عندما
كنت في الصف التاسع، عدنا إلى مقاعد الدراسة بعد انقطاع دام لثلاثة أشهر بسبب
الاجتياح الاسرائيلي لمناطق الضفة الغربية عام 2002، أذكر أن في الحصة الأولى دخل
الأستاذ إلى الصف وسأل الطلاب "من هو عدوك؟" فأخذ الطلاب يقفون واحداً
تلو الآخر للإجابة على سؤال المعلم.
قال
الأول "اسرائيل" فردّه المعلّم "تقصد الكيان الصهيوني يا ابني،
اجلس".
وقال
آخر "الجيش الصهيوني" وآخر صرخ "آرئيل شارون"... ثم توالت
الإجابات "أمريكا... الغرب... الحكّام العرب"... حتى جاء دوري فقلت "كروموسوم
رقم 4!" فالتفت الجميع نحوي، حتى المعلم، وعمَّ صمت لبرهة حتى سأل المعلم "ماذا
قلت؟" فكررت اجابتي "عدوي هو كروموسوم رقم 4".
في
الواقع لم أكن أعي معنى ما أقول آنذاك، لكنني حفظت ما قال الطبيب منذ عدة أعوام
أمام دموع والدتي "لديه طفرة في كروموسوم رقم 4 وهذا ما سبب له قصر قامة حاد
والتي نسميها تقزّم"، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلتي الشاقة في بلاد العجائب، ففي
أيام المدرسة، كنت هدفاً سهلاً لتفريغ طاقات العنف لدى أقراني، وبالرغم لعشقي
المفرط في ذلك الوقت للمصارع Undertaker إلا
أنني لم أحب بكل تأكيد أن أكون حقل تجارب لحركاته، نعم... لن انسى أبداً أنني كنت
يوماً كرة يتلقفها أربعة أولاد من ضخام البنية لنصف ساعة كاملة حتى أفرغت ما في
بطني!
يضاف
ذلك إلى سَيْلٍ لا ينتهي من المضايقات المهينة، تبدأ برفض الجميع الجلوس بجانبي،
إلى نكات الثقلاء التي لا تطاق كـ"أين بياض الثلج وأصدقاؤك الستة؟" أو
عندما ينادي علي أحدهم وهو يقف بجانبي كأنه لا يراني! وافتراض الجميع بأن ذكائي
محدود...
أشياء
كهذه لا تنتهي مع انتهاء المدرسة، فمع بلوغ الرشد والنضوج تصبح المواقف السخيفة
أشد سخافة، بل أنها تتحول إلى روتين يومي ولكن يستحيل أن يعتاد عليه المرء.
فالبارحة مثلاً، صرخ علي أحدهم في مركز التسوّق من الخلف وهو يجر عربته "ابعد
يا ولد" ولم يكلّف نفسه حتى عناء النظر إلى وجهي بعد مروره كي يتحقق أنني رجل
في الثالثة والثلاثين ولست "ولداً!"
وفي
نفس اليوم – وتقريباً في كل يوم، يتم تصويري في كاميرات المارة في انتهاك سافر
لحياتي الخاصة، بل إن بعضهم يقترب ليطلب مني أن أتصور مع طفله، كأنني دمية بارني.
طبعاً لن أحدثكم عن الضحكات والهمسات والتحديق الذي يحدث بشكل يومي.
علاقتي
بعائلتي فاترة وشبه ميّتة، وحدث ذلك مؤخراً، يوم تذمّرت أمي من ابتعادي عن الصلاة
وأخبرتها بصراحة أنني تخلّيت عن إيماني منذ أيام المدرسة عندما سمعت بآية "إنا
خلقناكم في أحسن تقويم"، ومنذ ذلك الحين كنت أصلي وأصوم إرضاء لها لا أكثر!
عندها
ثارت وغضبت، ومررتُ بفترة عصيبة وأنا أشاهد عائلتي تنظر إلي كأنني شيطان قصير
وخبيث يتنقّل في أرجاء المنزل، فلم أحتمل ذلك وقررت الخروج للعيش بمفردي خصوصاً
بعد حصولي على عمل في قسم الرد على المكالمات التابع لأحد شركات الانترنت، ومع
أنني مهندس اتصالات، إلا أن المدير الذي قابلني قال لي "سنضعك في هذا القسم
حتى لا يراك العملاء".
أي
والله قال ذلك! ولم استطع الرد أو الرفض، ففرصي في الحصول على عمل تكاد تكون معدمة
بعد كل تلك المقابلات التي تنتهي بسرعة في صورة مفاجئة، لأننا نعيش في العام 2017
ولازال أرباب العمل يفضلون مرشحين أقل كفاءة على حساب أشياء أخرى لا علاقة لها
بطبيعة العمل!
بعد
انتهاء المقابلة، سألتني مديرة الموارد البشرية "ماذا يسمونكم" وأظنها
أرادت تجنّب كلمة قزم، ومعها حق فتلك لفظة مهينة! فقلت لها "عزيزتي، يسمّوننا
بأسمائنا؛ فللبشر أسماء كما تعلمين" فلم تفهم ما أردت قوله فكررت سؤالها مرة
أخرى!
هنالك
أشياء كثيرة محرجة ويصعب على صغار القامة التأقلم معها، كشراء الملابس والأحذية؛
دائماً أحاول – في أوقات خارج الذروة – البحث في محلات الأطفال على أحذية وملابس
تناسبني، وذلك لمحاولة التخفيف من تكاليف تفصيل الملابس الباهظة جدا وغالباً ما
تكون هذه المهمة رحلة مخيبة لإيجاد ملابس على الموضة.
السلالم
والأدراج مثلاً، يا إلهي، تخيّل نفسك تصعد ثلاث درجات دفعة واحدة وذلك يساوي درجة
واحدة فقط، هذه هي بالضبط معاناتي مع الأدراج.
المشي
بالطبع أبطأ بكثير من كل من يمشي بمحاذاتي، أما الجلوس على الكراسي، فالصعود عليها
يشبه دوران لاعب أولمبي قبل إلقاء القرص الصلب، وهي دائما غير مريحة وتسبب آلاماً
قاتلة في أسفل الظهر والقدمين اللتين تتدليان في الهواء دائماً.
الوصول
إلى الأشياء التي تكون مرتفعة، والأختناق عند الازدحام مع البشر الاعتياديين،
والنجاة من الدهس عشرات المرات لأن السائق لم يراك، والوقوف في طابور الصندوق دون
أن يراك الموظف أسفل الكاونتر، وقيادة السيارة، والجنس والزواج وغيرها كثير، كلها
أشياء صعبة تضاف إلى كل ما ذكر اعلاه.
ولكنني
لن أنسى أبداً ضحكات الطلاب والمعلم الهستيرية بعد أن أخبرتهم بهوية عدوي "كروموسوم
رقم 4"، لا شيء في الكون يضاهي الألم عندما يقلل أحدهم من إساءة عدوك لك،
ولكننا جميعنا نفعل هذا بطريقة ما، نحن البشر نفتقر إلى التعاطف مع أنفسنا.
حتى
أنا! أظن أنني فعلت ذلك يوم قللت من مأساة الإجتياح وما خلفه من مآسٍ في قلوب
الطلاب والمعلم واستبدلته بعدوي الأزلي "كروموسوم رقم 4."
حسين
خويرة
تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص للأطفال
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق