كيف تبتدع مذهباً ليتبعك الناس
في عام 1653 ادّعي فرانسيسکو جويسب بوري وهو شاب من ميلانو في العشرين من عمره أن رؤيا تَكَشَّفَت له، وطاف بالمدينة يُخبر الجميع أن الملاك ميخائيل اصطفاه ليكون القائد العام لجيوش بابا جديد سيحكم العالم ويُعيد إليه الروح والنقاء.
وأنَّ
الملاكَ قد منحَه القُدرة على رؤية ما في أنفس الناس، وأنه سيكشف له قريباً سِرَّ
حَجَر الفلاسفة - وهي مادةٌ بَحَثَ عنها الكثيرون اعتقاداً أنها تُحَوِّلُ المعادن
الرخيصة إلى ذهب، وَصَفَ معارفُ وأصدقاءُ بوري التَّغَيُّرات التي حدثت له بعد
الرؤيا؛ فقد تَخَلّى عن تَعَلُّقِهِ الشديد بالخمر والنساء والقمار، وتَفَرَّغَ
لدراسة الخيمياء، ولم يَعُد يتحدث سوى عن الغيبيات والبِدَع.
كان
تَحَوُّل بوري سريعاً وإعجازياً، وبدأت كلماتُه تِقِدُ بالحماسُ، وأخذ الناسُ
يتوافدون عليه ويتبعون طريقته، لكن من سوء حظّه أن محاكم التفتيش بدأت تَتَنَبَّهُ
إليه هي الأخرى وكانوا يلاحقون أي شخص يخوض في البدع. جعله ذلك يهجر إيطاليا ويَجولُ
في أنحاء أوروبا من النمسا حتى هولندا يقول للجموع «مَن يتبعني تُكتَبُ له السعادة
الأبدية». كان يجذبُ الأتباعَ أينما حَلّ، وكان أسلوبه بسيطاً: كان يتحدث عن رؤياه
بعد أن زخرفها وأتقنها، وكان يعرض على كل من يُصَدِّق به (وكانوا كثيرين) أن «يرى»
ما في أعماق أنفسهم، وبعدها يُحَدِّقُ في تابعه الجديد
لدقائق يبدو خلالها مأخوذاً بنشوة الوَجْدِ، ثم يقول
للسائل عن درجة التنوير في أعماقه، وإن رآه واعداً يُضيفه إلى قائمته المتنامية من
الحواريين، وكان ذلك تشريفاً جَدِّيّاً لمن يؤمن به.
كان
للطائفة سِتُّ درجات من الروحانية ينالها الحواري حسب ما يري بوري في روحه، ويمكن
للشخص أن يرتقي بها بجهده وتفانيه للطائفة. كان بوري الذي أخذ الناس يطلقون عليه «صاحب
السُّموّ» و«الطبيب الجامع»، يطلب من أتباعه أقصى درجات التقشف، وكان يأمرهم بأن
يمنحوه كل مالهم وممتلكاتهم، ولم يعارضوه لأنه كان يعدهم بأن «دراساتي في الخيمياء
تقترب من اكتشاف حجر الفلاسفة الذي سيمنحنا جميعاً كل ما نتمناه من الذهب».
بعد
أن تَضَخَّمَتْ ثروته أخذ بوري يُغَيِّرُ من نَمَطِ حياته، وأصبحَ يستأجر أفخم
الشقق في المدينة التي يعمل بها ويملأها بأروع الأثاث والكماليات التي بدأ في
اقتنائها، وكان يَتَجَوَّلُ في المدينة في مركبةٍ مُزَيَّنَةٍ بالجواهر تَجرُّها
ستةُ خيول دهماء رائعة الجمال. لم يكن بوري يَستَقِرُّ طويلاً في مكان واحد، وقبل
أن يختفي كان يقول لأتباعه أنه ما زال هناك الكثير من الأرواح الشاردة تنتظر منه
أن يَضمها للقطيع، وكانت شُهرته تَتَرَسَّخُ بغيابه، وأصبح صِيتُه يملأ الآفاق رغم
أنه لم يُحَقِّق أبداً لأتباعه أيَّ شيء ملموس في عالم الواقع.
كان
العميان والعجزة واليائسون ينتظرون قدوم بوري لأن الشائعات أظهرته قادراً على
الشفاء، وجعله رفضه أن يأخذ مقابلاً لخدماته يبدو رائعاً في أعين الناس، بل ادَّعى
البعض منهم أنه قد حَقَّقَ معجزات في الشفاء. لم يكن بوري يفعل أكثر من التلميح
إلى إنجازاته تاركاً لخيال الناس أن يُضَخِّمَها إلى أبعد درجات الخرافة. مثال
لذلك ثروة بوري التي كانت آتية في الحقيقة من الأموال التي تهبها له الجماعة
المنتقاة من حوارييه الأثرياء، لكنه جعل الناس يظنون أنه قد أوجد بالفعل حجر
الفلاسفة. ظَلَّت الكنيسةُ تلاحقه وأخرجته من المِلَّة بِتُهَمِ الهرطَقَة وممارسة
السِّحر، لكنه لم يَرُدّ على ذلك سوى بالصمت الوقور، وزاد ذلك من شهرته وحماس
الناس له لأنهم رأوا أنه لن يُضطهدَ
أحدٌ إلا إن كان عظيماً، وتساءلوا كم من الناس مثلاً قد فهم حكمة السيد المسيح في
عصره. لم يكن على بوري أن يدافع عن نفسه، بل أن أتباعه هم من أطلقوا على البابا
اسم الدجال.
تنامت
سَطوة بوري إلى أن أتى يومٌ كان يغادر فيه مدينة أمستردام بعد أن أقام فيها لفترة
هارباً بأموال ومجوهرات هائلة إئتمنه عليها الناس، حيث كان يدّعي أنه يستطيع أن
يزيل بتركيز عقله التشوهات عن الماس. حينئذ أصبح مطارداً واستطاعت محاكم التفتيش
أن تَلحق به لينهي العشرين عاماً الأخيرة من عمره سجيناً في روما، إلا أن قناعة
أتباعه بقدراته الخارقة كانت من القوة لدرجة أن الأثرياء من المؤمنين به ظلوا
يزورونه في السجن حتى يوم وفاته، ومن بينهم کريستينا ملكة السويد، وظلوا يمدّونه
بالمال والعتاد ليتمكن من مواصلة بحثه حول حجر الفلاسفة الذي أغرى الكثيرين وخدعهم.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
إقرأ أيضاً:
قصة وحكمة: القائد العسكري لا يشتري السهام
قصة وحكمة: مخلب القط ينقلب على ملكة فرنسا
قصة للأطفال: معاذ العنبرية وخروف العيد
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق