موسيقى
تَفَيَّأَ الرّاعِي شَجَرةً مُسْتَظِلاً بِهَا، وَرَاحَ يَبُثُّ أَلحَانًا شَجِيَّةً مِنْ نَايِهِ المَصنُوعِ منَ القَصبِ، وعينَاهُ لا تُفَارقانِ قطيعَ الخِرافِ التي يَرعَاهَا. يَخافُ عليهَا منَ الذئابِ.
كَانتِ الأنغامُ تَسْرِي في رِحَابِ الدُّنيَا، رَقْراقةً كَمَاءٍ يجرِي فِي جَدوَلٍ.
سَرَتْ فِي نُسْغِ الأشجارِ وفِي دِمَاءِ الحَشرَاتِ وفِي مَسَامِ الأرضِ، تَلقَّفَتْهَا مَسَامعُ الخرافِ فأقبلت على العشبِ بِنَهَمٍ، أمّا الحشراتُ فقدْ وَقفتْ تنظرُ إلَى بَعضِها حائرةً، هَلْ تَدنُو منْ مصدرِ هَذهِ الموسيقَى المَلائكيَّةِ أو تَغْرُبُ عنهَا؟، فَربّمَا تكونُ فَخًّا منْ فِخاخِ صيّادينَ مُغرمِينَ بِجمعِ أصنافِ الحشراتِ للتّبَاهِي بهَا أمامَ الأصدِقاءِ.
قالتْ أفعَى لزوجِها الثُّعبانِ:
- لَمْ نَعهَدْ هذَا مِنْ قبلُ. كانَ يأتِي المكانَ أغرابٌ فيَنْصِبُونَ شِباكًا أوْ فِخاخًا فنقعُ فيها مُرغمينَ لأنّ الجوعَ دفعنَا دَفْعًا إليها. أمّا أنْ نَسمَعَ موسيقَى تَخْلبُ اللُّبَّ وتَشُدُّ الانتباهَ فهذَا يَدعُونَا إلَى وَقْفَةِ تَأمُّلٍ.
رَدَّ الثُّعبانُ قَائِلاً:
- هَذَا صَحِيحٌ. إنّنِي أُحسُّ بهَا تَسْرِي في دِمائِي، وتُخَفِّفُ أحزانِي وغَضبِي، ولكنّنِي أخْشَى أنْ يَخِفَّ مَفْعولُ سُمِّي، لأننِي أعِيشُ بهِ ولا أستطيعُ التخلُّصَ مِنهُ.
- وأنَا كذَلكَ، أُحسُّ بهَا نَاعمَةً تُجبِرنِي علَى التّخلِّي عَنْ حِقدِي وكراهِيتِي لِكُلِّ شيءٍ يَلْمَسُ جِلْدي مَخَافةَ أنْ يُهْلِكَنِي. الموسيقَى تَدبُّ الآن في كِيانِي. فَلْنَدْنُ منْ مَصْدرِهَا، ولْنَكُنْ حَذرِينَ.
وصَارَا يقتربَانِ منْ مصدرِ الأنغَامِ شيئًا فَشيْئًا، لا يُصدِرانِ أيَّ حَركةٍ تثيرُ الانتبَاهَ.
قالَ الذِّئبُ في نفسِهِ وقدِ اعْتلَى رَبوَةً مُتَفَرِّسًا في الخِرافِ الآمنةِ: يبدُو سعيدًا وهوَ يُمسِكُ بنايِهِ، لا يهتمُّ لغيرِ الموسيقَى الشجيَّةِ. هوَ يعرفُ أنهَا لا تُنْبِتُ العشبَ ولكنّها تَنْثُرُ الأمانَ عليه فتَبُثُّ فيهِ روحَ الحياةِ. أنَا ذئبٌ لا يسعَى إلا إلَى الظَّفَرِ بطريدةٍ يأكلُهَا. أعترفُ أنّني أملكُ قلبًا قاسِيًا لاَ يرحمُ، ولكنْ عينايَ الآن تَشْخَصَانِ لا تَطْرِفَانِ، وبدنِي مُتيبِّسٌ لا يتحركُ. في ذهنِي صفاءٌ، هو خَلِيٌّ منْ أيِّ حيلةٍ كنت أَصْنعُهَا للإيقاعِ بالخرافِ. تَبدَّلَتْ أحوالِي.
فَلأَدْنُ منهُ ولأطلبْ منهُ ومنْ خرافِه أنْ يُسامحونِي.
لمْ ينتبهِ الرّاعِي إلَى أنّ أشكالاً من الطيورِ حَطّتْ علَى أغصانِ الشجرةِ التي استندَ بظهرِهِ إلَى جِذْعِهَا. كانت أعناقُهَا مُشْرئِبّةً إلى الأمامِ تكادُ تنقطِعُ عنْ أبدانِهَا. كلُّهَا تسترقُ السمعَ إلى الألحانِ الشجيّةِ فتنهلها نَهْلاً. لمْ تُصْدِرْ همهمةً ولا خشخشةً حتّى لا تُعَكِّرَ صَفْوَهُ.
قَدّسَتْ رغبتَهُ في أنْ يبقَى الآخرونَ صامِتينَ، مُصْغِينَ، مُنْبَهِرِينَ.
تعلمتْ منهُ أنْ تَزِنَ نَبرَاتِ أصواتِها لِتَلِدَ تغرِيدًا مَا لهُ مثيلٌ في عالمِ الطيورِ.
وحيَّتْهُ بأنْ رفعتْ مناقيرَهَا وأنزلتْها تحيّةَ تقديرٍ، ونَفَشَتْ ريشهَا.
كانتِ الألحانُ تَلِجُ قُلُوبَهَا فتُبْكِيهَا.
هذَا الطائرُ تَذَكَّرَ رفيقَ صِبَاهُ وقدْ رحلَ إلى الجنوبِ، وذاكَ تذكرَ ولدَهُ وقد رافقَ زَوجَهُ إلى الشمالِ، وثالثٌ ورابعٌ..
كانتِ الذكرياتُ تَنهَمِرُ عليهمْ كالمطرِ.
خرجَتِ الديدانُ من الترابِ تسعَى إلَى الشجرةِ، وكذلكَ فعلتِ الحشراتُ، حتّى الصّرّارُ لم يستطعْ أن يقاومَ إِغراءَ الخروجِ منْ تحتِ صخرةٍ تُخْفِيهِ عنِ الأنظارِ، ونَحَا نَحْوَ الراعِي.
الأشجارُ تمايلتْ وكأنَّ رِيحًا خفيفةً تلمسُ أغصانَهَا وأوراقَها. كانتْ تُؤَدِّي رَقْصَةً مَا شهدتِ الغابةُ مثلَهَا.
بَثّتْ فيهَا ذكرياتٍ أليمةً، تذكرتِ السُّيُولَ التّي جَرفَتْ أصدقاء أو صديقاتٍ فأبعدتهمْ عنهَا، وذكرياتٍ سعيدةً لمّا حلَّتْ عليهَا طيورٌ منْ جهاتِ العالمِ تبحثُ عنِ المأوَى فآوتْهَا، بَنَتْ أعشاشَهَا ونعمت بالأمَانِ والسّلامِ.
لَمْ تُثْقِلْ كاهِلهَا أبدًا.
الأشجارُ رَحيمةٌ بمنْ يستجيرُ بهَا.
هِيَ هكَذَا منذُ القِدمِ.
الشمسُ تكادُ تغيبُ.
ستظلمُ الدّنيَا ويعودُ الراعِي إلى بيتِهِ، وتعودُ الحيواناتُ إلَى الغابةِ.
هَذِهِ فرصةٌ لا تُعَوَّضُ.
لا تُقَدّرُ بثمنٍ، لا تُبَاعُ ولا تُشترَى.
فرصةٌ تجتمِعُ فيهَا الحيواناتُ المفترسَةُ والمُسَالمةُ.
لحظةٌ كَتَبَ عنهَا الفيلُ الذي اسْتَهْوَاهُ جُنُونُ التّأْرِيخِ قَائِلاً: هذَا يومُ الموسيقَى الذي ألَفَ بينَ الصّديقِ والعَدُوِّ.
لَمْ يَنْتَبِهِ الرّاعِي إلَى أنّ غرباء عَنْ بَنِي جِنْسِهِ يُحِيطُونَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَاِنبٍ.
لَمْ يسمعْ لَغَطًا ولا صَخَبًا ولا عِراكًا بينَ هذهِ الأبدانِ المختلفةِ الأشكالِ والأحجامِ.
كانَ يسبَحُ فِي مَلَكُوتِ الموسيقَى مغرداً، يُرَتِّلُ أنغَامهَا، لا يخطئُ الضربَ ولا يُبْدِي تَبَرُّمًا. يُمِيلُ رأسَهُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ مستنشقًا شَذًا عَطِرًا لا يحسُّهُ إلا العظماءُ.
عندمَا أنهَى عملَهُ دَوَّتْ تصفيقَاتُ الإعجابِ.
رَفَعَ رأسَهُ ليرَى مَنْ فعلَ ذلكَ، أَلْفَى نفسَهُ أمامَ حيواناتٍ تتزاحَمُ لتحظَى بنظرةٍ من عينيهِ البرَّاقتيْنِ.
قامَ واقفًا وانحنَى إجلالاً لهَا.
قالَ مفتخرًا: كانَ الناسُ يمرُّونَ بِي فلا يعيرونَنِي انتباهًا. كانُوا يقولونَ لي محذِّرين: انتبهْ لخرافِكَ فقدْ يأكلُها الذئبُ أو تسرحُ بعيدًا. لمْ أكنْ أحلمُ بِأنْ يأتينِي معجبونَ من عالمٍ آخرَ. الآنَ فهمتُ أنَّ الموسيقَى لغةُ الكائناتِ كلِّهَا؛ لغةٌ تمحُو خلافَنَا وحُروبَنَا.
وتفرَّقُوا، كلٌّ ذهبَ إلى حالِ سبيلهِ يُرَدِّدُ في نفسِه اللحنَ الذي تَنَسَّمَهُ هذا اليومَ.
لَمْ يكنْ يومًا عاديًا يا صِغارِي. كانَ يومًا سَجَّلَهُ الفيلُ بـ «يومِ الموسيقَى».
وُلدتْ كائناتٌ في هذا اليومِ.
كُلُّهَا سميتْ باسمٍ مُوسيقيّ.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
قصة للأطفال: لغز النافذة
المكسورة
قصة مخيبة: المتسول الأخرس
في لبنان
قصة للأطفال: دبدوب وعلبة
العسل
قصة للأطفال: لماذا لم تعد
العصافير
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق