القدر وجهه الآخر

قصة ملهمة: متسوّل على رصيف المحطة

قصة وحكمة: الديك الأحمر والثعلب

قصة وحكمة: الأسد والضفدع

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

جديدنا كتاب:

 100 قصة حب من كل زمان ومكان 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق